من المميزات الإعلامية الأميركية التي تتهكم عليها "أوروبا القديمة" نجد إعلانات "مطلوب حياً أو ميتاً" وانتد!، وهي الملصقات التي كانت تستعمل في الغرب الأميركي للقبض على المجرمين والفارين من العدالة، إضافة إلى جوائز التحفيز المالية التي توضع تحت "كل رأس"، وما زالت هذه الوسيلة متبعة إلى اليوم. لكن إضافة إلى أفلام الكاوبوي، عززت الحرب ضد الإرهاب منذ 11 أيلول سبتمبر هذه الطريقة، على نطاق عالمي وبثها بواسطة الانترنت. وكان آخر من زين ملصقات المطلوبين جماعة تنظيم "القاعدة" وزعيمها أسامة بن لادن الذي خصصت الجائزة الكبرى للقبض عليه وتبلغ قيمتها 20 مليون دولار! إلا أن استعمال بعض أجهزة الأمن في العالم اسلوب الملصقات للقبض على المطلوبين من قبل الأجهزة الأميركية، لم يمنع التهكم على ملصقات "مطلوب حياً أو ميتاً" وصورة الكاوبوي "صياد الجوائز" الذي يجوب المدن والمناطق النائية بحثاً عن المطلوبين طمعاً بالجائزة. وقد خلدتها هوليوود والتصقت صورتها التواصلية بصورة المقصف الأميركي والكاوبوي والمبارزاة بالمسدسات وسط الشارع، بعد خلاف بسبب ألعاب القمار. فهل يعقل أن تلجأ السلطات المسؤولة عن الحملة الإعلامية الأميركية إلى استعمال بعض أدوات التواصل التي تعتمد على الصور السلبية التي يحملها العالم عن "أميركا الكاوبوي" وتنشر صور الملاحقين والمطلوبين من النظام السابق على شكل أوراق لعب؟ الأسباب وراء ذلك كثيرة ومتعددة، ولها اكثر من تفسير والتفسيرات، ولكن من الخطأ الكبير اعتبار هذه العملية التواصلية مجرد هفوة، إذ أنها من صميم السياسة الأميركية التي تتميز بشموليتها، وفي مقدمها الصورة التي ترغب الولاياتالمتحدة بايصالها إلى العالم، وبالتالي الرسالة التواصلية التي تسبق دائماً خطواتها السياسية. يقول بعضهم إن تصوير صدام حسين والمقربين منه على أوراق لعب كان خطأ ارتكبته السلطات المسؤولة عن العملية الإعلامية للحملة العسكرية. ويبررون ذلك بأن استعمال أوراق اللعب، وهي من أدوات الميسر، يدخل ضمن حملة التهجم على المجتمع الاسلامي. ولكن يمكن أن تكون وراء استعمال أوراق اللعب محاولة تواصلية من قبل مسؤولي الإعلام في الجيشين الأميركي والبريطاني للارتكاز على ما تحمله أوراق اللعب من رمزية سلبية لدى المجتمع الإسلامي العربي، وربط صورة صدام وجماعته بهذه الرمزية السلبية. فقد اشتهر نظام صدام بحاشيته وعمل على وضع أنصاب له في كل مكان وزاوية في العراق، لذا أراد إعلام الحلفاء من وراء استعمال أوراق اللعب التذكير بأفعال صدام وتشويه صورته نهائياً لدى العراقيين، خصوصاً خارج العراق لدى من لا يزال يرى فيه "بطلاً"، عبر استذكار الرمزية السلبية المتمثلة بأفعاله، وتماثل هذه الأفعال مع السلبيات التي يراها المسلمون بشكل لاشعوري في الميسر والأنصاب والأزلام والتي أتى على ذكرها القرآن الكريم، معتبراً أنها رجس من أعمال الشيطان، ما يؤكد أن القيمين على الحملة التواصلية يدركون عادات الشعوب التي تستهدفها هذه الحملة. ويظهر من خلال الهدف الإعلامي أن الإيجابيات العملية التي يمكن أن تجنيها القوات المتحالفة من جراء استعمال معدات تواصلية يمكن انتقادها تفوق بكثير السلبيات التي يمكن أن تلتصق بالعملية التواصلية والاتهامات التي يمكن أن تساق ضدها، فما أن ظهرت أوراق اللعب ال55 حتى رأي بعضهم في ذلك صورة الكاوبوي الذي يلعب الورق في المقصف في غرب أميركا قبل أن يخرج لاطلاق النار على الأشرار من دون أن يحاسبه أحد. وضحك الجميع مما اعتبروه هفوة تواصلية جديدة. غير أن الأمر مخالف كثيراً لذلك. فصفة "كاوبوي" قد تضحك بعضهم وتثير هزء الأخرين، غير أن أحداً لا ينظر إليها على كونها شتيمة في الولاياتالمتحدة. فوقعها مشابه لصفات عدة في أنحاء العالم، مثل "بدو" عند العرب، أو فلاح عند الفرنسيين أو "شارب شاي" عند الانكليز. قد يتهكم كثيرون في الغرب على صفة "بدو" ولكن العرب يفخرون بها فهي تشير إلى اصولهم. كذلك الأمر بالنسبة إلى الفلاح الفرنسي، فمعظم الشعب الفرنسي يرى جذوره كشعب فلاح، على رغم أن عصر الفلاحة التقليدية اندثر منذ عقود من المجتمع الفرنسي. والأمثلة كثيرة ويشير كلها إلى اختلاف وجهات النظر الحضارية للصفات حسب تكاوين المجتمعات. وعندما أشار وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد إلى "أوروبا القديمة" لم يخطئ في كتابة رسالته التواصلية، فالأمر ليس مجرد زلة لسان، بل ان الشعب الأميركي هو أولاً وأخيراً شعب مهاجرين، إذ على رغم تنوع أصوله، فإن الصفة الغالبة علىه هي أن جذوره أوروبية، وهو ترك العالم القديم أوروبا وتوجه إلى العالم الجديد أميركا لبناء حياة جديدة. وصفة كاوبوي، هذه المهنة التي اندثرت أيضاً منذ عقود، لا تثير الاشمئزاز لدى الشعب الأميركي بل على العكس فهي تشحذ ذكريات ماض ليس ببعيد، وتذكره بأن أجداده "رعاة البقر" غزوا الغرب الأميركي وغامروا بحياتهم لبناء بلاد جديدة يعيشون في كنفها ويتمتعون برفاهية تقدمها ويحتمون بقوتها. وبدورها، لم تساهم هوليوود فقط في نشر الثقافة الأميركية خارج الولاياتالمتحدة منذ ثلاثة أرباع قرن بل ساهمت أيضاً في تعزيز اللحمة الوطنية الأميركية عبر بناء "تراث أميركي" تشكل أفلام رعاة البقر جزءاً لا يستهان به من الذاكرة الجماعية الأميركية. إن كل ما يحيط بأفلام رعاة البقر من ديكور جامد، مثل المزارع والسهول و"الباربيكيو" وقطع اللحم المحفوظ والمقاصف وطاولات لعب الورق والكازينوهات، يحمل كله صوراً في المخيلة الأميركية مخالفة للصور التي يحملها العالم خارج الولاياتالمتحدة. فهي تمثل الحرية الجديدة المكتسبة خارج العالم القديم. وكذلك "الديكور حي" أو الشخصيات التي ارتبطت بأفلام رعاة البقر، فهي تثير لدى الشعب الأميركي شعوراً مخالفاً لما يمكن أن يتحسسه غير الأميركي على رغم النشر المكثف لهذه الأفلام حول العالم بفعل صناعة السينما. وشخصية "البطل" أو "الشريف" الذي يلاحق الأشرار والتي هي صفة مميزة للأفلام الأميركية تثير استهزاء الرأي العام خارج الولاياتالمتحدة، لكنها شخصية محببة جداً لدى الشعب الأميركي. ففي وحشة قارة جديدة وبقاع مقفرة ساهم "البطل" في حماية الأفراد ومطاردة الأشرار لبناء مجتمع أمين وسالم. ومن هنا فإن صفة "شرطي العالم" التي تلصقها الصحافة من حين لآخر بالدور الأميركي في العالم وبانتقاد توجهات واشنطن السياسية، لا يراها الرأي العام الأميركي انتقاداً لا بل على العكس فهي تتوافق مع توجهاته الدفينة لطلب الحماية من "البطل". لكن هناك أوجهاً أخرى لمقاربة العملية الإعلامية الأميركية فهي تأتي في سياق الحملة العسكرية التي جاءت تتويجاً لتصرف فوقي أرادت واشنطن من خلاله فرض وجهة نظرها على العالم وجرّه نحو تأييد توجهها، حتى وإن كان لا يتبنى سياستها. فهي فرضت رؤيتها ل"الخطر العراقي" وأرادت أن يرى العالم ما تود رؤيته. وإذا قمنا بتحليل بسيط للمسألة العراقية من وجهة نظر إعلامية، نرى أنها فاجأت العالم الذي كان يصب اهتمامه على الإرهاب الدولي كما كانت تحفزه الولاياتالمتحدة. فإذا بها وفي سياقها الإعلام الأميركي تغير توجهها لتتحول نحو العراق. وبعد انتهاء الحرب وزوال غبار المعركة فإن العملية التواصلية يجب أن تهيئ مرحلة ما بعد الحرب كما أعلنتها الادارة الأميركية قبل الحرب. ولا تستند الرغبة بالتغيير إلى القراءة الأميركية وحدها للأخطار التي تتحسسها في المنطقة العربية، بل إلى فهمها العميق لإحساسات المنطقة الدينية والاجتماعية. فمن خلال هذا التفهم تستطيع أن تقود سياستها نحو نمو وإعمار وتقدم مبني على الانفتاح، إلا أن هذا المسار يحتاج إلى "بطل"، كما حصل في الغرب الأميركي يطلق النار ويحمي النظام الجديد، ولكنه أيضاً يحمي المجتمع. وفي الواقع فإن وضع صدام حسين وكبار مساعديه على شكل شخصيات شريرة على أوراق لعب ترمي إلى نزع أي صفة تاريخية وإنسانية عنه وتشويه ذكراه تماماً وجعله في مصاف شخصيات "كرتونية" مثل شخصيات ألعاب "باكيمون" أو ما شابه، لأنها شخصيات تثير الخوف لدى الأولاد، ولكن الجميع يدركون أنها غير واقعية وغير موجودة. لقد استعمل الأميركيون هذا الاسلوب مراراً وتكراراً بالنسبة إلى أعدائهم التاريخيين. فالهنود الحمر على رغم أن مجزرة حقيقية قضت على حضارتهم ومحت حضورهم عن وجه الأرض الأميركية، فإن الدفق الإعلامي الهوليوودي جعل قتلهم أمراً مقبولاً على اعتبار أنه عمل سينمائي فقط. ولكن مع الوقت اختفت الصفة الانسانية عن صورة الهندي الأحمر، وحلت محلها صورة الغريم في لعبة كاوبوي لدى الأولاد وفي الأفلام الكرتونية. فهل يمكن انطلاقاً من ذلك اعتبار أن الحملة الإعلامية أخطأت باستعمال ورق لعب وطرحه للتداول على الطرق العراقية، وبين أيدي الشعب العراقي المحرر كما تقول قوات "التحالف"؟ في الواقع إذا كان التصرف الأميركي يحمل الكثير من الأخطاء، سواء في الحقل السياسي أم العسكري أم الاقتصادي، إلا أن شمولية التحرك الأميركي، بحكم حجم قوة الولاياتالمتحدة، وأحاديتها وانعدام المنافسة الجدية لقوتها وهيمنتها الإعلامية، يجعل لأخطائها مفعولاً مستقبلياً وليس آنياً، كما حصل مع الهنود الحمر، وهي صفة مميزة لتصرف الكبار عبر التاريخ