الحكومة التركية الإسلامية الديموقراطية التي كانت تؤكد أنها ستعمل ما في وسعها من أجل السلام ومن أجل منع الحرب على العراق، طلبت من البرلمان الموافقة على اشتراك تركيا في الحرب. وحاول رئيس الوزراء عبدالله غل اقناع الكتلة البرلمانية لحزب العدالة والتنمية بالموافقة على قرار كهذا. أي أنه استجاب للضغوط الأميركية على حكومته. وكان رجب طيب اردوغان زعيم حزب العدالة والتنمية اطلع كتلته البرلمانية على الموقف التركي. إذاً كيف حصل هذا التغيير، وكيف تغير رأي الحكومة التركية من داعية للسلام إلى حكومة موافقة على الحرب؟ في الحقيقة ليس هناك أي تغيير، فالحكومة كانت قد وصلت إلى هذه النقطة الحاسمة من قبل. لنرى ماذا تفعل حكومة "العدالة والتنمية" في المشكلة العراقية. في تصريح لرئيس الوزراء غل أدلى به لصحيفة "حريت" قال: "نحن لسنا بلا قرار، ولكننا نحاول أن نعمل ما بوسعنا لايجاد حلول سلمية حتى لا يلومنا أحد بعد ذلك". إذاً، هذه المساعي ليست من أجل السلام، وإنما لا يلوم الحكومة أحد إذا ما وقعت الحرب. وفي اجتماعه بكتلته البرلمانية ذهب اردوغان أبعد من ذلك، وقال إن "على تركيا أن تفكر، براحة بال، بمصالحها القومية بعدما حاولت جاهدة العمل من أجل السلام في المنطقة"، فلا داعي للف والدوران إذاً، الأمور باتت واضحة. وفي تصريح لغل في 16 كانون الثاني يناير أمام المفوضية العامة للمجلس الأوروبي قال: "نحاول درس كل الاحتمالات قبل الحرب". وذكر النتائج التي قد تسفر عنها هذه الحرب، ومنها حلول كارثية في المنطقة وتنامي قوة الوحدة العربية وظهور مشكلة اللاجئين وغيرها. لقد كان من الأجدر على الحكومة التي تريد ايقاف الحرب، أن تعمل ما بوسعها، قبل أن تطلب من الآخرين فعل ذلك، فإذا كانت تريد وقف الحرب فعلياً، فكان عليها أن تواجه الولاياتالمتحدة بصراحة مطلقة: "لا نريد المشاركة في هذه الحرب إلى جانبك، أو أي جانب آخر، وعليك العدول عن فكرة الحرب". فهل زيارة غل لعدد من البلدان العربية ستقنع الآخرين بهذه المساعي؟ هناك أكثر من دولة عربية زارها غل ستفتح حدودها للقوات الأميركية التي تجري فيها تدريبات عسكرية منذ بضعة شهور. والأردن ومصر لهما علاقات مع إسرائيل، والسوق الصناعية التي تطمح تركيا إلى دخولها تقع بين مصر وإسرائيل والأردن والولاياتالمتحدة، وبما أن مصر تحصل على أكبر قدر من المساعدات الأميركية، فمن الصعب على تركيا أن تأخذ بقرار الابتعاد عن الحرب. أما بالنسبة إلى تركيا، فهي تشق طريقاً مختلفاً عن الدول المجاورة في المنطقة، فلديها ديموقراطية وحكومة مبنية على التعددية الحزبية، ودولة علمانية. ومن اللافت أن 90 في المئة من الشعب التركي يرفض المشاركة في هذه الحرب، ومع ذلك فإن الحكومة تستعد للمشاركة فيها. أما إذا القينا نظرة خارجية على تركيا، فسنرى أنها كانت خاضعة للنفوذ الأميركي خلال الحرب الباردة. جمهورية تكاد الديموقراطية تكون معدومة فيها، اقتصادها غير كافٍ، الشعب في حيرة من أمره، ودولة تديرها الانقلابات المدنية والعسكرية. وبعد انتهاء الحرب الباردة، حاول النظام التركي أن يواكب العصر، لكنه لم يستطع التخلص من الهيمنة الأميركية. فلولا الضغوط الأميركية لما كانت قمة هلسنكي وافقت على ترشيح تركيا لعضوية الاتحاد الأوروبي، وفي قمة كوبنهاغن الأخيرة كان لواشنطن دور في مناقشة موضوع تركيا. واعتبر الاتحاد الأوروبي أن تركيا هي حصان طروادة للولايات المتحدة. والطريق إلى قلب الولاياتالمتحدة يمر عبر تحسين العلاقات مع إسرائيل، إضافة إلى أن العلاقات التركية - الإسرائيلية ذات أبعاد استراتيجية عسكرية، وهي تكونت على أيدي عسكريتارية بحتة وما زالت على حالها. وإلى جانب هذا، هناك 90 في المئة من وسائل الدفاع التركية مختومة بالختم الاميركي. ربما تفكر حكومة حزب العدالة والتنمية الآن بشكل آخر، لكنها لا تملك القدرة على تغيير الصورة العامة لتركيا، فهذه العلاقات التركية تجعل دول المنطقة تقف مشدودة على أعصابها مع أنه بالإمكان التخلص من الشبهات بمجرد قولها لا للحرب. لكن هذه الحكومة الجديدة لا تؤمن بقوتها، ولا تثق بنفسها، وهناك ما يؤكد ذلك. ان تركيا ترغب في ايجاد حليف يؤيد موقفها، على ألا يكون من الدول الخمس التي اجتمع وزراء خارجيتها في اسطنبول لأسباب موضوعية. لذلك إذا كان الهدف الحقيقي لتركيا هو تحقيق السلام في المنطقة، لكان عليها أولاً أن تضغط على دول الاتحاد الأوروبي. فعندما قام عبدالله غل بزيارة إيران وعدد من الدول العربية، لم يقم وزير خارجيته يشار ياكيش ولا زعيم حزبه اردوغان بزيارة دول الاتحاد الأوروبي، مع أنه كان عليه الذهاب إلى الاتحاد لسببين أساسيين: الأول، لتكوين جبهة سلمية بعيدة عن أي ضغوط أميركية قبل المانياوفرنسا، لأن مجرد التفكير في منع قيام حرب في المنطقة، يتعلق بقرار تركيا الرافض للحرب ومنع أي قوات عسكرية من استخدام أراضيها وقواعدها. وكان من الممكن أن تدعو تركيا الاتحاد الأوروبي إلى تغيير موقفه المتخاذل تجاه هذه الحرب، مع أن تركيا قامت بالخطوة الأولى أثناء زيارة وزير الخارجية الألماني يوشكا فيشر إلى أنقرة، وإضافة إلى ذلك، قام رئيس الوزراء التركي باجراء بعض الاتصالات مع اليونان الرئيسة الحالية للاتحاد الأوروبي، لكن هذه الاتصالات ليس لها تأثير فعلي على مسار الأمور. من الصعب فهم اهمال تركيا لروسيا والصين، فلا توجد أية مبررات لعدم طلب تدخل روسي في المنطقة، ومع أن اردوغان زار الصين، إلا أنه كان عليه بدلاً من الصعود إلى أعلى نقطة في سور الصين العظيم، أن يطرح مشكلة العراق على الحكومة الصينية. السبب الثاني، ان زيارة يقوم بها مسؤولون أتراك لدول الاتحاد الأوروبي لن تقابل باستغراب المجتمع الدولي إذا تمت، ولكن كان على تركيا طلب المساعدة من الاتحاد الأوروبي، لأنها راغبة في أن تكون عضواً فيه، حيث تحاول حكومة حزب العدالة والتنمية تغيير مكتسباتها وحقوقها لتتلاءم مع شروط الاتحاد الأوروبي. وعلى أوروبا أيضاً أن تهتم بوضع تركيا وبوجهة نظرها تجاه هذه القضية، فقد أكد وزير خارجية اليونان باباندريو أنه سيسلك الطريق نفسه الذي تسلكه تركيا. وهذا التصريح، مع أنه جاء متأخراً، إلا أن تركيا لم تأخذ برأي الاتحاد الأوروبي في مسألة الحرب على العراق. ومن الممكن أن يتساءل الرأي العام إذا كانت للاتحاد الأوروبي مصلحة مع تركيا ليؤيدها؟ نعم، فالاتحاد المشوش فكرياً ليس لديه موقف موحد في السياسة الخارجية، لذا فموقفه مشتت حيال قضية العراق. فبعد الموقفين الألماني والفرنسي، صرح وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد تصريحه الشهير عن الموقف الألماني والفرنسي، وعلى الأثر قامت 8 دول من الاتحاد الأوروبي بتأييد أميركا في الحرب ضد العراق. إن جميع هذه التناقضات تشكك في موقف الاتحاد الأوروبي المتأرجح. ومع ذلك سيحاول الاتحاد تشكيل سياسة خارجية موحدة، عن طريق المؤتمر الذي ربما سيعقد في منتصف الشهر الجاري. لو كانت تركيا مصرة على الموقف السلمي، لضغطت على أوروبا أيضاً، لكن هل كان من الممكن الوصول إلى نتيجة لهذه الضغوط؟ ليس من الممكن أن نعلم من دون أن نسعى ونبذل جهودنا في مجلس اللجنة البرلمانية الأوروبية، وقد رفع أعضاء البرلمان شعارات تندد بالحرب ضد العراق، ما يؤشر على أنه من الممكن أن تكون المساعي مجدية إذا ما تمت على أكمل وجه. وحتى الرأي العام الأوروبي يؤكد رفضه الحرب رفضاً قاطعاً. وقد أعلن البرلمان الأوروبي اعجابه بقرار تركيا الساعي للسلام، ولكن كان على تركيا أن تعمل أكثر لكسب موافقة أوروبا على ذلك. فقد أعلنت أنقرة أنها ستطلب مساندة من الحلف الأطلسي، إذا ما تعرضت لعدوان عراقي. إن الدولة التي تريد السلام لا تطلب حماية خوفاً من عدوان عليها. لذلك كان على تركيا ألا تفعل ذلك، فحين قامت الولاياتالمتحدة بتقديم طلب باسم تركيا للحلف للمشاركة في الحرب، اعترضت فرنساوالمانيا وبلجيكا على هذا الطلب، لأنه يمكن أن يعرقل مساعي السلام. ومع كل هذا، أكد الممثل الأعلى للسياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي خافيير سولانا ان الدول الأوروبية ضد الحرب، لكنها لا تعرف كيف يمكن التعامل مع ازاحة إدارة ديكتاتورية عن الحكم. نحن نرى القضية العراقية على أنها "ازاحة الديكتاتوري". إنها نقطة بداية جيدة، ولكن الطريق الأول لحل سلمي، هو منع قيام الحرب، أي فعل المستحيل الذي لم تستطع الدول الأخرى فعله. هل سيستطيع البرلمان التركي أن يأخذ كل هذه الأمور في الاعتبار، فالحرب تحتاج إلى تركيا والسلام أيضاً يحتاج إليها، لذلك فحرب العراق هي حرب تركيا مع نفسها بين السلام والحرب * صحافي تركي، مدير قسم الأخبار الدولية في تلفزيون "ان تي في" التركي.