اذا كان هناك قائد اسرائيلي يمكن ان ينسب اليه مشروع الاستيطان اليهودي في الضفة الغربية وقطاع غزة وهضبة الجولان السورية المحتلة وحتى في سيناء المصرية حتى سنة 1984، فهو ارييل شارون. واذا كان هناك قائد اسرائيلي يسجل عليه انه كان اول من هدم مستوطنة يهودية بيديه، فهو ايضاً ارييل شارون. المستوطنون اليهود يتساءلون اليوم: من هو شارون الحاكم؟ هل هو باني المستوطنات ام هادمها؟ على رغم ان النزاع الاسرائيلي - الفلسطيني يتجاوز بكثير قضية الاستيطان اليهودي في الضفة الغربية وقطاع غزةوالقدسالشرقيةالمحتلة منذ العام 1967، الا ان هذا الاستيطان يشكل الاختبار الحقيقي الاول لصدق نيات رئيس الوزراء الاسرائيلي ارييل شارون وحكومته ازاء التسوية. فالفلسطينيون يعتبرون هذا الاستيطان، وبحق، دليلاً على الرغبة الاسرائيلية في تخليد الاحتلال واعطائه الطابع الاستعماري المطلق. فيما تتخذ الدول الغربية، بما في ذلك الولاياتالمتحدة، موقفاً اجماعياً ضد الاستيطان وتعتبره غير شرعي. بل ترى فيه العقبة الحقيقية امام التسوية. وبات من المفروغ منه ان تزال هذه المستعمرات، كشرط لأية تسوية. وهناك نقاش حاد حتى داخل المجتمع الاسرائيلي نفسه حول الاستيطان. ويرى حوالي 60 في المئة من اليهود في اسرائيل ضرورة اخلاء معظم المستوطنات في اطار اية تسوية سلمية ثابتة. ومع ذلك، نجد ان مجرد الحديث عن تجميد البناء الاستيطاني يثير ازمة في اسرائيل. فكم بالحري عندما يتحدثون عن ضرورة ازالة هذه المستعمرات او بعض منها؟! لا بل ان طرح الاستيطان على بساط البحث في اسرائيل، اشعل ضوءاً احمر لدى اجهزة الامن الاسرائيلية، اذ ادركت ان شارون بات في خطر حقيقي على حياته، خصوصاً بعدما استخدم كلمة "احتلال" للمرة الاولى في نهاية الشهر الماضي وكشف بواسطة أحد اخلص اصدقائه، رئيس الكنيست روبي رفلين، انه اي شارون ينوي ازالة 17 مستعمرة ثابتة في الضفة الغربية عند التوقيع على اتفاق اقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، ما دفع المستوطنين الى شن حملة تصعيدية ضده رافعين الشعارات امام مكتبه بالصورة والصوت: "شارون يا خائن". خريطة الاستيطان قبل الخوض في تفاصيل النقاش السياسي حول الموضوع، لا بد من اعطاء صورة عن حجم هذا الاستيطان وتركيبته. لقد أقيمت المستوطنة اليهودية الاولى بعد احتلال 1967 في مدينة القدسالشرقية عندما قامت جرافات الاحتلال بهدم حي المغاربة بكامله وترحيل اصحاب البيوت عن بيوتهم واخلاء معظم السكان الفلسطينيين من الحي اليهودي، فانفتحت الطريق عندئذ امام اليهود للمجيء والاستيطان أينما يشاؤون. في البداية قامت موجة احتجاج عالمية ضد هذه المستوطنات، ولكنها سرعان ما تحولت الى تقليد اعتاد الناس عليه ولم يعودوا يخوضون المعارك ضده الا نادراً. خلال هذه الفترة 1967 وحتى اليوم تم بناء 291 مستوطنة في الضفة الغربية وقطاع غزةوالقدسالشرقية، يسكن فيها حوالي 460 الف مستوطن يهودي. وتقسم هذه المستعمرات الى ثلاثة اقسام هي: اولاً: الاستيطان في القدس، وقد اصبح شبه منسي. فمع ان القدسالشرقية هي جزء لا يتجزأ من الاراضي المحتلة العام 1967، الا انها لا تذكر تقريباً في وسائل الاعلام. فهي تعاني الامرين من جراء السياسة الرسمية الاستيطانية. في البداية هدمت اسرائيل حيّاً ما ادى الى ترحيل سكان حي ثان. ثم بنت 11 حيّاً استيطانياً يهودياً جديداً داخل القدس. وراحت تصعّب وتعرقل عودة اي فلسطيني يغادر القدس لاي سبب كان تعليم، تجارة، سياحة، او السفر للقاء قريب طال غيابه، والهدف تقليص عدد العرب في المدينة المقدسة قدر الامكان. ويقدر عدد المستوطنين في القدس العربية المحتلة بحوالي 200 الف نسمة عدد الفلسطينيين في المدينة يقارب ربع مليون نسمة، لكن اسرائيل تخفض العدد الى 45 الفاً. ثانياً: هناك الاستيطان العالمي الذي ينتشر في كل انحاء الضفة الغربية وقطاع غزة، وحيث يبلغ عدد المستوطنات 160 مستوطنة، يسكنها حوالي ربع مليون نسمة. وهذا الاستيطان الذي يعتبر حسب القانون الاسرائيلي شرعياً. ويعمل بشكل منظم ويديره مجلس اعلى للمستوطنات، ويعتبر القاعدة الجماهيرية لحزبين يمينيين اساسيين في الحكومة الحالية احدهما حزب المفدال الديني القومي ويرأسه وزير الاسكان ايفي ايتام، والاتحاد القومي برئاسة وزير البنى التحتية، افيغدور ليبرمان، وهما يقطنان في المستوطنات. ثالثاً: النقاط الاستيطانية الجديدة نسبياً والتي تم بناؤها ابتداء من سنة 1996 رداً على العمليات التفجيرية الفلسطينية. ويبلغ عددها حالياً 20 مستوطنة يسكنها حوالي 200 عائلة لا اكثر. لكنها تعتبر غير شرعية كونها بنيت من دون ترخيص حكومي. وهذه هي التي تطالب الولاياتالمتحدة بإزالتها فوراً، بدعوى انها غير قانونية. لكن قادتها يؤكدون انها "قانونية"، ويقدمون دليلاً على ذلك بأن عدداً من المسؤولين الحكوميين الكبار ساعدوهم على بنائها وعلى حمايتها ويؤكدون ان حراسها المستوطنين المسلحين يعملون بالتنسيق الكامل مع قوات الجيش فيها. النقاش السياسي يدور في اسرائيل نقاش سياسي متواصل منذ العام 1967 حول الاستيطان، بين مختلف الاوساط والاحزاب السياسية. فالمؤيدون يعتبرونه عملاً طليعياً يعيد للشعب الاسرائيلي ارضه، كما يعتبرون قادة المستوطنين ابطالاً مناضلين. ويرون في الاستيطان "مهمة مقدسة" لاستعادة الطابع اليهودي الفلسطيني ولوضع حد للامتداد العربي فيها. اما المعارضون فينقسمون الى قسمين. الاول يرفض الاستيطان العشوائي ويطالب بأن يكون منظماً يقتصر على بعض المناطق بحيث لا يعيق في المستقبل اقامة دولة فلسطينية. وألا يتعدى هذا الاستيطان المناطق المقدسة لدى اليهود والمذكورة في التوارة مثل "كريات اربع" في الخليل و"بيت ايل" في رام الله وقبر راحيل في بيت لحم. والقسم الثاني يرفض تماماً الاستيطان اليهودي ويطالب بازالته في اطار اتفاق سلام، لأنه سيبقى رمزاً للاحتلال وتخليداً له وسبباً للعداء وتأجيجه. وعلى مر السنين بدأت أوساط واسعة في المجتمع اليهودي تدرك ان الاستيطان بات يشكل ضرراً فادحاً لاسرائيل. فهو الذي دفع الفلسطينيين الى اليأس من امكان اقامة دولة مستقلة في الضفة والقطاع، ومن خلاله تنهب الارض الفلسطينية، وبسببه تغلق الطرقات امام الفلسطينيين ويفرض عليهم الحصار. والاستيطان يشفط مبالغ طائلة من موازنة الدولة العبرية يتجاوز بليون دولار في السنة. ويكلف الجيش والشرطة والاستخبارات اموالاً وجهوداً كبيرة لحماية المستوطنين، ففي بعض الاماكن يضطرون الى نقل الاطفل من بيوتهم الى المدارس بواسطة سيارات مصفحة. كما ان تصرفات بعض المستوطنين الشبان الذين لا يكتفون بما يقومون به من اعتداءات على الارض والممتلكات الفلسطينية، فيمارسون اعتداءات اخرى ضرب، تحطيم زجاج سيارات وبيوت، اطلاق رصاص، قتل وحتى تنظيمات ارهابية، جعلت كثيرين من الاسرائيليين يتخذون مواقف انتقادية وهجومية ضدهم، ويحمّلونهم مسؤولية التوتر الامني في المنطقة. وليست صدفة ان حوالي 60 في المئة من الاسرائيليين يؤيدون اخلاء المستوطنات في المناطق الفلسطينيةالمحتلة، حتى ولو احتاج الامر الى القوة. ومن هنا، فإن اي رئيس حكومة اسرائيلي يريد تحقيق خطوة جادة في عملية السلام مع الفلسطينيين عليه ازالة هذه العقبة الكأداء. فاذا اعلن عن استعداده لاخلاء المستوطنات، فهناك قاعدة شعبية عريضة تؤيده فضلاً عن التأييد الدولي، ولكن رؤساء الحكومات الاسرائيلية، بمن في ذلك مؤيدو عملية السلام منهم، امتنعوا عن اتخاذ قرار شجاع في هذا المجال. بعضهم خاف من رد فعل المستوطنين أنفسهم وبعضهم استغل معارضة المستوطنين العنيفة ليبتزوا الفلسطينيين والوسطاء الاجانب الولاياتالمتحدة مثلاً. والنقاش الدائر في اوساط المستوطنين اليوم، هو خير دليل على ذلك. فهناك فئة منهم تعلن بالفعل انها لن تبرح المستوطنات ولن تسمح بإخلائها، بما في ذلك المستوطنات التي تعتبر غير شرعية في نظر السلطة الاسرائيلية. وتهدد بمقاومة الإخلاء بالقوة، خصوصاً بعدما تعهد شارون في قمة العقبة بإزالة هذه المستوطنات. وحسب تقرير داخلي للجيش الاسرائيلي، فإن هناك خطراً في ان يستخدم هؤلاء السلاح الناري في مقاومتهم الاخلاء، ولذلك تقرر تكليف جنود مدرّبين مزودين بأسلحة وبالأذرع الفولاذية الواقية لهذه المهمة. وكُلف رجال الاستخبارات العامة برصد تحركات المستوطنين لمعرفة مكان البؤر الملتهبة لديهم، التي يتوقع ان تكون المقاومة فيها مسلحة. في المقابل يلاحظ ان شارون الذي يحسب حساباً جدياً لهؤلاء المستوطنين ويحاول تجنيد قادة الجيش ليروجوا لضرورة إخلائهم يحاول في الوقت نفسه الاستفادة من معارضتهم حتى الحد الاقصى. فهو يصارح الاميركيين بالقول ان لديه معارضة شديدة داخل الحكومة وفي الشارع الاستيطاني. ويؤكد انه سيضطر الى خوض معركة من شأنها ان تؤدي الى اسقاط حكومته بسبب اعتماد ائتلافه الحكومي على حزبي اليمين المتطرف. ولهذا يطالب بأن يقوم الفلسطينيون باجراءات جادة وواضحة لنزع سلاح المقاومة حتى يتمكن من اقناع اكبر عدد من الاسرائيليين بصحة موقفه في اخلاء المستوطنات. والاعلان عن اخلاء المستوطنات اللا شرعية ايضاً قضية كبرى، مع ان اكثر من نصفها خالٍ من السكان يضعون 3-4 مبان موقتة ويرفعون عليها العلم الاسرائيلي ويضربون سياجاً حول اراضيها فتصبح بالنسبة اليهم مستوطنة ومأوى. ولهذا، يفاوض شارون الرئيس الاميركي على اخلاء المستوطنات، ويدخل معه في مساومات. والمطروح حالياً ليس اخلاء جميع المستوطنات، ولا حتى نصفها. فالمستوطنات القائمة في القدسالشرقية لا يتحدثون عنها ابداً، فهذه من المحرمات التي لا يجوز لأحد الاقتراب منها. والمستوطنات القائمة في قطاع غزةوالضفة الغربية، يرفض شارون الحديث عنها في هذه المرحلة بتاتاً، ويلمح الى استعداده لإخلاء 17 مستوطنة منها فقط من مجموع 160 وذلك في المرحلة النهائية من المفاوضات وبهدف ازالة العقبات امام التواصل الجغرافي في الدولة الفلسطينية العتيدة. وهو مستعد لإخلاء بين 63 و67 من مجموع 120 نقطة استيطان، من تلك التي تعتبر غير شرعية حسب القانون الاسرائيلي. ومع ان شارون وقادة اجهزته الامنية يخشون فعلاً من ردود فعل عنيفة لدى المستوطنين، فإنهم يستفيدون من هذه الردود خصوصاً في محادثاتهم مع الاميركيين. والاميركيون يفهمون شارون ويفهمون المستوطنين ايضاً، علماً بأن تيار المستوطنين المتطرفين مؤلف أساساً من يهود قادمين من الولاياتالمتحدة، وبعضهم لا يجيد العبرية بعد. وجميعهم يتكلمون العبرية باللكنة الاميركية. واللافت ان عدداً كبيراً من قادة المستوطنين اليهود، الذين يعارضون اخلاء المستوطنات المذكورة، يقولون صراحة ان مقاومتهم تستهدف مساعدة شارون: "فإذا لم نقاوم اخلاء المستوطنات غير الشرعية بحزم، سنجد العالم يضغط عليه حتى ينسحب من بقية المستوطنات الاساسية. وسنجد شارون يعد الخطط للانسحاب حتى من ارئيل مدينة استيطانية اقيمت وسط الضفة الغربية. وتعتبر مركز الثقل للمستوطنات في المنطقة. وأقيمت فيها كلية جامعية. ويتم التعامل معها على اساس انها ثابتة لا أحد يفكر في اخلائها في اي يوم من الايام. ويدرك المستوطنون ان شارون لا يريد ذلك. فهو "ابن الاستيطان اليهودي في المناطق، وعلينا مساعدته على رفض ما لا يحب"، كما قال بنحاس فاليرشطاين أحد قادة المستوطنين. رؤوس الهضاب منذ ان بدأ الاستيطان اليهودي في فلسطين قبل اكثر من مئة سنة، والمستوطنون يتبعون الاسلوب نفسه: يحددون هدفهم العيني ارض زراعية او موقع عسكري استراتيجي او نبع او بئر ماء وهكذا... يسيطرون على الارض قبل العام 1948 بحثوا عن اراض للبيع وامتلكوها بالمال البخس وبعد 1948 سيطروا على الاراضي المشاع واصبحت تسمى اراضي الدولة او صادروا اراضٍ فلسطينية لأغراض عسكرية ثم تحولت لأهداف وأصبحت استيطانية ويبدأون البناء فوقها. في الضفة الغربية بالذات اتبع المستوطنون النهج الذي كانوا قد اتبعوه في الجليل، اجمل المناطق الفلسطينية. اذ سيطروا على رؤوس الجبال والتلال. والبحث عن الارض الخصبة لم يعد ذا شأن هنا. والهدف من الاسيتطان لم تعد له علاقة بالحسابات الاقتصادية. انما تحول قضية "قومية" هكذا طرحته الصهيونية والى قضية امنية - عسكرية السيطرة على مواقع استراتيجية. ولهذا ، فليس صدفة ان المستوطنات خاضعة لسيطرة الجيش. ولها موازنة خاصة منه اضافة الى الموازنات الواردة من الوزارات الاخرى. وفي كل منها نقطة حماية عسكرية. من هذه المستوطنات يطل العسكريون الاسرائيليون على القرى والمدن الفلسطينية جميعها، بلا استثناء، بشعور واضح من الاستعلاء. ويتحكمون في مجريات حياة السكان الفلسطينيين. ويتجاوز الاستيطان هنا عملية التهويد التي حملتها الصهيونية ليصبح رمزاً لفرض التفوق بكل مفاهيمه فهو الجيش المحتل والقوي وهو صاحب العمل وهو الغني، ويكون بالنسبة الى الفلسطينيين رمزاً للقهر والكبت والاستغلال. والقاسم المشترك بين الفلسطينيين والاسرائيليين في الموضوع الاستيطاني هو أن الاستيطان رمز للعداء