خرجت الصحافة العراقية "تبشر" العالم بأن الرئيس العراقي صدام حسين حصل على 100 في المئة من الأصوات في الاستفتاء الذي جرى اخيراً على ولاية جديدة له. لكن بغض النظر عن حالة الحرب التي أعلنتها الولاياتالمتحدة على العراق ونزاع بغداد مع الأممالمتحدة والجدل الذي يدور حول عودة المفتشين إلى العراق، أو أسلحة دمار شامل، فإن رقم مئة في المئة، كنتيجة إحصائية، هو بحد ذاته مثير للجدل لا بل للسخرية من الناحية الإعلامية التواصلية. ذلك أن الرقم العجيب 100 الذي يعني حسابياً أن "جميع المشاركين في الاستفتاء" صوتوا لمصلحة تمديد ولاية الرئيس صدام. أي بعنى آخر انه لم تُوجد أي ورقة غير صالحة ولا ورقة واحدة وأنه وهو المهم إعلامياً وإعلانياً لم يُوجد أي معارض بين الناخبين الذين بلغ عددهم 5،11 مليون ناخب، حسب بيان نائب الرئيس عزة إبراهيم وهو أيضاً رئيس الهيئة العليا المشرفة على الاستفتاء. ويبرز بكل سهولة الهدف الإعلامي الأول من وراء إعلان مثل هذا الرقم، خصوصاً في سياق ما يدور حول العراق ومحاولة واشنطن التخلص من النظام القائم... بالقوة. ويعتقد القيمون على شؤون "التواصل العراقي في الخارج" أن هذا الرقم 100 يشكل جواباً لا غبار عليه على الحملة القائمة على النظام. ويعني أن "كل الشعب العراقي" مع النظام. قد يكون قسم من الشعب العراقي مؤيد لتجديد ولاية الرئيس صدام. وقد نجد غالبية تؤيد التجديد له ما يتجاوز 50 في المئة، ويمكن أن تكون هذه الأكثرية كبيرة فوق 65 في المئة. كما يمكن لها أن تكون ساحقة ما بين 75 في المئة و95 في المئة، لكن لا يمكن حسابياً التوصل إلى رقم يعادل 100 في المئة والذي يعني عدم وجود أي هامش للخطأ، أي عدم وجود أوراق بيضاء أو عدم وجود أي صوت معارض، وأخيراً عدم وجود أي مريض يوم الاستفتاء يتخلف عن الإدلاء بصوته! وهذا الأمر مستحيل حسابياً ولا يمكن أن يحصل في أي ظرف عادي طبيعي، خصوصاً عندما يكون الجسم الانتخابي مؤلفاً من عدد كبير جداً من الأشخاص 5،11 مليون ناخب حيث ترتفع نسبة احتمالات المرض أو الوعكة الصحية أو عدم القدرة على التوجه الى صناديق الاستفتاء لسبب ما، بين الملايين التي تؤلف أعضاء الجسم الانتخابي، حتى وإن أردنا الابتعاد عن الجانب السياسي حيث من غير المعقول ألا يكون هناك أي معارض واحد بين 5،11 مليون عراقي. وفي علم الاحصاء، يمكن الحصول على نسب عالية كلما انخفض عدد المشاركين في العملية الانتخابية. كأن يكون مثلاً عدد الجسم الانتخابي في جمعية عمومية أقل من عشرة أشخاص وفي حال صوّت الأشخاص العشرة لمصلحة قرار ما يكون التصويت بالإجماع وعندها يمكن استعمال الرقم العجيب 100 في المئة. لكن كما تشير الدراسات الإحصائية فإن "حظ" الوصول إلى الإجماع يتراجع بنسبة مرتبطة بشكل مباشر بارتفاع عدد المشاركين في الانتخاب أو التصويت أو الاستفتاء، لأسباب بديهية إضافة الى أسباب حسابية تتعلق بعلم الاحتمالات التي لا مجال للتوسع بها هنا. غير أن بديهية النظرية هذه لا يمكن أن تغيب عن المنطق السليم. فكلما ارتفع عدد المشاركين يرتفع عدد احتمالات حصول عوامل مضادة للحصول على الإجماع وتسمى "عوامل مناكِفة"، ومنها على سبيل المثال: وقوع أخطاء في أوراق التصويت مما يجعلها لاغية أو احتمال غياب ناخب عن العملية لأسباب صحية أو عملية أو بسبب السفر أو بسبب غياب الرغبة بالمشاركة. ويكفي حصول عامل واحد من هذه العوامل كي تبتعد النتيجة عن رقم المئة في المئة! من الواضح ان هذه النتيجة التي حصل عليها الرئيس صدام هي الأعلى التي يحصل عليها رئيس جمهورية، و"أرادها" الحكم العراقي كي تكون "رداً على رغبة واشنطن في تعيين حاكم عسكري أميركي للعراق" وبرهاناً على "ثبات ولاء العراقيين لوطنهم ضد التهديدات الأميركية". غير أن هذه الاستراتيجية الإعلامية يمكن أن تنقلب، وبسهولة جداً، على الذين يقفون وراءها وأن تصب في مصلحة واشنطن وتضاعف الحجج الداعمة لاتهامات الادارة الأميركية للنظام في بغداد بالديكتاتورية. ومن المستبعد أن يجهل القيمون على عملية التواصل بديهيات علوم الإحصاء وقواعد العمليات الحسابية السهلة التي تقوم عليها عملية الاستفتاء. لذا فإن عمليات "الماكياج" تعتمد علم الألسنية والتلاعب بالكلمات وبطرق تقديم النتائج. فيقول بيان الهيئة المشرفة على الاستفتاء "إن نسبة المشاركة بلغت 100 في المئة من مجموع المقترعين البالغ عددهم حوالي 5،11 مليون ناخب". ونرى هنا أن البيان يُدخل عاملاً جديداً يزيد من ضبابية النتيجة من دون أن يتخلى عن الرقم السحري 100 في المئة، وهو كلمة "مشاركة"! والفارق كبير بين "المشاركة" و"التصويت" مع أو ضد حتى ولو كان الاستفتاء يتم حسب قاعدة "المشارك يساوي مؤيد" ويوجد اسم واحد استفتاء على اختيار رئيس من قبل هيئة اختيارية. ويمكن القول ان كلمة "مشاركة" تشكل مفتاح العملية التواصلية التي بنت عليها الحكومة العراقية عمليتها الإعلانية. ذلك أن مشاركة نسبة عالية من الناخبين أمر معقول ومعروف في بعض الديموقراطيات الكبرى التي تجبر قوانينها الانتخابية الناخبين على المشاركة تحت طائلة الجزاء والغرامة لوكسمبورغ وبلجيكا وبعض المقاطعات السويسرية والألمانية. ولكن حتى في هذه الحالات من الصعب أن تبلغ النسبة 100 في المئة. وفي الحالات التي يكون فيها الاستفتاء أحادي النتيجة أي مطلوب التعقيب الشعبي الإيجابي على قرار الهيئة الانتخابية من دون إفساح المجال لرفضه الحال العراقية يمكن في بعض الأحيان أن تقترب نسبة المصوتين المؤيدين من نسبة المشاركين ويكون الفارق هو نسبة الأوراق البيضاء تعبر عن شجب الاختيار الأساسي إضافة إلى الأوراق الملغاة لسبب ما ممزقة أو تحوي إهانات أو مخالفة لنظام الانتخاب أو الاستفتاء. وحتى في هذه الحال لا يمكن أن تكون لا نسبة المشاركين ولا نسبة المؤيدين قريبة من رقم 100 في المئة. لكن استعمال كلمة "مشاركة" والتشديد عليها يفسحان المجال أمام تلاعب بقوة الزخم الإعلامي للنسب المعلن عنها. وفي بعض الأحيان تُستعمل كلمة "مشاركة" ونسبة "100 في المئة" في مجالات الإعلام والإعلان على شكل "فخ كلامي" يكون المؤهب لنجاحه هو المنطق! كأن يقال ان 100 في المئة من الرابحين شاركوا في اللعبة! فهذه العبارة "المنطقية" التي لا يمكن اتهام من يقف وراءها بالكذب الإعلاني هي في الواقع ما يمكن تسميته ب"إعلان بديهيات". فمن الطبيعي أن يكون الرابح لجائزة ما مشاركاً في اللعبة التي أعطته الجائزة. والقوة التواصلية لعبارة مثل هذه هي "الإيجابية الكامنة في المبنى السيميائي" فهي تحوي الرقم السحري 100 في المئة أي "الجميع" وكلمة "رابحين" وكلمة "مشاركة" وهي تدعوا المُخاطب للمشاركة وكأنها تقول له لا مجال للخسارة. على رغم أن المنطق يقول العكس والحقيقة التي لا تقولها العبارة الإعلانية - الإعلامية هي: أن الرابحين لا يمكن أن يشكلوا 100 في المئة من المشاركين في اللعبة بينما لا يمكن أن يربح إلا المشارك في اللعبة، إذاً 100 في المئة من الرابحين كل الرابحين هم مشاركون في اللعبة!! قد تكون أهداف القائمين على الإعلام العراقي غير تلك التي تتبادر إلى الذهن، ولكن مهما كانت هذه الأهداف فإن استعمال رقم 100 في المئة بالشكل الذي تم فيه هو سحر لا يمكن إلا أن يرتد على ساحر. فالإعلان عن وقوف شعب كامل وراء زعيم، مهما كان دوره التاريخي، لا يمكن إلا أن يترك أثراً سلبياً في هذا العصر، عصر التنافس والتناحر والسباق لكسب الأولية. فقد ولى عصر الإجماع والتوافق ليس فقط في المجال السياسي بل في كل المجالات. ودخل عنصر المنافسة إلى لب المؤهبات التي تدفع الانسان للعمل أو لتأييد فكرة أو قائد أو زعيم. قد يكون استعمال "سلاح المئة في المئة" موجهاً الى الجبهة الداخلية العراقية لزيادة لحمتها في مواجهة حرب أميركية متوقعة، لكن قلة فعاليته لأسباب منطقية بديهية كما رأينا يمكن أن ترتد سلبياً على ثقة العراقيين بشكل عام، وأن ينسحب تراجع الثقة على مجمل العملية التواصلية الإعلامية الكبرى التي يستعد العراق لمواجهتها في الأسابيع المقبلة إلى جانب العمليات العسكرية. وهي ترتد سلبياً أيضاً على الحملة الإعلامية التواصلية التي قامت بها السلطات العراقية منذ أيام قليلة بدعوتها صحافيي العالم لزيارة المصانع التي تقول واشنطن إنها مصانع أسلحة دمار شامل. وقد سجلت خلالها مجموعة من النقاط الإيجابية من خلال إفساح المجال أمام وسائل الاعلام للكشف على المواقع والتجول فيها. وقد استغل العديد من الصحافيين زيارتهم لبغداد لتغطية الاستفتاء، وعوضاً عن الاستفادة من هذا الحضور الإعلامي العالمي للخروج بنتيجة "مقبولة منطقياً" لتسجيل نقاط إيجابية في سجل "ديموقراطية الاستفتاء" جاء الرقم العجيب 100 في المئة ليشكل ضربة للحملة الإعلامية العراقية ويلغي الإيجابيات التي شكلها قبولها بعودة المفتشين وفتح أبواب مصانعها أمام البعثات المختلفة، ومنها الاعلامية. وتشكل كل هذه النقاط السوداء في العملية التواصلية الإعلامية العراقية معوقات في صراع بغداد مع واشنطن خصوصاً في الصراع الشخصي بين صدام حسين و"عائلة" بوش. فجورج بوش الاب كان رئيساً خلال حرب 1990 وعلى رغم ترؤسه التحالف الدولي وربحه حرب تحرير الكويت فهو خسر انتخابات الرئاسة الأميركية ولم يحصل على تجديد ولايته. اما بوش الابن فوصل إلى سدة الرئاسة بفارق أصوات قليلة في انتخابات سادها تشويق وإثارة شدا مئات الملايين من المشاهدين أمام شاشات التلفزيون يتابعون معركة صناديق فلوريدا. وفي المقابل ليس من المستغرب أن يؤدي إعلان نتيجة المئة في المئة لمصلحة منافس لا منافس له الى اثارة الملل. ففي عصرنا الحالي فإن الممل رديف اللامبالاة التي تشكل العدو الأكبر لأي عملية تواصلية إعلامية