حدث هذا يوم السبت 21 حزيران يونيو الماضي عندما كان الرئيس بيل كلينتون يستضيف زعماء القمة الاقتصادية في دنفر. وقبل ان يحلّ موعد العشاء في الحديقة، وزّع كلينتون على ضيوفه ملابس رعاة البقر كاوبوي المؤلفة من سراويل "الجينز" والجِزم وقبعات عريضة الاطراف. وامتنع المستشار الالماني هيلموت كول عن تغيير لباسه بحجة ان مقاس الجزمة أضيق من مقاس رجله. ومثله رفض الرئيس الفرنسي جاك شيراك ارتداء "الجينز" او اعتمار قبعة أهل تكساس، متعاوناً في هذا الإحجام مع الرئيس الايطالي اوسكار ليويجي سكالفارو. ولما لاحظ الرئيس المضيف ان اقتراحه قوبل برفض جماعي سارع الى الاعتذار عن الازعاج الذي سببه للرؤساء السبعة، مؤكداً لهم ان ليس في نيّته اهانة مشاعرهم الوطنية. لكن اعتذاره لم يبدد شكوكهم بأن عنجهية "السوبرمان" زعيم أعظم دولة في العالم، كانت تتوخى فرض "الأمركة" على رؤساء اوروبا واليابان. اي انه كان يهدف من وراء فكرته الى اظهار شركائه بمظهر مضحك كأنهم يقلّدون نموذج الكاوبوي ويتخلّون عن مميزاتهم وخصوصياتهم. وفي مناسبة اخرى اظهرت الادارة الاميركية موقفاً متصلباً حاسماً يوم اعلنت في اجتماع حلف الاطلسي في مدريد معارضتها عضوية رومانيا وسلوفينيا الدولتين اللتين رشحتهما فرنسا وايطاليا للانضمام الى الحلف. واكتفى ممثل الولاياتالمتحدة بتأييد ثلاث دول هي بولندا والمجر وتشيخيا رافضاً ادخال اي دولة اخرى رشحتها اوروبا لعضوية الحلف. وعلّقت صحيفة "لوموند" في حينه على سلوك التفرّد معتبرة ان الولاياتالمتحدة لا تتصرف مع حليفاتها بروح المشاركة والمساواة، بل بروح الغطرسة والهيمنة. وكتبت افتتاحية انتقادية بعنوان "الامبريالية الاميركية" رأت فيها ان واشنطن تعامل زعماء اوروبا معاملة الأسياد للفلاحين. وأيّدتها الجريدة الالمانية "دي فيلت" في هذا الانتقاد، ووصفت الرئيس كلينتون بأنه ينظر الى حكام دول العالم كما كان الامبراطور الروماني ماركوس أوريلوس ينظر الى منفّذي أوامره في الدول الاخرى التابعة لروما. ووجد هذا الوصف من يظهر التماثل بين الامبراطورية الرومانية والامبراطورية الاميركية ويقدم قرائن التشابه بين سيطرة روما على دول ذلك الزمان وبين هيمنة الولاياتالمتحدة على عالم ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. وفي التحقيق الذي نشرته المجلة الموثقة الراقية "ناشيونال جيوغرافيك" آب/ اغسطس الماضي كتب استاذ التاريخ "ت. رايد" فصلاً كاملاً عن القوانين والتشريعات التي استعارها مؤسسو النظام الاميركي من التشريعات الرومانية. وقال انهم قلّدوا نموذج روما في انشاء مجلسي النواب والشيوخ. فالأول يمثّل الشعب، والثاني يمثل مجلس النخبة المختارة. وبقي النظام الجمهوري الاميركي يطبّق فكرة المجلس الانتقائي حتى عام 1913، اي الى ان تعرّض الدستور للتعديل السابع عشر وسمح لعامة الشعب بالمشاركة في انتخاب مجلس الشيوخ. وحرص المشرّع الاميركي على نقل صيغة قانون محاكمة رجال الدولة، ان كان في مسألة انتهاك السلطة اثناء تأدية المهمة… أم في موضوع الخيانة وعدم قول الحقيقة IMPEACHED. والطريف ان الاعتماد على الامبراطورية الرومانية كمصدر ايحاء لبناء الولاياتالمتحدة، تمكن ملاحظته في كل جوانب الحياة الثقافية والسياسية فيها. حتى زعماء المرحلة الاولى، مثل جورج واشنطن والكسندر هاملتون، صنعت تماثيلهم في اطار تماثيل نبلاء روما. ويلاحظ زوّار المتحف الوطني في العاصمة الاميركية ان تمثال جورج واشنطن يرتفع بحلّة أباطرة روما، اي بالصندل والثوب الروماني الفضفاض. ولم تجد مجلة "تايم" في العدد الذي خصصته للكتابة عن قوة "السوبرمان" الاميركي افضل من الامبراطور ماركوس أوريلوس لتصفّ به "الامبراطور كلينتون" الذي يجلس على سطح الكرة الارضية. واشارت في تبرير المقارنة الى ان القوة التي يتمتع بها جيش الولاياتالمتحدة لا يمكن ان تدانيها اي قوة. وراحت المجلة تسهب في وصف حجم الهيمنة السياسية وتقدم الامثلة على حضور واشنطن في كل شأن من شؤون العالم. وذكرت ما ردده كلينتون في خطابيه هذا الاسبوع من ان دول العالم هي التي تدعو اميركا للتدخل، ما يميّز الولاياتالمتحدة عن الامبراطوريات المستعمرة السابقة. ومثل هذا الوصف، في رأي "تايم" ينسحب على القوة الاقتصادية الطاغية التي حوّلت نمور آسيا الى قطط، وجعلت يلتسن شحاذاً يستجدي المعونات والمساعدات. هل هذا يعني ان الولاياتالمتحدة محصّنة ضد كل الامراض والمخاطر، وان مناعتها الاقتصادية - العسكرية ستحميها الى أمد بعيد؟ وهل يعني ان هيمنتها ستستمر خلال القرن الواحد والعشرين، اي الى حين بروز قوة عالمية جديدة منافسة قد تكون الصين او اوروبا الموحدة؟ في كتابه الجديد "رقعة الشطرنج الاميركية" يقول المستشار السابق لشؤون الامن القومي الاميركي زبيغنيو بريجنسكي ان تفوق اميركا في كل المجالات لا يحميها من بذور الهلاك التي تحملها مشاكل العرقية والقوميات والملونين. ويشير الى مخاطر الانفصال والتجزئة اذا تفكك نسيج اللحمة الوطنية، ما يعيد اميركا الى حرب القبائل المتقاتلة. وفي كتاب مشابه وضعه الصحافي ادوار باهر من مجلة "نيوزويك" يقول ان "اميركا التي تخيف" يجب ان تخاف من نفسها لأن اعراض امراضها كأعراض أمراض الامبراطورية الرومانية، مع اختلاف في الزمان والمكان. والأكيد ان الانحلال الخلقي الاجتماعي الذي اعتبره المؤرخ غيبون احد اهم الاسباب التي نشرت السوس في جسم الامبراطورية الرومانية، سيكون المرض الذي يضع الديناصور الاميركي في مرحلة الأفول والتراجع. ومن الامراض المستترة في الجسم السياسي الاميركي ما وصفته هيلاري كلينتون الثلثاء الماضي بالمؤامرة الواسعة. وهي شنّت حملة على المدّعي العام المستقل كينيث ستار، اتهمته فيها بالتحالف مع اليمين المعارض. كما اتهمت عدداً من الاشخاص بالتورط بعملية سياسية واسعة وقالت ان ابرزهم الواعظ التلفزيوني زعيم حركة "الغالبية الاخلاقية" الاصولية القس جيري فالويل. وما لم تتجرأ على اعلانه هيلاري ان الحملة الواسعة ضد كلينتون بدأت فور اجتماع نتانياهو بالواعظ الذي يلقّب ب "صاحب المكائد" وبالشخصيات السياسية البارزة في الحزبين الديموقراطي والجمهوري. وعندما اطلعت الوزيرة اولبرايت على البرنامج الذي أعده نتانياهو اثناء زيارته الاخيرة لواشنطن، قالت انها تنتظر الفشل للمحادثات، وتتوقع الهجوم والانقضاض على الادارة الاميركية. والسبب ان نتانياهو، مثل جميع زعماء اسرائيل، يحاول توظيف القوة الاميركية والدور الاميركي لمصلحة طموحاته وليس لمصلحة السلام. ورفض كلينتون المحاط في ادارته بأصدقاء اسرائيل وبثلاثة خدموا في صفوف قواتها، ممارسة اي ضغط على حكومة "ليكود" واكتفى باعلان تذكير نتانياهو بالالتزامات الاسرائيلية تجاه عملية السلام، علماً ان ادارته تبنت دائماً المفهوم الاسرائيلي للوساطة، كما تبنّت تكتيك الصلح الانفرادي لإضعاف الموقف العربي، وتفكيك المسارات، ومنع امكانات التنسيق. كما كرّست في وساطتها مفهوم اسرائيل للسلام، ودعمت تفوقها العسكري وصادقت على مشروع نقل السفارة الاميركية الى القدس بحلول نهاية عام 1999، وبررت لشمعون بيريز مذبحة قانا لكن هذا كله لم يرضِ نتانياهو الذي تصوّر ان اضعاف الرئيس الاميركي يحجب عنه كل ضغط محتمل، ويعطّل زيارة ياسر عرفاتلواشنطن. ويقول جوزيف ألفر، مدير مكتب الشرق الاوسط للجمعية اليهودية الاميركية، ان فضيحة مونيكا لوينسكي خدمت نتانياهو لأنها عطّلت دور كلينتون، وسمحت لرئيس الوزراء الاسرائيلي بعرض خطته من موقع المستقوي بأبطال الفضيحة. وحدث في سياق عمليات عضّ الاصابع بين الرجلين، ان اولبرايت تعاملت مع زعيم "ليكود" وكأن استقالة ديفيد ليفي ستسقطه. وردّ نتانياهو بانتقاء آل غور كشريك محتمل أقلق به كلينتون، وعامله اثناء حفلة الغداء، كخلف لشخص مهووس جنسياً يريده ان ينزل في تاريخ اميركا كرئيس كاذب لا يتورع عن تحويل البيت الابيض الى بيت دعارة! هذا التناحر الذي ربط قضية الشرق الاوسط بتنورة مونيكا لوينسكي وفرقتها المستنفرة على الصعيد الاعلامي، رفع حجم مخاوف الجاليات اليهودية من ان يكون التدخل الاسرائيلي تجاوز الحدود المألوفة. ويبدو ان اتهامات هيلاري رفعت علامات الاستفهام حول طبيعة المؤامرة وهوية المتآمرين ما فرض على مفتعليها التراجع خوفاً من إثارة المجتمع الاميركي. هذا، مع العلم ان الرئيس كلينتون دافع عن "امجاده" ومنجزاته، وفضّل الاحتماء بحصانة اعماله بدلاً من مقارعة خصومه السياسيين الذين حرّضهم نتانياهو على "شرشحته" واهانته. عام 1786 اطلق بنيامين فرانكلن "نبوءة" سياسية حذّر فيها من مخاطر فقدان المناعة الخلقية والاستقامة التجارية بسبب ازدياد نفوذ اليهود في بلاده. وتحدث كل المؤلفات التي عالجت مستقبل اميركا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، عن الامراض المستعصية التي تهدد وحدة المجتمع الاميركي. لكن قلّة من المراقبين المحايدين تناولت نقاط الضعف التي تتحكم بإرادة الادارة الاميركية، وتسخرها لأغراض اسرائيل. فالى جانب امراض العنصرية والقومية والملونين، هناك مرض خفي تظهر ملامحه في هيمنة المنظمات اليهودية على الكنيسة والجامعات والسينما والصحافة وشبكات التلفزيون، والكونغرس واسواق المال. واخطر ما في هذا المرض المختبئ وراء المؤسسات الرسمية والثقافية والفكرية انه يوظف أعتى قوة في العالم لتمرير كل ما هو غير عادل وغير شرعي. والطريف ان كلينتون تناول في خطاب الاتحاد هذا الاسبوع كل القضايا المطروحة في العالم، لكنه تجاهل قضية الشرق الاوسط خوفاً من ان يقول رأيه الحقيقي في معالجة لا توافق عليها اسرائيل.