هناك منذ سنوات نوع من العودة إلى جين أوستن. وهذه العودة تأتي ضمن عودة اهتمام بالكاتبات الإنكليزيات في شكل عام. غير أن ما يُكتشف من هذه العودة هي أن أوستن تكاد تكون «الأكثر حداثة» بين قريناتها اللواتي صنعن مجد الأدب الإنكليزي النسائي. ويتخذ الاهتمام عدة أشكال من بينها الاهتمام السينمائي حيث ثمة عدد لا بأس به من أفلام اقتبست عن بعض أشهر روايات الكاتبة. ومع هذا فإن جين أوستن لم تعش سوى ثلاثة وأربعين سنة. وحتى هذا العدد الضئيل من السنوات التي عاشتها كانت خالية من أية أحداث كبيرة، فهي لم تتزوج ولم تخض أية مغامرات حتى عاطفية، ولم تختلف اختلافاً جذرياً مع أحد. وظل ذلك هو دأبها حتى مرضت أخيراً بداء أديسون فعاشت مرضها في كل هدوء حتى ماتت من دون ندم أو مرارة. ومع هذا كتبت جين أوستن خلال حياتها القصيرة من الروايات والرسائل ما يشي بأن وراء ذلك كله حياة صاخبة ومغامرات واسعة النطاق وتسللاً إلى حياة الآخرين. والحال أنه لو قيّض لجين أوستن أن تعيش أكثر مما عاشت لكانت أتحفت الأدب الإنكليزي بروائع تضاف إلى أعمالها. وهذه الأعمال الروائية، تعتبر، على أية حال تراثاً حقيقياً في الأدب الروائي الإنكليزي. وكذلك بداية لواقعية في هذا الأدب، سادت في زمن جين أوستن وبعد رحيلها. وهذه الواقعية يضفي عليها بعض النقاد صفة السيكولوجية قاصدين أن صاحبة «بارك مانسفيلد» و «العقل والعاطفة» كانت رائدة من رواد الرواية المعتمدة على التوغل في داخل ذوات شخصياتها. إذاً، يمكن من هنا القول إن جين أوستن تبدو وكأنها أمضت سنوات حياتها وهي تتأمل في أخلاق الناس ومزاجهم، وفي الأسلوب الذي يديرون به حياتهم وبه يجابهون ما يعترض تلك الحياة. وهي عبّرت عن هذا على أية حال في مئات الرسائل التي كتبتها خلال مراحل متفرقة من حياتها. وكانت تكثر من كتابتها حين تكون منهمكة في كتابة عمل جديد لها. وجين أوستن لم تكن تنهمك، طوال حياتها، في أي شيء آخر سوى الكتابة. ومن المؤكد أن تنقّل أسرتها الصغيرة، على ضوء الظروف الحياتية، بين مدن عدة ومقاطعات متباعدة في إنكلترا، كان هو ما ساعدها جزئياً على التقاط شخصياتها والأحداث القليلة والمتضاربة التي تعيشها تلك الشخصيات. أما المصدر الآخر للكتابة لدى جين أوستن فكان القراءة. هي كانت تقرأ بلا هوادة، وتقرأ في كل المجالات. وكرد فعل على بعض قراءاتها ولدت، على أية حال، واحدة من رواياتها المبكرة، وهي رواية «كاترين مورلاند» التي أنجزت كتابتها في عام 1798 أي وهي بعد في الثالثة والعشرين من عمرها، لكنها لم تنشر في حياتها، بل بعد موتها بعامين أو أكثر. عندما شرعت جين أوستن في كتابة هذه الرواية التي حملت عنواناً فرعياً هو «دير نورثانغر» على اسم الدارة الضخمة التي تدور فيها الأحداث، كان في ذهنها أن تضع عملاً بسيطاً ساخراً، يهزأ في شكل أساس من موجة الروايات المرعبة والبوليسية ذات البعد الرومانسي، والتي كانت الكاتبة آن رادكليف من روادها. هذا النوع من الأدب كان من الرواج في ذلك الحين إلى درجة أنه كثيراً ما أثار حفيظة عشاق الأدب الحقيقي. وكانت جين أوستن من بين هؤلاء. ومن هنا كتبت «كاترين مورلاند» وفي ذهنها أن تقدم عملاً يضع أدب الرعب الرومانسي في مكانه المستحقّ فقط، بصفته أدباً تبسيطياً خادعاً وكاذباً. غير أن الرواية التي كان يفترض أن يكون عنوانها أول الأمر «سوزان» سرعان ما اتّخذت أبعاداً أخرى لتحمل في طياتها بذور مواضيع روايات أوستن الاجتماعية اللاحقة، ولتعطي مذاقاً أول حول قدرة تلك الكاتبة الصبية على رسم العلاقات وتصوير الحبكات لتبدو وكأنها مستقاة من حياة عاشتها أو عرفتها على الأقل. تتمحور الرواية من حول شخصية الفتاة الحسناء الثرية كاترين مورلاند، وهي ابنة قسيس ثري جداً يحدث لها أن تغرم بالشاب هنري تيلني. وإذ يعرف والد هنري، وهو الجنرال تيلني بالأمر، يبدي رضاه ويدعو كاترين كي تمضي بعض الوقت في دارتهم «ديرنوثانغر» وهو عبارة عن منزل ضخم يعود بناؤه إلى القرون الوسطى. ولما كانت كاترين فتاة تقرأ بنهم، وذات خيال واسع، واعتادت على قراءة روايات الرعب السوداوية التي كانت محطّ إعجاب قراء كثيرين في ذلك الحين، راح عالم تلك الروايات يؤثر فيها ما إن رأت نفسها مقيمة في ذلك المكان العتيق العَتم. وهكذا راحت تتصور أنها قد عثرت على مجموعة من المخطوطات الغامضة، ومن خلالها على كشف أمور سيئة حدثت في هذا المكان وكان الفاعل فيها هو الجنرال تيلني نفسه. وهكذا، أمام هذه الحبكة التي تحبكها كاترين لنفسها، لا يكون أمامها إلا أن تبدأ التصرف على أساس أن ما «اكتشفته» صحيح وأن ثمة مؤامرات وهمسات وأموراً غريبة تحدث من حولها. غير أن الجنرال سرعان ما يدرك ما يدور في بال الفتاة ويتمكن في النهاية من إقناعها بأن كل ما تتخيله إنما هو وليد قراءاتها وأن الحقيقة أكثر بياضاً وبساطة بكثير. في تلك الأثناء يكون شقيق كاترين المدعو جان قد أعلن خطبته على الصبية ايزابيل ثورب، قبل أن يفسخ الخطوبة إذ يتبين له أن ايزابيل فتاة سطحية مبتذلة التصرفات، غير أن شقيق ايزابيل لا يرضى بهذه الإهانة توجه إلى أخته، ويبدأ بإفساد سمعة آل مورلاند لدى الجنرال تيلني زاعماً أن هذه الأسرة مزيفة وليست ذات ثراء. هنا يسقط في يد الجنرال، فهو في الأصل لم يستقبل الفتاة ويهتم بأمرها، إلا لأنه كان «يخيّل» إليه أن ثروتها طائلة. وزوال «اعتقاده» هذا هو الذي جعله بالتالي يغض الطرف عن كاثرين حين جابهته قبل حين «بالأسرار» والوشوشات التي تقول إنها اكتشفتها معيداً إياها إلى «جادة الصواب». وهكذا، أمام هذا الواقع الجديد، لا يكون أمام الجنرال إلا أن يطلب من كاترين مبارحة المكان، قائلاً بكل برود أن «حقبة الضيافة انتهت»... لكن هنري، ابن الجنرال يكون في المرصاد هنا، إذ أنه يقرر في تلك اللحظة بالذات، وردّاً على أبيه، أن يطلب يد فاتنته. وإذ تتضح الصورة الزاهية الحقيقية للوضع المالي والاجتماعي لآل مورلاند هذه المرة، لا يعود أمام الجنرال إلا أن يوافق على الزواج. وتنتهي الرواية نهايتها السعيدة. قد تبدو لنا هذه الحبكة، في زمننا الراهن، بسيطة وتكاد تشبه مسرحيات البوليفار، غير أنها في زمن جين أوستن كانت أعمق من هذا بكثير، إذ أن نمط العلاقات الاجتماعية الذي صوّرته وسيّرت أحداثها على هديه، كان يعتبر تصويره في الأدب تثويراً ما للأدب وللمجتمع في الوقت نفسه. وبهذا تكون جين أوستن قد ضربت عصفورين بحجر: رسمت العلاقات الاجتماعية من منظور نقدي صارم، وقدّمت مرافعة حقيقية ضد أدب الخديعة الرومانسي «المرعب» الذي كان هو من سيّر خطوات كاترين في البداية. كما قلنا، إذاً، فإن رواية «كاترين مورلاند» لم تنشر إلا بعد رحيل صاحبتها بما لا يقلّ عن عامين. ومع هذا تقول لنا سيرة جين أوستن أن الكاتبة باعتها لأحد الناشرين في لندن فور إنجازها بمبلغ 10 جنيهات. لكن هذا تباطأ في نشرها، حتى عادت هي واشترتها منه في عام 1816، غير أنها لم تتمكن من نشرها، إذ اشتد عليها المرض في ذلك الحين، وماتت في العام التالي لتنشر الرواية بعد رحيلها وتضاف إلى سلسلة أعمال حققت لها مجداً كبيراً، ولا تزال حتى يومنا هذا تقرأ على نطاق واسع، ومن أبرزها إلى ما ذكرنا «عقل وعاطفة» (1811) و»إيما» (1816) ولا سيما «الكبرياء والهوى» (1813) التي تعتبر عادة نقطة الذروة في عمل جين أوستن الأدبي. [email protected]