} يعيد كتاب "مذكرات كاهن في الأرياف" الى الذاكرة كتاب الأديب المصري توفيق الحكيم "يوميات نائب في الأرياف". لكن مؤلف المذكرات كاهن يكتب ما يشبه السيرة التي يلتقي فيها الفرد والمجتمع في رحلة الى الصعيد المصري تاريخاً وواقعاً. صاحب كتاب "مذكرات كاهن في الأرياف" الأنبا يوحنا قلته نائب البطريرك الكاثوليكي في مصر الآن، وهو نفسه الدكتور كمال قلته، والإسمان لشخص واحد. الأول هو اسمه الديني، والأخير اسمه المدني قبل ان ينتظم في سلك رجال الدين في مصر. ولد سنة 1937 في قرية من صعيد مصر، واستمر في دراسته المدنية حتى حصل على درجة الماجستير وكان موضوع رسالته: "أثر الثقافة الفرنسية في أدب طه حسين سنة 1984". والتقى طه حسين أكثر من مرة خلال إعداده هذه الرسالة. أما رسالة الدكتوراه فكان موضوعها: "دراسات المستشرقين الفرنسيين للشعر العربي"، درس فيها جهود ستين مستشرقاً تناولوا الشعر العربي في عصوره المختلفة. سبق له التدريس في أكاديمية الفنون في زمن رشاد رشدي، ودرس في الجامعة الأميركية في القاهرة من 1987 الى 1992. هذا عن كمال قلته المثقف والمعلم. أما كمال قلته المؤلف فصدر له: "الإنسان هو القضية" و"أرواح هائمة" و"تأملات في الإنجيل" وهو دراسة في الإيمان المسيحي 1999، وآخر كتبه قبل مذكراته هو "المسيح دعوة للحرية"، وفيه يحاول تقديم نظرة جديدة لشخصيته. وله رواية وحيدة هي "قرية غرب النيل" ويصف فيها القرية التي ولد وعاش فيها، مركّزاً على عنصر التوحد بين أقباط مصر ومسلميها من خلال وقائع الحياة اليومية في هذه القرية. وعندما كانت تحدث فتنة في هذه العلاقة على مستوى مصر، لم تكن تصل الى القرية البعيدة في قلب الصعيد الجواني. يقوم مشروع كمال قلته الفكري على ثلاثة أسس. الأول: ان بعض رجال الكنيسة الذين تحرروا من الجو الكنسي والتقاليد الكنسية قاموا بعملية تاريخية مهمة وهي نقل الحضارة الى قلب الكنيسة، وأخذوا الكنيسة الى جوهر الحضارة. والثاني: يقف ضد قبطنة الكنيسة المصرية، ويركز على عروبتها. والثالث: يخاطب الصفوة التي من المفترض أنها تقود المجتمع الى الأمام، ولا يفكر في الكتابة الى القارئ العادي، لأن محاولات التأثير في الصفوة تؤثر بالتالي في المجتمع نفسه بعد ذلك. كتابه الجديد "مذكرات كاهن في الأرياف" يخيل إليّ ان صاحبه كان يتمنى ان يسميه "يوميات كاهن في الأرياف"، لولا ان كتاب توفيق الحكيم الأشهر "يوميات نائب في الأرياف" أمّم الاسم لحساب صاحبه، فآثر ان تكون مذكرات وليست يوميات. يقول صاحب المذكرات ان الحياة تنسج التاريخ، والتاريخ ينبض بوجدان الإنسان، والمفكر يقدم الرؤية والحس والأمل. وبذلك نجد ان التمهيد أقرب الى التأملات الفلسفية لصاحب المذكرات. وعلى رغم ان المذكرات تكتب دائماً من خلال استخدام ضمير المتكلم "أنا" إلا ان صاحب هذا الكتاب يستخدم ضمير الغائب "هو". فهل الذي دفعه الى ذلك تفضيل طه حسين لهذا الضمير عندما كتب أيامه الشهيرة؟ كان يشير الى نفسه من بعيد وكأنه يكتب عن إنسان غائب، أو ان الدافع سببه ان الذي يكتب اليوم رجل دين يحتل منصباً قيادياً في الكنيسة الكاثوليكية المصرية، في حين ان الكتابة عن هذا الإنسان نفسه، ولكن عندما كان مدنياً يطلب العلم؟ الأمران كلاهما جائز. من الفصل الأول يحدد انه يكتب عن التاريخ لا عن الحاضر. فهو يستأذن القارئ في رحلة الى التاريخ والماضي. لعل في ذلك عبرة، ويعد القارئ بأن يكون صادقاً دقيقاً. ويقول له ان الأحداث المروية في هذه المذكرات وقعت بين عامي 1960 و1963. من السطر الأول في هذه المذكرات يكون بين يدي القارئ دليل الى ان الكاتب هو نفسه البطل. ثمة شواهد كثيرة، ولكن شاهد السطر الأول حاسم، إذ يقول: "استلم الكاهن الشاب 23 سنة خطاب التعيين من رئيسه. ولم يكن الأمر مفاجأة فقد تسرب خبر نقله من إيبارشيه القاهرة الى إيبارشيه المنيا". وعندما نعرف ان كاتب هذه المذكرات ولدَ سنة 1937، وأن الأحداث تبدأ في سنة 1960، نكتشف بعملية طرح بسيطة ان عمره في سنة 1960 هو 23 عاماً بالضبط. ثمة إشارات بعد ذلك في المذكرات منها ان الكاهن ينتظم في سلك التعلىم ويحاول الحصول على الماجستير والدكتوراه وهو ما كان حدث للمؤلف في أرض الواقع، قبل ان يحدث لبطل المذكرات في الكتاب المكتوب، بعد ذلك فعلاً. ثمة فارق جوهري في المسيحية بين الكاهن والراهب. فالكاهن من حقه ان يتزوج ويعيش حياته العادية. ولكن الراهب لحظة رهبنته يحصل على اسم جديد. ويكون الإنسان السابق على الرهبنة قد مات ودفن ونصبح أمام إنسان آخر، لذلك نجد في مسرحية لويس عوض الشهيرة "الراهب" بعض التلميحات الى توزع الراهب بين الرغبات الدنيوية وضرورات وضعه الجديد في سياق الرهبنة، وإن كان هذا لا يحدث للكاهن. يتسلم الكاهن عمله في قرية "بردنوها" واسمها عبارة عن لفظ قبطي قديم يعني المظلمة أو المخيفة وتقع في مركز مطاي أقصى شمال محافظة المنيا احدى محافظات صعيد مصر. والقرية يسكنها عشرة آلاف إنسان نصفهم من المسلمين ونصفهم الآخر من المسيحيين، وعندما يتذكر القارئ رواية الأنبا يوحنا قلته "قرية غرب النيل" وهو يقرأ مذكراته، يجد حلماً واحداً وإن كان ليس الهمّ الأساس في الرواية والمذكرات، ألا وهو أمنية ان تخلو المسيحية من توزعها على أكثر من مذهب. الحدث الأول في الرواية هو انتقال شاب من مذهب الى آخر، وفي المذكرات يكتب: "ان الشعب القبطي راضٍ بما قسم له. ان يعيش ممزقاً الى مذاهب. لا يعكر صفو الأشقاء إلا مجادلات مذهبية جوفاء. ولا يعدو أي اختلاف بينهما إلا يوم الأحد. حين يذهب كل الى الكنيسة التي يصلي بها. أو الى الكاهن الذي يرضى عنه - أقصد - ان يرضى المسيحي على الكاهن. والتنقل بين الكنيستين أمر عادي بين أفراد الشعب. ولكنه أمر يثير غضب الآباء الكهنة". وعلى رغم ان صاحب المذكرات كاهن، ورجل دين مهم، إلا ان المذكرات لا تخلو من الفكاهة. وفي هذه المذكرات استشهادات بأبيات من عيون الشعر العربي، وساعد الكاهن انه دارس سابق، بل وحافظ. ويجب ألا ننسى ان البابا شنودة يحفظ من تراث الشعر العربي ما يمكن ان يصل الى نصفه من دون مبالغة. كان الكاهن يحصل على تسعة جنيهات في الشهر، أي ثلاثين قرشاً عن كل قداس. ولا يقول عنها مرتباً ولكن يسميها حسنات القداس. ويسمي العباءة السوداء التي يلبسها "الفراجية" ولا يعرف الأصل اللغوي الذي جاءت منه الكلمة. فالزي الأسود لا يدل على الفرج. والقلنسوة على رأسه التي يقول عنها الناس "الكلوسة" وإن كان يؤكد ان هذه القلنسوة جعلت الناس تقول له أينما حل: زارنا المسيح. ويتوقف أمام لفظ خواجا الذي يطلقه المسلمون على الأقباط ويشرح ذلك: "ولفظ خواجا الذي أطلق على الأقباط لم يكن موضع سخرية بل كان إجلالاً وإكباراً. ولم يكن تمييزاً لهم عن إخوتهم المسلمين. بل كان إشارة الى من يعرف القراءة والكتابة. ولا يطلق لفظ خواجا على قبطي لا يقرأ ولا يكتب. ويعود الى الخلاف بين المذاهب في المسيحية. ويقول إن الخلاف حول العقيدة خلاف لفظي لا يمت للإيمان بصلة". القرية والناس يقول إن أهل القرية يحبون في الكاهن إتقانه الى الطقوس الدينية ونقاء سيرته وعطفه على الفقير والضعيف والأرمل. ويتعرف الكاهن الى الأستاذ جرانت خريج كلية الآداب قسم اللغة الفرنسية الذي يطرح على الكاهن فكرة الدراسة. وعندما يستغرب الكاهن ان يدرس بزيه الأسود وسط التلاميذ، يقول له ان سعد زغلول حصل على ليسانس الحقوق وهو في الأربعين. وأن الراهب الدومينيكاني الأب جاك جومييه حصل على الدكتوراه في الدراسات الإسلامية وهو راهب وكان موضوعها المحمل النبوي. وينجح الكاهن في الثانوية العامة ويلتحق بكلية الآداب في جامعة القاهرة قسم اللغة العربية، وكانت رئيسة القسم المرحومة سهير القلماوي. وكان من أساتذة القسم: شوقي ضيف وحسين نصار ويوسف خليف. ثمة إشارة في المذكرات تؤكد أنها مكتوبة في سنة 2001، وذلك عندما يقول المؤلف: "منذ أربعين سنة بالتمام والكمال أي في سنة 1961، وهذا يعني ان المذكرات مكتوبة في عامنا هذا. وإن كان من المؤكد ان في المذكرات معلومة غير صحيحة عن جمال حمدان صاحب "شخصية مصر". فهو يقول عنه انه تخلص من عبء التدريس في الجامعة وآثر الانطواء ورفض الأضواء وصراع المنصب وترهبن في شقته البسيطة، حتى يكتب كتابه عن "شخصية مصر". والذي جرى مع جمال حمدان غير هذا تماماً. فهو أجبر على الاستقالة من عمله عندما اعترض على ترقية من لا يستحق الترقية من زملائه الذين أصبحوا مسؤولين سياسيين مهمّين بعد ذلك". في هذه المذكرات يظهر العمدة القبطي، وضابط الشرطة الذي يتساءل عن شرب الخمر في الكنيسة، وخفير الكنيسة الذي يضبط الكاهن صاحب المذكرات وبطلها مفطراً وقت الصيام. فقد اكتشف في سكن الكاهن دجاجة مسلوقة. ولم ينقذ الموقف غير قط كبير تسلل الى السكن في غياب الكاهن وأكل الدجاجة ولم يترك سوى عظامها. إن هذه الواقعة تؤكد صدق صاحب المذكرات وإنسانيته. وهي ليست دروساً في الوعظ الديني، بمقدار ما هي محاولة للتصوير الإنساني الذي يعتمد الصدق والدقة. وكما بدأت المذكرات بنقل الكاهن من القاهرة الى الأرياف، تنتهي بعودته من الأرياف الى القاهرة، إذ ينطلق قطار الصعيد. ولا أدري لماذا المؤلف سمى كتابه البسيط والسهل هذا "مذكرات كاهن في الأرياف". ألم يكن من الأدق والأصدق تسميته: مذكرات كاهن في الصعيد؟