في التظاهرات التي عمت العالم قبل الهجوم الأميركي على العراق لإطاحة نظام صدام حسين، كانت أهم الشعارات المرفوعة تقول، وخصوصاً في أميركا، ان بول ولفوفيتز مستعد لقول أي شيء لإقناع الرأي العالم العالمي والإدارة الأميركية بضرب العراق. ويبدو ان هذا هو الذي حصل بالفعل. فالفكرة قديمة في خططه، اذ تعود الى نهاية الثمانينات. ولد بول ولفوفيتز العام 1943 في نيويورك من أب يهودي من أصل بولوني، كان عالم رياضيات معروفاً. والرياضيات كانت أيضاً الولع الأول للإبن، فبرع بها قبل ان ينتقل الى العلوم السياسية، متأثراً بآلان بلوم، الأستاذ في جامعة شيكاغو، والذي اشتهر اسمه بعد تأليفه كتاباً عن انهيار الثقافة في الولاياتالمتحدة، صدر العام 1979. ومنذ ذلك الحين، يعمل ولفوفيتز بشراسة لإقناع المسؤولين بخطر العراق على جيرانه، وكذلك على الولاياتالمتحدة. بعد أربعة أيام من كارثة 11 أيلول سبتمبر 2001، وخلال اجتماع في كامب ديفيد دعا اليه الرئيس جورج بوش أهم أعضاء ادارته، حاول ولفوفيتز اقناع المجتمعين ان الرد يجب ان يكون ضد العراق وليس ضد أفغانستان. فكان رد الرئيس بوش ان على المسؤول الثاني في البنتاغون ان يصغي ويترك الكلام للرجل الأول، اي الوزير دونالد رامسفيلد. لكن رواية ثانية تقول ان بوش شجّع ولفوفيتز على شرح وجهة نظره، كما ان الأمر الذي صدر عنه في 17 أيلول سبتمبر 2001 بوضع خطة عسكرية لاجتياح أفغانستان، لحظت فقرة تتضمن تعليمات لمسؤولي وزارة الدفاع بوضع خطة لاحقة للقيام "بعمليات ما" في العراق. لكن آراء كثيرة، لصحافيين نافذين، وسياسيين عارفين بخفايا تلك الحقبة تؤكد ان الرجل الثاني في وزارة الدفاع الأميركية كان لا يزال بعيداً عن كسب المعركة. وقد أظهرته بعض الصور متجهم الوجه مقطب الحاجبين لدى خروجه من الاجتماع المذكور. كما ان وزير الدفاع رامسفيلد أوقفه في مناسبات عدة عند حدّه، في لقاءات خاصة كما في مقابلات صحافية، لكن ثقة الرجل بنفسه، ونَفَسه الطويل، حالا دون شعوره بالاحباط. ولم يقلل من حماسه نجاح وزير الخارجية كولن باول بالتوصل الى اتفاق عبر الأممالمتحدة وبدعم روسي في تعديل الحظر على العراق الذي سمي في حينه "العقوبات الذكية"، وكذلك رفض رامسفيلد تمويل المعارضة العراقية في الخارج الذي كان مساعده ينادي به، بينما كان مجرد تصور قوات أميركية بأعداد كبيرة، مدعومة بحاملات الطائرات والبوارج والآليات، أمراً بعيداً لدى المراقبين ولدى الإدارة الأميركية في حينه. تابع ولفوفيتز مخططه، وجال صديقه جيمس ولسي، المدير السابق ل"سي آي اي" على الدول ألاوروبية بحثاً عن براهين لم يجدها، تثبت صلة العراق بأحداث 11 أيلول. وانفرجت أساريره عندما صنف جورج بوش العراق بين دول "محور الشر" الثلاث، وكذلك عندما كان رامسفيلد، في خضم المواجهات بين الاسرائيليين والفلسطينيين، لا ينفك يصرح بأن صدام حسين يشجع الارهاب وهو يقدم 25 ألف دولار لكل عائلة من عائلات الانتحاريين الفلسطينيين. ولقي ولفوفيتز دعماً من المحافظين الجدد من خارج الادارة الذين استغلوا وسائل الاعلام الى أقصى الحدود لدعم نظريات "بطلهم"، الذي وضع العراق على رأس قائمة الأولويات، ونجح في فرض نظريته، ما أثار دهشة كثيرين حوله، معتبراً الحرب على العراق حربه الخاصة، خصوصاً لعدم وجود خصم له من مستواه. ويعتبر ولفوفيتز أهم المفكرين الاستراتيجيين في ادارة بوش نظراً الى الخبرة التي اكتسبها خلال 30 سنة من العمل في مركز حساس خلال الحرب الباردة، في وكالة مراقبة التسلح ونزع الأسلحة، حيث شارك في محادثات الحد من انتشار الأسلحة النووية مع السوفيات. كما ان ممارساته الديبلوماسية الطويلة جعلت منه أحد أهم العارفين بميكانيكية القوة الأميركية وموازين القوى الدولية. حتى ان بعض من عرفه جيداً وضعه في منزلة المحنكين أمثال هنري كيسنجر. برع ولفوفيتز في اقناع الإدارة الأميركية والرأي العام بأن العراق هو الخطر الأكبر على العالم، متهماً إياه بتطوير وحيازة أسلحة مخيفة، منظماً حملته وكأنه المدافع عن "قيم" الغرب الديموقراطية وعن الحريات، بعيداً عن قناعات كان يخفيها حول الجغرافيا والدين والعرق واللغة. وهو صاحب نظرية اسقاط صدام لبناء عراق جديد ديموقراطي يكون مثالاً لدول أخرى في المنطقة ستتبع لا محالة، حسب رأيه، الطريق نفسه لاحقاً. لكن رأي ولفوفيتز بالرئيس العراقي المخلوع صدام حسين ليس بجديد. فقد وضعه منذ زمن طويل على لائحة أولوياته، وبدأ، وهو المعروف بقدرته التحليلية الدقيقة وبحدسه الذي لا يخطئ، منذ عام 1979، بالتحضير لتنفيذ مخططه. فوضع حينها وثيقة مفصلة عن خطر صدام حسين على جيرانه، وكان يومها يعمل بإمرة أحد مساعدي وزير الدفاع. وعلى رغم كل ذلك، وفي خضم الثورة الخمينية في ايران يوم كان الرئيس جيمي كارتر يبحث عن ثقل موازن لإيران في المنطقة، أقنع ولفوفيتز الإدارة الأميركية بإرسال أسلحة الى منطقة الخليج، تحسباً لأي طارئ، تبين بعدها ان الجيش العراقي استعملها لدى غزوه الكويت. خلال حرب الخليج الأولى، كان ولفوفيتز قد عاد الى البنتاغون كسكرتير مساعد، وأوكلت اليه مهمة رسم سياسات وزارة الدفاع، في عهد الرئيس جورج بوش الأب ووزير دفاعه في ذلك الوقت، ريتشارد تشيني نائب الرئيس حالياً، وبما انه كان مسؤولاً عن التخطيط، فهو الذي حضّر عملية "عاصفة الصحراء"، وأمّن لها المال اللازم مقدماً للحلفاء فاتورة بقيمة 50 بليون دولار ثمن "خدمات" القوات الأميركية. كما أنه أقنع حينها اسرائيل بعدم التدخل في الحرب، على رغم صواريخ سكود التي سقطت فيها، مجاراة منه للدول العربية المشاركة في التحالف. لكنه كان دائماً يبرع في المراوغة متحاشياً الإجابة عن السؤال: هل أخطأت الولاياتالمتحدة حينها بعدم دخول بغداد؟ بعد هزيمة الرئيس بوش الأب في الانتخابات الرئاسية، ووصول بيل كلينتون الى الرئاسة، كان ولفوفيتز قد أصبح عميداً لمعهد الدراسات الدولية المتقدمة في جامعة جون هوبكينز في واشنطن. وقد تابع عن كثب تحقيقات الصحافية والجامعية لوري ميلروي، وأصبح مثلها مقتنعاً بضلوع صدام حسين في العملية الأولى ضد مركز التجارة العالمي في نيويورك. وعرف عنه معاونوه وزملاؤه انه عنيد مثابر، يتبع قناعاته حتى النهاية. ويعتبر ان مصلحة العالم هي من مصلحة الولاياتالمتحدة. وعلى رغم كثرة الصقور الأميركيين في الإدارة، يؤكد العارفون ان قناعات ولفوفيتز، وصبره الطويل، وحنكته السياسية والديبلوماسية، وقدرته الفائقة على الاقناع، هي التي شقت الطريق أمام اجتياح العراق، عكس ما يعتقده كثيرون. ويحاول المقربون منه التمييز بينه وبين ريتشارد بيرل الذي كان يرأس احدى الهيئات الاستشارية الدفاعية في البنتاغون. ففي العام 1998، مع بداية الأزمة التي انتهت بطرد المراقبين الدوليين من العراق، بعث ولفوفيتز بكتاب مفتوح الى الرئيس كلينتون يدعوه فيه الى القيام بعملية عسكرية ضد العراق، حيث لم تنجح المساعي الديبلوماسية، وبالقضاء على صدام حسين وحكمه. وشاركه في توقيع الكتاب وزير الدفاع الحالي رامسفيلد ومسؤولون آخرون، من بينهم زلماي خليل زاده، الذي أصبح بعد احتلال العراق سفير الرئيس بوش لدى المعارضة العراقية. وبينما يرى بيرل، المقرّب جداً من حزب ليكود الاسرائيلي ان السياسة الوحيدة التي يجب ان يتبعها الغرب خصوصاً الولاياتالمتحدة، هي المواجهة الدائمة والمتعددة الوجوه مع العالم العربي والاسلامي، يرفض ولفوفيتز، الذي كان سفيراً لبلاده في أندونيسيا، بشكل قاطع مبدأ "صدام الحضارات" الذي أطلقه صاموئيل هانتينغتون في كتابه الذي يحمل الاسم نفسه. وبينما تأكد ان بيرل يضع مصالح اسرائيل ضمن أولوياته، وهو نجم الفضائح المالية المعروف، يظهر ولفوفيتز أكثر اعتدالاً ويرفض كلياً نظريات بيرل الضيقة الأفق، محاولاً اظهار نفسه كالمدافع الأول عن الديموقراطية والحريات في الولاياتالمتحدة والعالم. وقد وضع نفسه في موضع حرج خلال تجمع لأنصار اسرائيل، كان البيت الأبيض قد أوكله شرح وجهة نظر الإدارة فيه تجاه الموضوع، فتحدث عن "عذابات" الفلسطينيين والاسرائيليين وعن "فلسطين مستقلة"، فأثار غضب الحاضرين الذين واجهوه بصرخات الاستنكار. في منتصف الخمسينات، رافق ولفوفيتز والده لتمضية سنة في اسرائيل. وهو يقول ان هذه الحقبة كانت صعبة جداً بالنسبة اليه، ذلك انه يرفض النظرية التي كانت سائدة بقوة في تلك الحقبة، وما زالت، والقائلة بأن على كل يهودي ان يذهب للعيش نهائياً في اسرائيل. فهو يعتبر نفسه أميركياً، متعلقاً أشد التعلق بالقيم الأميركية، ولا يعتقد ان بإمكانه تمضية حياته كلها في اسرائيل. فمصالح الولاياتالمتحدة تتلاءم، برأيه، تماماً مع مصالح دول أخرى كثيرة، وليس العكس. وهو يأخذ على كثيرين عدم استيعابهم الديموقراطية التي يعتبرها سلاحاً لا يقاوم، وعلى رأس هذه الديموقراطية تربض الولاياتالمتحدة الأميركية. من هنا يعتبر الذين يعرفونه جيداً ان قوته تكمن في هذا المجال: نظرته الوحدوية الى الدور الفريد للولايات المتحدة، وإيمانه المطلق بقيمها، حتى ولو كانت هذه القيم تذهب في اتجاه دعم اسرائيل المطلق، والكيل بمكيالين، على حساب فلسطين ودول المنطقة