في مثل هذا الشهر منذ 25 سنة 11 شباط/ فبراير 1979 أعلن آية الله الخميني نهاية نظام الشاه في إيران، وولادة نظام جديد يخضع لنظرية "ولاية الفقيه"، أي النظرية التي تمنح رجال الدين الشيعة سلطات مطلقة سواء كانت قانونية أم سياسية. وبفضل هذه النظرية استطاع المرشد الأعلى للنظام علي خامنئي المحافظة على أعلى سلطة سياسية في البلاد لكونه يمثل المرجعية الأساسية لمصدر الحكم. في سنة 1997 ظهر في إيران تيار سياسي آخر عبّر عن مطالب التغيير بانتخاب محمد خاتمي رئيساً للجمهورية. ومع أن خاتمي جاء من وسط علماء الدين في "قم"، إلا أن ماضيه كصحافي وكمحاضر وكوزير للثقافة ميّزه عن سائر الملالي، وأعطاه موقعاً مختلفاً لدى المراهنين على سلوكه السياسي. وهكذا تحول هذا التيار المتنامي إلى قوة استقطاب واسعة استطاعت أن تضعف نفوذ رجال الدين وتخفض نسبة وجودهم في البرلمان من 51 في المئة إلى 12 في المئة. وتوقع المراقبون بعد الانتخابات التي جرت في شهر شباط فبراير من سنة 2000 أن تعزز النتائج فرص الإصلاحيين الذين هزموا المحافظين في كل الدوائر. ورأت الصحافة الخارجية في حينه أن حصيلة تلك الانتخابات كانت بمثابة استفتاء على اصلاحات محمد خاتمي ودعوته الليبرالية. ودعمت هذا الاستنتاج نسبة الإقبال على صناديق الاقتراع، بحيث زادت على 80 في المئة، علماً أن النسبة في معركة رئاسة الجمهورية سنة 1997 بلغت 88 في المئة، وهي نسبة ضخمة كان من المتوقع أن يوظفها خاتمي لإجراء اصلاحات جذرية في مجالات الحرية والقضاء ومختلف مؤسسات الدولة. والملفت أن حجم الإقبال على التصويت في المعركة الانتخابية السابقة كان المؤشر الأساسي على دعم النساء والشبان لبناء مجتمع لا يسيطر عليه رجال الدين الذين يتدخلون في تحديد ما يلبسه الناس، وما يشاهدونه على شاشات التلفزيون، وما يقرأونه في الصحف. وكان من الطبيعي أن ينفجر الخلاف بين الإصلاحيين بقيادة الرئيس محمد خاتمي وبين المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي الممثل لتيار المحافظين. وتمسك خامنئي بشعارات الخميني الذي اعتبر ان انشاء الدولة الإسلامية في إيران هو الخطوة الأولى نحو انشاء الدولة الإسلامية العالمية. تماماً كما كان يرى لينين أن تثبيت النظام الماركسي في روسيا هو المنطلق لإقامة نظام الأممية الدولية. وقوبل هذا الطرح بتفسيرات مختلفة تراوحت بين ضرورة دعم الحركات الإسلامية في كل مكان ولو عن طريق العنف، وبين تفسير آخر يرى أن الحركات الإسلامية خارج إيران يجب أن تتخذ من الثورة الإسلامية قدوة لها. واختار الرئيس خاتمي هذا النهج عنواناً للمؤتمر الإسلامي الذي عقد في طهران. ويرى تيار الإصلاحيين الذي قاده خاتمي منذ سنة 1997 أن من الضروري بناء "الدولة النموذج" قبل التركيز على محاولات تصدير الثورة إلى الخارج. في حين يسعى المحافظون، بتوجيه من علي خامنئي، إلى تعزيز الدور الخارجي للثورة الايرانية كسياسة وقائية تحميها من التدخل الخارجي. وفي ظل هذا التناقض مرت الثورة بفترة حرجة كان عليها ان توازن بدقة بين الرسالة العقائدية والمصالح الوطنية. في مؤتمر طهران حسم الرئيس خاتمي هذا الموضوع وأصدر بياناً مشتركاً يؤكد فيه التزامه علاقة حسن الجوار بين طهران ودول الخليج. واعتُبر هذا البيان بمثابة اعلان تعهد بوقف التدخل في الشؤون المحلية، مع اظهار أقصى درجات التعاون والانفتاح على الأنظمة القائمة. وبعد اطمئنان الرئيس المعتدل خاتمي الى تفهم دول الجوار، أراد ان يكسر طوق "سياسة الاحتواء المزدوج" الذي وضعته أميركا وذلك بتشجيع فكرة الانفتاح على أوروبا. ودشن هذه السياسة بزيارة روماوالفاتيكان، فكان أول رئيس ايراني يتوجه الى العواصم الأوروبية منذ قيام نظام الجمهورية الاسلامية. وبما ان ايطاليا كانت أول دولة أوروبية تخرق الحظر الاميركي اثر فوز خاتمي، لذلك حرص الرئيس المنتخب على جعلها المحطة الأولى قبل ان ينتقل الى الفاتيكان للقاء البابا يوحنا بولس الثاني. ومثلت تلك السابقة خطوة مهمة للدعوة الى التعايش بين الأديان والحضارات. وشدد اثناء زيارته الرسمية للبنان على الدعوة الى التسامح وتعايش الأديان، معتبراً ان الوطن الصغير يمثل النموذج المثالي لهذا النهج المميز. بعد زيارات متواصلة للدول الأوروبية انتقل خاتمي الى نيويورك سنة 1998 للاشتراك في أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة. ومع انه توخى الحصول على دعم دولي لشرعيته السياسية، إلا ان خطابه لم يكن مرضياً لخامنئي وجماعة المحافظين. ذلك انه تحدث بلغة الاعتدال عن مختلف القضايا الساخنة. اي انه أحجم عن انتقاد سياسة الولاياتالمتحدة تجاه ايران... وابتعد عن مهاجمة اتفاق اوسلو... ودان "طالبان" من دون ان يهددها بانتقام عسكري. ولاحظت ادارة كلينتون في حينه ان خاتمي يحاول الابتعاد عن المواقف المحددة خشية استفزاز الدول الخارجية التي يسعى إلى استرضائها. وهو في الوقت ذاته كان ينأى في خطابه عن استثارة علي خامنئي، الأمر الذي جعله يكثر من الاستشهاد بالقرآن الكريم والكتاب المقدس وشعراء الفرس والمواضيع المتعلقة بالحرية وحوار الحضارات. في احتفال شهده البيت الأبيض، أعلن مرة الرئيس بيل كلينتون "ان ايران تعرضت بسبب أهميتها العظيمة ومركزها المميز لسلسلة من أعمال الظلم مارستها ضدها غالبية الدول الغربية". وشدد في كلمته على القول بأن "المطلوب الآن ايجاد وسيلة عملية لمباشرة الحوار مع ايران من أجل بناء مستقبل مشترك". ولم تكن هذه الكلمات وليدة الصدفة، وانما كانت تمثل تحولاً ملحوظاً في سياسة اميركا الخارجية لجهة تدعيم سياسة خاتمي ومساعدته على التخلص من ضغوط خصومه. وألحقها كلينتون على الفور بإصدار سلسلة قرارات تسمح بالانفتاح على ايران، تجارياً واقتصادياً. وكان بتلك الخطوة يعمل بتوصيات سلفه جورج بوش الأب الذي طالب بضرورة الانفتاح على ايران. وقيل في حينه ان الرئيس الديموقراطي ذهب في هذا المنحى الى أبعد من سياسة الانفتاح وقرر الاقتداء بسلفه الجمهوري ريتشارد نيكسون الذي تعاون مع ايران والسعودية واعتبرهما ركيزتين اساسيتين لصيانة مصالح الولاياتالمتحدة. ولكن تدخل المحافظين في ايران لم يسمح بترجمة دعوة الانفتاح التي أعلنها خاتمي عبر شبكة "سي ان ان" يوم لوح برغبة طهران في تحسين الأجواء الملبدة. وهكذا اثبت التيار الذي يقوده خامنئي انه يتمتع بالسلطة النافذة وان رئيس الجمهورية ليس اكثر من رمز ديموقراطي يختبئ وراءه المتطرفون والمتشددون والمتزمتون. والسبب ان المحافظين يسيطرون على "مجلس صيانة الدستور" الذي يملك حق الاعتراض على أي مشروع قرار يجيزه المجلس شأنه شأن "مجلس تشخيص المصلحة". كذلك يهيمن المحافظون على "مجلس خبراء القيادة" الذي يملك حق تعيين المرشد الأعلى، اضافة الى حق الاشراف على خطب صلاة الجمعة التي يلقيها أئمة المساجد. ومثل هذه القيود المعنوية أربكت خاتمي وجعلته أسير مزاج "المرشد الأعلى" خامنئي الذي يحتفظ بصلاحيات استثنائية واسعة تخوّله حق حل البرلمان وعزل رئيس الجمهورية المنتخب، وتعليق اي مبدأ اساسي من المبادئ التي يستند اليها النظام. منذ شهر تقريباً واجه الرئيس خاتمي ازمة سياسية حادة انفجرت بين انصاره الاصلاحيين و"مجلس صيانة الدستور" الذي يهيمن عليه المحافظون من أنصار خامنئي. ويتألف المجلس من ستة علماء دين وستة قضاة شرعيين، ويتمتع بحق النقض لمنع اي مشروع يقدمه البرلمان المنتخب. وبما ان ارقام استطلاعات الرأي التي قام بها المجلس اثبتت احتمال نجاح غالبية ساحقة في الانتخابات المزمع اجراؤها في العشرين من الشهر الجاري، لذلك تقررت الموافقة على ترشيح مئتي شخص فقط من اصل 3600 مرشح. والطريف ان المجلس استبعد كل انصار خاتمي وبينهم 80 من اعضاء البرلمان الحالي البالغ عدد اعضائه 290 عضواً. وردت جبهة الاصلاحيين والراديكاليين على هذا الاجراء باعلان المقاطعة على اعتبار ان النتيجة محسومة سلفاً لصالح المحافظين. وتقول صحف المعارضة ان خامنئي فضّل ان يتهم بالديكتاتورية على ان تخرج الانتخابات المقبلة انصاره من البرلمان. وهو يرى ان سقوط نظام صدام حسين في العراق واحلال نظام متعاون في افغانستان، قد ساعد ايران على التحرر من الضغوط الاقليمية والدولية. ومعنى هذا ان الحاجة انتفت لإبراز شخصية معتدلة مثل خاتمي قادرة على التمويه وخداع الدول الغربية بأن النظام الايراني سيطور نفسه عن طريق الاصلاح والانفتاح. وبدلاً من احراج رئيس الجمهورية فقد عهد مرشد الجمهورية الى اربعة وزراء مسؤولية ايجاد صيغة حل ترضي الطرفين المتنازعين، خصوصاً ان خاتمي رفض الانحياز الى اي طرف خوفاً من ادانته واتهامه بتحريض شقيقه محمد رضا خاتمي على مقاطعة الانتخابات. وفي نهاية الاجتماعات توصل الوزراء الى تسوية يعاد بموجبها الاعتبار الى مئتي من المرشحين الاصلاحيين المستبعدين من بينهم 20 نائباً حالياً. المراقبون الديبلوماسيون في طهران يجمعون على القول بأن المعركة السياسية بين المحافظين والاصلاحيين قد تجددت، وان خامنئي سيحرك المحاكم الادارية لملاحقة النواب الذين قدموا استقالاتهم الجماعية في البرلمان. ذلك انه يعتبر هذا العمل مظهراً من مظاهر التمرد على النظام، وان سلطته تسمح له بمعاقبة المخالفين. ولقد وصف المستقيلين ب"النفوذيين" الذين يعرقلون عمل القانون. ويستنتج من هذا التهديد ان السياسيين سيكونون مستهدفين هذه المرة مثلما استهدف المحافظون آخر التسعينات الطلاب والمثقفين والكتّاب واغتالوا مئة منهم. ولقد سجل ذلك الصحافي اكبر جانجي في كتابه "زنزانة الاشباح". سئل الرئيس خاتمي عن مدى صحة الاشاعات التي ترددت عن رغبته في الاستقالة، فأجاب: "نظراً الى حساسية موقعي، انوي الاضطلاع بمهمتي كاملة حتى في الظروف الحاضرة آملاً ان اتمكن من الاستمرار في خدمة الشعب". وسئل ايضاً ما اذا كان سيقاتل خصومه، فأجاب "انا لست مقاتلاً. انا رجل منطق. واذا كانت المعارضة تعني النزاع، فأنا لست مع النزاع. لذلك ادعو الى تكريس انفسنا لخدمة قيّم الديموقراطية والحوار والتفاهم المتبادل". ولكن هذا الكلام الهادئ المعتدل لم يقنع المعارضين ممن راهنوا على التغيير بواسطة محمد خاتمي الذي وصفه زميلنا حازم صاغية ب"المستسلم". ويبدو ان المدافعة عن حقوق الانسان شيرين عبادي وجدت لخاتمي مخرجاً لائقاً عندما دعته الى تنفيذ وعده بالاستقالة اذا لم ينفّذ برنامجه الاصلاحي. بل هذا ما طالب به تيار الليبراليين الراديكاليين الذين دعوا الى الغاء ولاية الفقيه لأن رجال الدين يستثمرون الثورة. ملخص الازمة الايرانية الاخيرة ان الشعب فقد الامل في قائد حركة الاصلاح محمد خاتمي، وان تراجعه سيفتح المجال امام المحافظين لاستثمار نفوذهم ضد المعارضة والطلاب والنساء. تماماً كما استثمروا سلطتهم سنة 1999 لسحق انتفاضة الطلاب الذين خذلهم خاتمي ايضاً. * كاتب وصحافي لبناني.