في الشهور الأخيرة من كل عام يفتح باب بيت قديم على مصراعيه وتنفرج ستائر نوافذه عن سكن متواضع في مدينة شاوتون في الجانب الغربي من لندن حيث يتوافد الزوار والسياح، زرافات يطوفون في حجرات الدار، يتطلعون إلى اللوحات الباهتة، والفُرش التي حال لونها، والبيانو القديم والمائدة العامرة بالصحون الفارغة التي لم يستعملها أحد منذ ما يقرب من قرنين. ذلكم هو النُزل الذي سكنته أشهر روائية انكليزية والتي تحولت في السنوات الأخيرة ظاهرة أدبية، جسّدت في أعمالها الروائية خصائص عصر كامل، مزجت فيه ملامح الشخصيات بمعالم الأمكنة، وصوّرت أدق الخلجات الإنسانية، وتوسدت أعمالها قوائم الكتب الأكثر رواجاً، وأعد معظمها للسينما أو المسرح أو التلفزيون، ليصبح عرضها الوجبة المحببة على موائد البرامج في مواسم الأعياد والمناسبات عرض منها ثلاثة أعمال في الأشهر الثلاثة الأخيرة. جين اوستن، الأبنة السابعة لأسرة كثيرة العدد محدودة الدخل. الأب كاهن في كنيسة المقاطعة، والأم ربة بيت ومتعلمة، جهدت أن تجد ابنتاها زوجان ملائمان، فخاب مسعاها. فالكبيرة كاسندرا توفي خطيبها بالحمى الصفراء ولم تتزوج بعده، وجين ليست بارعة الجمال، منطوية وخجول وقليلة المعارف والأصدقاء، لم يسعفها الحظ بالسفر خارج حدود انكلترا، بل انها ما بارحت تخوم منطقة الجنوب الغربي منها، لم تكمل دراستها في مدرسة وعرفت الحب من دون أن تتجرع لذته، كابدت بصمت وكبرياء ونثرت خلجاتها على الورق، وأنجبت ستة أعمال مطبوعة هي: "الإحساس والشعور" و"الكبرياء والمحاباة" و"ايما" و"حديقة مانسفيلد" و"كاتدرائية نورث هانغر" و"القناعة"، إلى جانب مخطوطة لم تنشر اطلقت عليها اسم "سانديشن"، توفيت بعد صراع طويل مع المرض قبل أن تتم عامها الثاني والأربعين، ودفنت في كنيسة "وستمنستر" وعلى شاهد قبرها المتواضع كُتب "هنا ترقد جين اوستن 1775-1817". داء الكتابة قبل قرنين من الزمان ونيّف، حين لم يكن ثمة تلفزيون ولا دور سينما ولا فضائيات ولا حفلات كونشيرتو مستمرة، كان يوم الصبية جين اوستن يمرّ بطيئاً رتيباً. في الصباح التدرب على البيانو والغناء، وبعض القراءات، والمساعدة في أعمال المنزل، أو الذهاب للتسوق أو التنزه على الساحل، وفي المساء الخياطة أو التطريز وزيارة أو استقبال الأهل والأصدقاء. كانت هذه حال جين اوستن إلى أن أصابها داء الكتابة، ذلك الداء الذي قلب حياتها رأساً على عقب، وقلّب أيامها ولياليها بين جحيم وفردوس داء لم تبرأ منه إلا بعدما تمكن منها ألم الظهر وانتزع منها الآهة الأخيرة. ظلت أعمال جين اوستن مركونة على الرفوف العالية، لم تنفذ أية طبعة من طبعاتها إلى ما قبل السنوات الثلاثين الأخيرة، حينما تنبه النقاد إلى الإرث الأدبي الأصيل الذي تركته اوستن وعندها تسابقت الأوساط الأدبية على الاشادة بها، وتلقفتها دور النشر والسينما والمسرح والتلفزيون عبر عشرات المسلسلات والافلام والمؤلفات التي تشبع سيرتها الذاتية بحثاً عن نشأتها وعائلتها ودراستها ورسائلها وحبها الخائب ومرضها… إلخ. ويُعزي النقاد ذلك الاهمال الطويل لمنجزاتها إلى أنها كانت بعيدة عن حلقات وندوات المجتمع الراقي والنخبة الارستوقراطية من علية القوم، والتي كان حضورها الأدبي والثقافي طاغياً تلكم الأيام، وذا سطوة، تفتقر إليها جين اوستن القليلة المعارف المحدودة العلاقات، والمفلسة. لم تخلُ حياة جين اوستن من الخيبات وسوء الطالع، صبية وشابة وامرأة، فعلاوة على تبدل أحوال العيش بالنسبة إلى الأب واضطراره للانتقال من نزل إلى آخر، ومن مدينة إلى اخرى، واصطباره على بيع أثاث البيت القديم، لا سيما مكتبته العامرة التي كانت تضم 500 كتاب - لا لشيء إلا لعجزه عن توفير ثمن نقل المتاع. كان احساس الفتاة المرهفة الشعور بفوات العمر سدى والافتقار للفتنة، إلى جانب العوز المالي وقلة الحيلة، يتعاظم يوماً بعد يوم وسنة بعد سنة، ليوقد في وجدانها شعلة قدحت زنادها على الورق عبر ريشة ومحبرة، لبلورة ما يعتمل في صدرها من أحاسيس جياشة على ألسنة أبطال وبطلات حقيقيات وعبر أمكنة مرت بها أو عاشت في حواريها. في العاشرة من العمر، التقحت بمدرسة في اكسفورد بمعية شقيقتها الوحيدة كاسندرا، ثم غادرتاها إلى مدرسة في شاوثهامبتون، لم ترق المدرسة للأبوين ربما بسبب ضيق اليد، فانتقلت واختها إلى مدرسة تابعة للكنيسة في مقاطعة ريدنغ سرعان ما تركتها وإلى الأبد ليُكرس البيت كمدرسة، والأم والأب والاخوة كمدرسين، وكان نهم اوستن للقراءة لا يعادله نهم. كانت تقرأ كل ما تقع عيناها عليه من مؤلفات متاحة، وكثيراً ما أعادت قراءة الكتاب الواحد مرتين وثلاث. كان عمرها لم يتجاوز السابعة عشرة، حينما فاجأت العائلة بقصة طويلة أطلقت عليها "خربشات صبيانية" أتبعتها بعمل ثانٍ منحته اسم "الليدي سوزان" واعقبتهما بثالث هو "الينور وماريان". هذه الأعمال المبكرة ستصبح النواة والتربة الخصبة لعدد من رواياتها الطويلات الشهيرات، بعد تغيير العناوين وتحوير اسماء الأبطال، وكانت العائلة بجميع أفرادها خير ظهير لها، سواء بالتشجيع المعنوي أم بالسعي لدى الناشرين في محاولات دؤوبة لطبع تلك الأعمال، ودفع نفقات النشر على رغم العسر والضيق اللذين كانوا فيهما. في تلك الحقبة كان سن العشرين عمراً حرجاً للفتيات اللواتي لم يتزوجن بعد، وعلى رغم كثرة الرجال حول اوستن، إلا أن أحداً لم يطلب يدها، ولنكن منصفين، حين نقول ان قلبها لم يخفق على ما يبدو إلا لرجل واحد هو توم ليفروي. كان توم من الأسر الارستوقراطية المعروفة، وسيماً وجذاباً، ذا حضور طاغ ومؤهل لمناصب مهمة تعدّها له أسرته. عندما أنهى دراسته الأولية في دبلن وجاء لزيارة عمه في لندن أثناء أعياد الميلاد، قدر له أن يلتقي جين في إحدى الحفلات فتبادلا الأحاديث، وحضرا حفلة أخرى فلم يتركها ولم تتركه طوال ساعات الاحتفال. إلا أن عائلة الشاب الارستوقراطي تنبهت للخطر المحدق بالابن، فحذرته من التمادي في علاقة قد تجرّ إلى إعلان خطوبة بين شابين مفلسين وتقضي على المستقبل المرموق، وحسم عمه وعمته الأمر ونصحاه بالعودة لإتمام دراسته، ومنذ تلك اللقاءات العابرة، وحتى آخر يوم في حياة جين اوستن لم يكتب لهما التلاقي ثانية أو حتى تبادل الرسائل، لكن طيفه كان يلوح على معظم الأبطال في معظم روايات اوستن. وكانت أخباره تتوارد إليها، حيث تخرّج وتسلم منصباً رفيعاً، وانتهى به الأمر رئيساً للمحكمة العليا في ايرلندا، وغدا زوجاً وأباً، وكان حين يُسأل عن تلك المرحلة لا يخفي اعجابه بجين اوستن ويصف تلك العلاقة العابرة بأنها عواطف شباب. أما هي، فلا أدل على تعلقها به وما كابدته إثر انصرافه عنها إلا رسالتها إلى شقيقتها كاسندرا: "أواه كاسندرا، حين تتسلمين رسالتي سيكون توم قد غادر وانتهى كل شيء. دموعي تسيل إذ اكتب لك هذه الأفكار السوداوية الكئيبة". كانت اوستن على اعتاب السادسة والعشرين، حين تقدم لخطبتها شقيق صديقتها واسمه هاريس بيك ولربما وجدتها فرصتها الأخيرة، فوافقت، ثم عادت وسحبت موافقتها في اليوم التالي. لقد فضّلت حياة العنوسة على زواج اسمي، لزوج لا تحبه وبيت تكون فيه مجرد جارية خدومة. تغييب اسماء النساء بعد عام 1803 قررت أن تحيا بطريقتها الخاصة، تتنفس، تحب وتكره، ترضى وتسخط، تثور أو تهدأ عبر رواياتها وأبطالها، لذا صممت على بعث الحياة في تلك المخطوطات والأوراق المركونة، وذلك باقتحام عالم النشر الذي كان حكراً على الرجال إلا في حدود ضيقة جداً. وكأن متاعب جين اوستن الشخصية والعائلية لم تكفِ، فقد اضيفت إليها معضلات النشر وخيباته، فعلاوة على صعوبة اقناع الناشرين بجودة العمل، فإن اسم فتاة يتصدر كتاباً أمر لم يكن رائجاً في تلك الأيام، لذا نجد ان روايتها الأولى في طبعتها الأولى خلت من اسمها واكتفت باسم "السيدة" The Lady، أما مجموعتها الثانية فظهرت خلواً من اسمها أيضاً وتحمل اسم "المؤلف". بعد جذب وشد وافق أحد الناشرين على طبع رواية "الاحساس والشعور" في وقت كانت تعيش هاجس عمل جديد اطلقت عليه اسم "إيما". "سأختار دور البطلة، التي لن تكون أحداً سواي أنا". قالت للأسرة وشرعت تكتب. في آذار مارس 1815 كانت الرواية قد اكتملت، مما شجع الكاتبة للذهاب إلى لندن لإيجاد ناشر والتفاوض على النشر، وقد حطت الرحال عند أخيها هنري الذي كان يتولى الاتصال بالناشرين، والملاحظة التي ينبغي ألا تُغفل أن اباها أو أحد اخوتها هو الذي كان يتفاوض عنها وباسمها. وقد أفلح الأخ بانتزاع موافقة الناشر على طبع 2000 نسخة في مقابل حصة من البيع والربح، كذلك تم التفاوض على طبع رواية "حديقة مانسفيلد". الامير ريجنت أثناء اقامتها في لندن مرض الأخ فعاده طبيب معروف تابع لحاشية الأمير ريجنت، وكان اسم جين اوستن يتردد كسرّ مفضوح في الأندية الثقافية، وأبلغها الطبيب ان الأمير معجب بروايتها "الكبرياء والضغينة"، وأنه يرحب بها في مكتبته الخاصة. وحين لبّت الدعوة، وجدت بانتظارها طلباً آخر: أن تهدي كتابها المقبل إلى الأمير ريجنت. لم يصادف الطلب حبوراً في صدر الكاتبة، لكنها امتثلت على مضض، وكان ان تسلم الأمير النسخة الأولى مهداة إليه، مغلفة بجلد مغربي أحمر. لاقت رواية "ايما" صدى طيباً وتوزيعاً حسناً، وكتب عنها النقاد مشيدين بها، لكن روايتها "حديقة مانسفيلد" لم تلاق أي رواج، فاضطر الناشر لاقتطاع جزء من ريع "ايما" لتغطية الخسائر في "حديقة مانسفيلد"، وقد يكون محزناً الآن أن نتذكر انها لم تتسلم سوى 40 باوند عن روايتها الناجحة، ولم تلمسها نقوداً حقيقية إلا بعد ثلاث سنوات. لم تنج الكاتبة من الأقلام الحادة التي تناولتها بالنقد والتجريح، فقد كتبت عنها إحدى الصحف: "لو لم يتسنَ للكاتبة أن تعرف الناشر شخصياً لما كان بالإمكان طبع هذه الرواية البيتية الفاترة مثل عصيدة ماء ثقيل". أما الروائية ماريا ادجورث فقد كتبت: "ليس ثمة قصة في هذا العمل البتة، اللهم إلا أن الكاتبة خلقت الرجل الذي صممته على مقاسها ليعجب بها والتي لم تكن غير المؤلفة نفسها!". لم يثن النقد اللاذع أو التجريح المشين جين أوستن عن الاستمرار في الكتابة، فبدأت تكتب رواية "الاقناع" وهي تستدعي الذكريات عند اقامتها في مدينة باث العطل والاجازات. وحين أتمتها، كانت قواها قد خارت، وتملكها نوع من الاحباط وصارت تساورها أعراض مرض الكآبة بين حين وآخر، وكان المرض يتربص بها حتى تمكن منها أو منعها من تتمة آخر أعمالها "سانديشن". عندما شرقت بغصة المنية سألتها كاسندرا بحنو وتوجع: - هل تطلبين شيئاً أيتها العزيزة؟ أجابت بصوت واهن: - الموت… اطلب الموت… صلّي من أجلي. انطفأت شعلة جين اوستن وتوهج اسمها لتصنف ضمن أوائل أهم الشخصيات التي ساهمت في صنع بريطانيا لتكون على ما هي عليه اليوم