عكست حرارة الاستقبال الذي أعده لبنان للرئيس الإيراني محمد خاتمي مدى الاحترام الذي يكنّه اللبنانيون لهذا الرئيس المثقف الجامعي المتنوّر الاصلاحي والانفتاحي. لكن العديد من اللبنانيين يساورهم القلق وصولاً الى الشك في قدرة هذا الرئيس المثقف على تحقيق أهدافه التي طالما دعا اليها ودافع عنها أمام الشعب الإيراني خصوصاً في حملاته الانتخابية منذ العام 1997 وحتى اليوم. وهم يعتبرون بحق ان هناك قوى تقف في وجه خاتمي وتجعل من معظم رهاناته السياسية رهانات صعبة، كي لا نقول مستحيلة! يقف الرئيس خاتمي على رأس تيار الاصلاحيين في إيران، في مواجهة مباشرة مع المحافظين بزعامة المرشد علي خامنئي. والصراع مفتوح حول العديد من القضايا الأساسية المتصلة بخيارات الثورة الاسلامية حول دور الاسلام في المجتمع، والديموقراطية وبشكل خاص مفهوم "ولاية الفقيه" بما يعني تقدّم مرشد الثورة على جميع مؤسسات الدولة باعتباره المرجع الأول لكافة السلطات في الجمهورية. وهو بهذه الصفة قادر على الحكم في أي أمر يرى فيه "مخالفة لروح الاسلام". ولقد ثار جدل داخل إيران بين الفقهاء والمفكرين حول "ولاية الفقيه"، واعتبر بعضهم ان انتخابات العام 1997 التي حملت خاتمي الى رئاسة الجمهورية بأكثرية تجاوزت 70 في المئة رسالة واضحة من الشعب الإيراني ضد ولاية الفقيه أي ضد ناطق نوري منافس خاتمي. لكن خاتمي وجد نفسه بين نارين: خامنئي من جانب ومنتظري من جانب آخر، فاتخذ جانب "ولاية الفقيه" من منطلق التخوّف من شق الصفوف ليس إلا، وان كان فكره العام يخالف هذا التوجه. وبالفعل كانت أولى المواجهات الصعبة التي تعرّض لها خاتمي هي موقفه كرئيس للجمهورية ازاء مرشد الثورة. فقد برزت أصوات إيرانية تدعو بألا يضع أحد نفسه فوق رئيس الجمهورية المنتخب او حتى في موازاته. وبالفعل حاول خاتمي، بعدما وجد نفسه مقيّداً في سلطاته ومبادراته وتوجهاته، ان يحدث تعديلاً في السلطة لمصلحته، ولكنه لم يفلح في ذلك بل على العكس أثار حفيظة المحافظين الذين ردوا بحملة على الاصلاحيين في الجامعات والصحافة وبين رجال الدين فعزلوهم متمسكين بمبدأ سريان آراء وأوامر الولي الفقيه المرشد على الجميع بما في ذلك رئيس الجمهورية والبرلمان والقضاء. وهكذا خسر خاتمي رهانه الأول. وإذا كان الرئيس خاتمي قد فشل في تجاوز "المحرّم الأول" في إيران، وهو تحديد وتعديل سلطة المرشد بالنسبة الى رئاسة الجمهورية على الأقل، فهل يمكنه ان ينجح في تخطّي "المحرّم الثاني"، وهو السعي لفتح حوار مع الولاياتالمتحدة الشيطان الأكبر؟ لقد حاول خاتمي ان يكسر جدار الجليد مع الولاياتالمتحدة من خلال نظرته الى دور أميركا في عالم اليوم، ولكن المرشد خامنئي عارض كل محاولة في هذا الاتجاه. حتى ان القضاء الذي يسيطر عليه المحافظون أصدر قراراً بالسجن لكل من يدعو علناً الي الحوار مع الولاياتالمتحدة. وقد لحقت مفاعيل هذا القرار مواطناً قام باستبيان للرأي بين الشباب الإيرانيين تبين فيه ان 70 في المئة منهم يؤيدون اقامة علاقات مع الولاياتالمتحدة. وكان رد مرشد الثورة بإطلاق تهديدات ضد أميركا وتحذير كل من يتعامل معها الأمر الذي جعل الرئيس خاتمي ومعه الاصلاحيون يميلون الى التراجع عن فتح الحوار مع أميركا باعتبار ان "المرشد هو الذي يتخذ القرار النهائي في هذا الموضوع وبالتالي ضرورة انهاء أي نوع من الحوار مع الأميركيين"، على حد قول خاتمي الذي فقد بذلك رهانه الصعب الثاني على غير قناعة منه. بل انه نظراً الى شخصيته المسالمة والشفافة عادة ما يتراجع عن أي موقف قد يشكل مدخلاً لصراعات كبرى داخل البلاد. لقد أطلق خاتمي رهاناً كبيراً على التحديث والتغيير في إيران. وجاءه الجواب بنعم كاسحة حملها اليه الجيل الإيراني الشاب والتيار النسائي في مواجهة المحافظين، خصوصاً من رجال الدين. وأكدت غالبية الشعب الإيراني في انتخابات رئاسة الجمهورية كما في انتخابات مجلس الشورى البرلمان عام 2000 ميلاً كاسحاً الى جانب الاصلاح والتغيير. لكن المحافظين استعملوا سلطاتهم "القضائية" لاتهام الناشطين الاصلاحيين والحكم عليهم بالسجن واقفال الصحف، وقبلها بمنع كثيرين من الترشّح للانتخابات. ويخشى عديدون ان يكون خاتمي فقد الكثير من صدقيته لأن الكثيرين راحوا يشككون بقدرته على تنفيذ ما وعد به خلال حملته الانتخابية وفي خطبه في الجامعات الإيرانية، خصوصاً دعواته المتكررة لجعل السيادة في الدولة للأمة وللقانون، والى أي مدى يمكنه ان يحقق ذلك في مواجهة خصومه الايديولوجيين والسياسيين، وهل يمكنه القيام بذلك من دون تعريض النظام لهزات عنيفة، والى متى يمكنه ان ينتظر... وقد بدأت الأمور تنقلب فعلاً ضدّه! ان مثل هذا الرهان بحاجة الى قرار شجاع وصعب وهو ما لم يقدم عليه حتى اليوم! ويطرح خاتمي اشكالية جديدة خلافية وهي إيمانه بالجمع بين الاسلام والديموقراطية. فهي أطروحة طالما سعى اليها لأنها تشكل المآلفة التي تجمع أعمق مفهومين: الاسلام والديموقراطية بمعناها الليبرالي وباتجاهاتها التحديثية. ولهذا تحدث دائماً عن مبدأ الحوار بين الأديان وبالتالي حوار الثقافات والحضارات ودافع عن هذا التوجه داخل الأممالمتحدة. وعنده ان حوار الأديان والثقافات، خصوصاً بين الاسلام والمسيحية، هو الذي يفتح الطريق أمام مثل هذه المآلفة المطلوبة بين الاسلام والديموقراطية وما يتبعها من حقوق الانسان. ومع ان هذا التوجه له وجه جامعي أكاديمي فإن خاتمي لا يجد تفهماً ودعماً من قبل المحافظين الذين يعتبرون الديموقراطية مفهوماً غربياً غريباً عن الاسلام. ولهذا يجهد الرئيس الايراني، من دون نجاح، ليوفق بين صوت الله وصوت الشعب اللذين ينبغي، في رأيه، ان يكونا متوافقين بل ومتماثلين وليس كما يراهما المحافظون، مختلفين بل ومتناقضين! وبالنسبة الى رهانات خاتمي على الشرق - أدنوية فهي تتناول بالتأكيد الموقف من سورية ولبنان واسرائيل والمقاومة عموماً و"حزب الله" خصوصاً. ويمكن اجمال أبعاد هذه المواقف - الرهانات وحدودها على الشكل الآتي: أ - بالنسبة الى سورية: يعتبر خاتمي، كغيره من القيادات الإيرانية ان سورية هي ظهير استراتيجي لإيران يسمح لطهران بأن يكون لها وجود سياسي بل استراتيجي بين المتوسط والخليج. ولهذا فجميع القيادات الإيرانية تدعم قيام علاقات متينة وثابتة مع دمشق لا سيما أنها الدولة العربية الوحيدة التي وقفت علانية الى جانب إيران في حربها مع العراق 1980 - 1988. ب - بالنسبة الى لبنان، ترى القيادات الإيرانية ان لبنان، بوجود طائفة شيعية كبرى فيه تعتبر إيران مرجعيتها الروحية، هو مركز وموقع مهم بالنسبة الى إيران ودورها في المنطقة. لكن خاتمي يذهب أبعد من ذلك، الى ما لا يذهب اليه المحافظون، وهو اعتبار لبنان مختبراً و"درة ثمينة" لحوار الأديان. فإلى أين يصل رهانه في هذه النظرة الى لبنان؟ وهل يذهب الى حد المطالبة والعمل على استعادة لبنان سيادته واستقلاله وحريته كدولة وكيان سياسي؟ هذا هو السؤال الذي هو بحاجة الى أكثر من الكلام والثناء والمديح. مع التأكيد على حسن نيّات وجدّية النظرة الى لبنان لدى الرئيس خاتمي! ج - بالنسبة الى اسرائيل، يقف رهان خاتمي عند حدود معينة لا يذهب الى ما يذهب اليه التيار التقليدي الذي يعتبر اسرائيل "باطلاً ينبغي ان يزول" وان على الثورة الإيرانية عمل كل شيء "لزهق هذا الباطل". وإنما هو يقف بالتأكيد ضد كل مطامع اسرائيل ومظالمها على العرب والمسلمين، ولكنه يقبل بما يقبل به الفلسطينيون بالنسبة الى دولة اسرائيل. وهو موقف - رهان يصعب الدفاع عنه في ظل ما تقوم به اسرائيل وما تقوم به أميركا. ومثل هذا الرهان انعكس بالتأكيد على موقفه من حركة المقاومة المتجسدة في "حزب الله" - فرع لبنان لأن "حزب الله" موجود في إيران أيضاً وهو الذراع العسكرية لتيار المحافظين داخل الإدارة الإيرانية. د - بالنسبة الى "حزب الله" اللبناني، فإن رهان خاتمي هو رهان قائم، ولكنه مشروط. فهو بالتأكيد الى جانب حركة المقاومة ضد اسرائيل وطردها من لبنان وكل الأراضي العربية السورية والفلسطينية، لكن خاتمي ليس الى جانب المتشددين في إيرانولبنان الذين يجعلون هدفهم النهائي تحرير فلسطين بكاملها وسحق الدولة اليهودية. من هنا كانت حدود رهانه مشروطة بتحرير الأراضي العربية وقبول الكيان الاسرائيلي في الحدود التي يقبل بها الفلسطينيون لا أكثر ولا أقل. بهذا المعنى يكون رهان خاتمي في موضوع النزاع العربي - الاسرائيلي، رهاناً سياسياً وليس رهاناً دينياً - ايديولوجياً. فلو جعل قاعدة رهان الثورة الاسلامية قاعدة دينية لكان عليه حكماً ان يحكم على اسرائيل بالفناء لأنها احتلت جزءاً من أرض الاسلام، وبالتالي على المسلمين الجهاد لاستعادة هذه الأرض من اليوم والى يوم القيامة. وبالتأكيد يبقى هذا الرهان مجرد تصور مشدود بين اتجاهين متناقضين ما لم يتوصل المعنيون الفلسطينيون/ والاسرائيليون الى بلورة حل للنزاع في ما بينهم! كما يبقى تأييد خاتمي ل"حزب الله" أقل جذرية من تأييد الجماعات الأصولية في السلطة الإيرانية. والخلاصة ان الرئيس خاتمي يمثل وجه إيران المستقبلي/ الاصلاحي، ولكن معظم الرهانات التي قام بها، في الداخل وازاء الخارج، اصطدمت بالكثير من المعوقات الدينية والسلطوية حيث تلعب الفتاوى دوراً محورياً في تحديد المواقع والمواقف. فالرئيس خاتمي مثقف يقف بين الاسلام والغرب وبين الأصالة الإسلامية والحداثة، وبين الدولة التيوقراطية والدولة الديموقراطية. وهو يتمتع بدعم ساحق من الايرانيين، ولكنه يواجه بالتركيبة التقليدية لرجال الدين الذين يجعلون رهاناته صعبة، وفي كثير من الأحيان مستحيلة، ويزداد الأمر صعوبة مع اقتراب القوات الأميركية من حدود إيران شرقاً وغرباً. فإلى متى سيبقى خاتمي متمتعاً بدعم المؤسسات الإيرانية في الداخل والخارج اذا كانت نتائج رهاناته ستنهار بين يديه؟!