عاد العراق إلى واجهة الأحداث على شكل أزمات ثقة داخلية للدول التي تحالفت لشن حرب عليه. فبينما يستعد رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير لمواجهة لجنة تحقيق برلمانية بسبب تقديمه حججاً "غير صحية" لتبرير ضرب العراق، ينكب خبراء حملة جورج بوش الانتخابية المقبلة على درس انعكاسات الاتهامات بالكذب والتلاعب بالمعلومات في ما يتعلق بامتلاك العراق أسلحة دمار شامل، على إعادة انتخابه. لكن المنقبين عن أكاذيب الإدارة الأميركية ومتتبعي ادعاءات التزوير البريطانية لا يقولون شيئاً جديداً بالنسبة الى ما سبق واعلنته وسائل الاعلام في العالم، خصوصاً في الولاياتالمتحدةوبريطانيا، ذلك انه باستثناء بعض الوسائل المسيّرة مثل مجموعة ميردوخ التي يبدو أنها ستدفع ثمناً غالياً لغدرها بثقة قرائها وضغوطها على محرريها لدعم موقف كل من لندنوواشنطن، فإن معظم الوسائل الإعلامية كانت نبهت الى أن الحجج التي يقدمها الداعون لشن الهجوم على العراق كانت سطحية وغير جدية. ولا يطرح هذا مسألة صدقية الإعلام العالمي بمختلف مشاربه، بقدر ما يطرح صدقية المطالبين بكشف الحقائق وتشكيل لجان تحقيق صوناً للحياة السياسية في البلدين. ولكن يثير هذا مسألة قوة الإعلام ومقدرته على تغيير مجرى الأمور والتصدي للأخطاء قبل حصولها، وليس فقط حمل قميص الفضائح والبناء حوله وعليه واستثارة مشاعر المواطنين بعد خراب...البصرة. ان الأسئلة التي تطرحها هذه المسألة كثيرة ومتعددة ومنها: لماذا لم تستطع وسائل الإعلام على رغم وجود معارضة قوامها ما يزيد على 90 في المئة من الدول في العالم اضافة الى معارضة شعبية واسعة جداً، التأثير على واشنطنولندن وردعهما عن شن حرب على العراق؟! ولماذا لم يكن بإمكان الوسائل الإعلامية العالمية، على رغم وضعها نصب عيون الرأي العام العالمي الدلائل الواضحة والمعلومات الصحيحة حول عدم شفافية سياسة الدول المتحالفة للحرب، دفع المسؤولين في الدول المتحالفة إلى التراجع أو إلى تبرير مخالف للتبريرات التي قدمت والتي تبين عدم صلاحيتها وتلونها بالأكاذيب؟ كيف أمكن لمسؤولي دول كبرى بريطانياوالولاياتالمتحدة خصوصاً تعتبر أن وسائل الإعلام تشكل الدعامة الأساسية لنظامها الديموقراطي، تجاهل قوة الزخم الإعلامي المعارض للحرب، لا بل التلاعب بالمعلومات التي قدمت له والاستخفاف بتعليقات الوسائل الإعلامية التي انتقدت المعلومات المزيفة؟ في الواقع أن تراجع حدة السلاح الإعلامي وتأثيره على القوى الحاكمة في كل من الولاياتالمتحدةوبريطانيا يعود إلى نيف وعشر سنوات، وأسبابه كثيرة ومتنوعة منها تغير الهيكلية الصناعية للإعلام ودخول العنصر التمويلي في استراتيجيات المؤسسات الإعلامية الكبرى، ومنها لهاث بعض الوسائل الإعلامية وراء الأخبار الطنانة التي تستجلب الإثارة والتشويق، ما نزع عنها صفة الرزانة. كما أن التحول الذي يشهده العالم منذ 11 أيلول سبتمبر كان له دور كبير في "تشجيع" السلطات الاميركية على "التطاول" على سلطة الصحافة والكذب عليها بحجة "الأمن القومي". وجاءت سلسلة القرارات والقوانين التي وضعت في سياق الحرب على الإرهاب وحماية الأمن القومي، لتبتلع قسماً من قوانين الحرية الفردية وتأتي على حيز واسع من الممارسات الدستورية التي كانت تكفل حرية الوصول إلى المعلومات الحكومية وتمنع السلطات من "الكذب" على المواطنين. مع بداية مرحلة ما بعد هجوم نيويورك بدا للجميع أنه من حق الولاياتالمتحدة التصدي بكل السبل للارهاب الذي ضربها في عقر دارها. وأيدت نسبة كبيرة من الاميركيين معظم الاجراءات الأولية التي اتخذتها الإدارة. كما أيدت نسبة كبيرة من شعوب العالم التوجه الأميركي المتشدد في الأمور الأمنية وحتى في التوجهات السياسية المتقاربة منها. وفي خضم هذا التعاطف مع الاجراءات الأمنية المتشددة ارتكبت الصحافة الأميركية "خطيئتها الأولى" وتركت جانباً موضوعيتها وميلها الى النقد والانتقاد والتشكيك بعمل السلطات الأمنية خوفاً من التصدي للموجة الشعبية التي صدمتها أحداث 11 أيلول. فباستثناء بعض الاصوات المعارضة والمنبهة الى المنزلق الامني الذي تُحشر فيه الحريات الفردية، والتي بدت وكأنها نشاز في جوقة التأييد والاستنكار، شاركت وسائل الاعلام في جوقة استنكار الإرهاب متناسية هيكلية التعدي على الحريات الفردية التي تصب في سياق محاربة الارهاب. وبدا وكأن أي انتقاد لكبت الحريات الفردية هو تأييد للإرهاب! وهنا ارتكبت الصحافة الأميركية "خطيئتها الثانية" بعدولها عن التعبير بشجاعة فكرية عن مخاطر السقوط في فخ الإرهاب الذي ربح الجولة الأولى، ليس بضرب برجين، بل بضرب هيكلية النظام المبني على حماية الحريات الفردية وعلى الديموقراطية. أما خارج الولاياتالمتحدة، فكانت مواقف الصحافة بشكل عام أكثر رزانة من الصحافة الأميركية، غير أن تهديد الرئيس بوش الذي جاء على شكل شعار "من ليس معنا فهو ضدنا" اعطى بثماره وكبّل عقول الكثير من الوسائل الإعلامية وربط ألسنتها النقدية. أما الإعلام الذي لم يخضع لعملية الترهيب وتابع مهمة التنبيه إلى مخاطر التضحية بالقيم في سبيل انتقام أعمى، من ارهاب أعمى مثل بعض وسائل الإعلام العربية والأوروبية، خصوصاً الفرنسية، فقد صنفت في عداد الإعلام المناوئ مرضياً لأميركا. وفي بريطانيا المشهورة بصلابة تحقيقات وسائل إعلامها وصدق تحليلاتها، توالت اصوات غالبيتها من خارج حلقة صحافة روبرت ميردوخ المهيمنة على الصحافة البريطانية. وعلى رغم ذلك فان غالبية البريطانيين كانت، قبل اندلاع الحرب غير مؤيدة للحرب، وكان غريباً جداً التفاوت بين مواقف وسائل الاعلام التي بدت وكأنها مؤيدة للحرب عبر تقديمها تحليلات مبنية على معلومات الحكومة والأوساط الاستخباراتية، والتي تبين اخيراً أنها وإن لم تكن مزيفة بنسبة مئة في المئة فهي كانت مزيفة بنسبة عالية جداً. ويجد رئيس الوزراء البريطاني نفسه محشوراً باستجوابات تتعلق بتضخيم حكومته أخبار امتلاك العراق اسلحة دمار شامل بهدف دفع مجلس العموم للقبول بخوض حرب. ويقول خبراء تواصل وعلاقات عامة أن بلير يجد نفسه في حلقة ستضيق عليه وربما تخرجه من الحياة السياسية، ليس بسبب وجود أو عدم وجود أسلحة دمار شامل بل بسبب سقوط هالة الثقة المرتبطة بأهل الحكم في الأنظمة الديموقراطية خصوصاً في بلد عريق بديموقراطيته كبريطانيا. ويمكن القول أن الخطأ الكبير الذي ارتكبته الحكومتان المتحالفتان لا يكمن في استعمال الكذب للوصول إلى أهدافهما، بل نوعية الكذبة التي استعملت في عملية التواصل لاقناع الشعوب والطبقة السياسية بضرورة الحرب. ذلك أن علم التواصل يميز بين الكذب المادي والكذب غير المادي. فالأول مبني على أمور مادية يمكن لمسها أو البرهان على وجودها، بينما النوع الثاني، وهو الاكثر استعمالاً في السياسة وعمليات التواصل، فهو مبني على ما هو غير قابل للبرهان مثل الوعود والخطط المستقبلية، كما يمكن أن تكون الاكذوبة من نوع الطروحات السياسية - الفلسفية التي خبرها اليسار في شتى أنحاء العالم، أو طروحات الليبرالية والديموقرطية كتلك التي استعملتها واشنطن مع دول أميركا اللاتينية حين كانت تدعم أنظمة هي أبعد ما تكون عن كل ما تدعي التدخل لحمايته من أفكار وسياسات. الا ان مختلف أنواع الطروحات تظل قابلة للتأويل والتعليل، فمهما دارت الأيام يستطيع مطلق "الاكذوبة التواصلية" الخروج منها على أساس تفسيرات وتلاعب كلامي يقال عنها حنكة سياسية. غير أن واشنطنولندن ومعهما دول انجرت وراءهما استعملتا الكذب من النوع الأول الذي يتطلب في نهاية الطريق مهما كانت طويلة براهين حسية. فبعد أسابيع على دخول بغداد وانهيار نظام صدام حسين، والسيطرة المطلقة على أرض الرافدين، ما زالت سلة البراهين حول أسلحة الدمار الشامل خالية! ومهما قيل عن شوفينية الشعب الأميركي وحب الوطن لدى الشعب البريطاني أو الشعب الاسباني، وهي الدول التي كانت في مقدم الداعين الى شن حرب لتجريد العراق من أسلحة دمار شامل مفترضة، فإنها قبل كل شيء شعوب لا يمكن وصفها بالغباء. وهي أدركت أنها كانت ضحية حملة تواصلية إعلامية إعلانية تمت لتسويق شيء لا أساس له من الصحة. وتتملك الشعوب التي غُبِنت من حكوماتها مشاعر السخط والاستياء، مثلما يحصل عندما يدرك المستهلك أن الترويج الإعلاني لسلعة ما كاذب، وأن مواصفات السلعة غير مطابقة للحملة الإعلانية، وأنه ضحية غش إعلامي. ودوافع الشعور بالسخط ليست دفاعاً عن ظلم أصاب العراق أو شعبه أو حباً بصدام كما يحاول بعض وسائل الإعلام المقربة من مجموعة ميردوخ تصويره. وعلى رغم أن الاحتلال سمح بالتخلص من نظام أرهق العراق وشعبه، وعلى رغم أن اكتشاف مقابر هي نتيجة المجازر الجماعية التي نفّذها النظام السابق يجب أن يخفف من شعور الحنق، الا أن المسألة التي تقلق الرأي العام بشكل عام هي صدقية الحاكم الذي توكل اليه مسؤولية القيادة ومصير الأوطان. فالصدقية هي القاعدة الأساسية التي تقوم عليها الديموقراطية في البلدان التي ادرك الرأي العام فيها ومعه الجسم البرلماني أن السلطة التنفيذية خانت عهد الثقة هذا. وتلعب وسائل الإعلام في النظام دور المؤطر لرقابة السلطة التنفيذية وعمل الحكومات. وهي بدت كأنها، عوضاً عن القيام بدورها الرقابي إما سقطت بدورها في الفخ التواصلي الذي نصبته كل من لندنوواشنطن، واما أنها شاركت في العملية التواصلية "لبيع الحرب" للرأي العام العالمي خصوصاً في البلدين المعنيين اكثر من غيرهما بالمسألة. وقد يتأخر ظهور تأثير هذه المسألة على العلاقة بين الرأي العام والإعلام إلا ان هذا التأثير آت لا محالة. وأدركت وسائل الإعلام الأنكلوسكسونية خطر "الشقاق" بينها وبين الرأي العام، وفقدان الثقة الذي يساهم في تراجع تأثيرها على الاحداث، ويسارع بتحويلها الى مجرد ابواق اعلانية او ناقل معلومات مجردة من أي تحليل، ولا يترك لها الا الانتقال الى دور مصور الاحداث الاجتماعية. لذا فهي تسارع الى تلقف الكرة التواصلية في عملية تسليط الضوء على عملية التلاعب التي قامت بها واشنطنولندن في محاولة لاسترجاع زمام المبادرة الاعلامية وحشر من حشرها في زاوية "شاهد الزور الاعلامي"