الأقباط في أرض الإسلام، تاريخ يعنى به الرسام والباحث محمود زيباوي بشفافية عالم شرقي يقينه في كتابه"الأقباط"الصادر حديثاً عن منشورات الطاولة المستديرة باريس في طبعة فنية فاخرة مرفقة بصور جميلة التقط معظمها زيباوي وأسبر ملحم. وتتجلى المسيحية المشرقية في كنائس الاسكندرية، وتأويلات اوريجنوس، وآباء الصحراء من النساك بعقائدهم الحكيمة، وتوحيدهم القديم، وعصرهم الذهبي البعيد كل البعد عن لاهوت روما، وبيزنطية، وجنيف. فالأقباط في عزلتهم"الوحشية"تعالوا على الامبراطوريات"المدنية"، والأمم والإيديولوجيات العبثية، وحفظوا حنينهم البدائي للإنجيل الأصل: الإنجيل الحافي الذي هو انجيل النسك والزهد والفقر! يرى محمود زيباوي ان كنيسة الأقباط هي كنيسة مصر التي تعبق بالأيقونات والابتهالات الدافئة، والمكتبات التي غفت على رفوفها كتب التوحيد، ومثلها مشاغل الفن والرسم والتجليد والزخارف. فكنيسة مصر يتجحفل فيها ملايين السياح، الذين في كل سنة يخاطبون فيها فراعنة الأهرام، وملوكها وعمالها وفلاحيها، يسألونهم عن لغز الحياة والموت وسر الخلود! فالكنائس القبطية"المجهولة"والمستترة تزهر في القاهرة وأسوان والعلمين والسويس بأجراس خفية وكهنة محجبين ومؤمنين كثر. ومما يراه زيباوي ان ابا الهول وسوفوكل، وإليهما الأهرام وأفلاطون، هي ألغاز أخصبت المتخيل المتوسطي القديم، الذي نمت فيه المسيحية المصرية. فالمسيحية المصرية مذ ترعرعت في ارض النيل، حملت الى الثقافة الفرعونية، ثقافة اليونان، ومجد الأسكندر الذي قارب تاريخه ملحمة من ملاحم التاريخ، غطت على احداثه ووقائعه. فعهد البطالسة الذي حافظ فيه المصريون على توفيقية بين الثقافة الفرعونية والأخرى اليونانية، اخذ في نهاياته ما عدّه توفيقياً، إذ هجر المصريون ابجديتهم التوفيقية، وأخذوا بالأبجدية اليونانية ولغتها. هذا ما فعله الأقباط، الذين ابقوا على حروف سبع من اللغة الهيروغليفية، بعدما صارت اليونانية لغتهم. وحافظ الأقباط على ابجديتهم التي حملها الاسكندر ولو أن مصر بدأت تتحول الى التعريب. وعليه فإن المؤرخ الذي يود العودة الى الجذور الثقافية والفرعونية لمصر الضاربة في القدم، صارت محتومة عليه العودة الى التراث القبطي، وقد حفظ أصوله التي تعود الى الفراعنة. فلولا هذه الذاكرة القبطية لأنكرت مصر ما أوغل في القدم، ولاستحال على شامبوليون ان يخترق سر الحجر"الوردي"، حجر"روزيت"وقد حفظ للمؤرخين وعلماء الآثار ألغاز الكتابة الأولى ومعها أبجديتها. الحفريات الأوروبية التي يؤرخ لها محمود زيباوي تعود به الى العام 1880 إذ يشهد العلماء ان حفرياتهم فاقت كل توقّع في واحات الفيوم، وفي مصر العليا. فالأقباط كما يشير المقريزي في"الخطط"تركوا لنا اول بردية كتبت بالعربية في مصر، وكانت بقلم حنا العمدة والشماس وابي حديدة. فالأقباط في مصر القديمة ظلوا صنّاع الورق البردي والمداد والمحابر والأقلام ومقصات البردي. ولما كتب بيتر براون"المجتمع والمقدس في العصور القديمة"، أكد النزاع بإزاء الصورة والأيقونة، ورأى ان الصورة ومثلها الأيقونة تجسيد فني يتوسط في المعتقد المسيحي اللامرئي الذي بين الأرض والسماء. ولما قام الامبراطور ليون الثالث سنة 725م. بتدمير صورة المسيح التي كانت فوق الباب البرونزي للقصر الامبراطوري، اندلعت"حرب التصوير والأيقونات". وقال الرسامون ان"الكلمة"لما تحققت في الناسوت وحلّت في الجسد، اتخذت شكلاً عينياً قابلاً للالتقاط. هذا الشكل العيني يؤرخ لكثير من الأيقونات القبطية، تحكي فنون مصر المسيحية التي لا يزال علماء الآثار ينفضون عنها ما علق بها من غبار حجب أعماقها الدفينة والمستترة. الأقباط في الضفة الأخرى من المتوسط لم يُحرجوا من وافد ثقافي هلليني ألهم صنّاعهم من النحاتين والرسامين والنساجين في الأخذ عمّن كان وثنياً وحمل إليه أساطير ديونيزوس وأريان وأفروديت وأبوللون وأوروفيوس وهيراقليطس وديانا. ويردنا زيباوي الى زمن الفتوحات التي أسبغت على مصر طابعها"العربي"بعيداً من تاريخها الفرعوني، وإشراقاتها الفلسفية واللاهوتية التي ضجت بها اروقة الاسكندرية بتأثيرات يونانية ورومانية، قبل ان تخفت وتدخل في مدارات الإسلام، وتعاقب الطولونيين والمماليك والفاطميين والعباسيين والأتراك والفرنسيين والإنكليز. هذا التاريخ الموغل في القدم، والضارب في عمق البوادي وصمتها، هو ما يحاول محمود زيباوي استنطاقه، وهو ما شغل طه حسين قبله في"مستقبل الثقافة في مصر"، إذ قال إن مصر المتوسطية هي مصر الفرعونية واليونانية، التي رفعت منارات الحكمة والعقل، حتى ضج العالم بلاهوت أروقتها التي كانت تغفو فوق رمال الاسكندرية ودفء شواطئها. أمينة غصن * يوقع محمود زيباوي كتابه"الأقباط"في مكتبه"ابن سينا"في باريس، قرب جامعة جوسيو، اليوم السبت، بدءاً من السادسة مساء.