بغض النظر عن الطبيعة المأسوية لنهاية المركبة الفضائية كولومبيا فهي من الناحية الإعلامية البحتة حدث من النوع الأول يستجلب اهتمام جميع الوسائل الإعلامية، وفيه تجتمع عناصر التشويق الصحافي. ولهذا السبب تصدرت أخبار انفجار المركبة الصفحات الأولى في صحافة العالم وتبوأت نشرات الاذاعات والأقنية التلفزيونية. وأسباب التمحور الإعلامي حول هذا الخبر كثيرة: منها انشداد المتلقي للوسائل الإعلامية نحو أنواع الأحداث المأسوية، خصوصاً تلك التي تدور حول "موت الإنسان"، حيث أن الموت من أهم عوامل جذب اهتمام الرأي العام، ويعتبر هذا التصرف طبيعياً في حقل الإعلام الحديث والقديم حين كان التواصل يتم بواسطة وسائل بدائية جداً. فوجود جثة على قارعة الطريق يثير حشرية الفضوليين بشكل لافت. إلا أن حادث كولومبيا تتداخل فيه أسباب أخرى تتجاوز الإطار العادي للحشرية الإعلامية. منها نوعية الحدث الفريد وطابعه الخيالي وشبق المتلقي لكل ما هو غريب. فقد غزت مخيلة الإنسان المغامرة الفضائية منذ انطلاق "سبوتنيك" السوفياتي لغزو الفضاء، وبعدها هبوط أبولو على سطح القمر وصولاً إلى الرحلات المكوكية وإقامة المحطة الفضائية الدائمة. وساهمت الوسائل الإعلامية في نشر "ثقافة" غزو الفضاء لدى مختلف شعوب العالم. وبالفعل فإن تطور وسائل الإعلام المرئية وانتشار التلفزيون صادفا انطلاق المغامرة الفضائية التي شعر كثيرون من سكان الأرض بأنهم شركاء فيها. فقد تابع العالم على شاشات التلفزيون دورات يوري غاغارين حول الأرض وأحصى خطوات نيل أرمسترونغ على سطح القمر. ثم ساهم الإعلام في شرح خطط غزو الفضاء وتقنيته، ولعبت سينما هوليوود دوراً كبيراً في نشر "المستقبل الفضائي" وشحذ مخيلات الانسانية عبر أفلام تتجاوز الواقع والحقيقة، وسبقت مهندسي "ناسا" في وضع خطط غزو الفضاء وتصميم عربات فضائية. لكن مثلما هي الحال في كل ما يتعلق بالحشرية الإعلامية لدى المتلقين، تراجع الاهتمام بأمور الفضاء بقدر ما زالت عنه هالة الغرابة ومسحته ألوان الرتابة والتكرار. وكما يحدث بالنسبة الى كثير من "الموضات" تحول الاهتمام الإعلامي نحو موضوع آخر، وبات خبر رحلة فضائية مثله مثل أي خبر، يرد في سياق الأخبار وليس في مقدمها. وكما هو معروف فإن الرتابة والتكرار عاملان مناقضان للاهتمام العلمي. فرحلة كولومبيا التي هوت كانت الرحلة الرقم 28 منذ عام 1979 ضمن مجموع رحلات بلغت 113 رحلة، لكن الاعلام لم يتناول جميع الرحلات مثلما تناول الرحلة الأولى مثلاً والثانية وربما الثالثة. بينما يذكر الجميع التناول الإعلامي في عام 1986 عندما انفجر المكوك الفضائي "تشالنجر" بعد ثوان من انطلاقه وذهب ضحيته سبعة رواد فضاء. ويثبت هذا أن الحماس الإعلامي يفتر عندما تدخل الأحداث في نمط رتيب، وترتفع وتيرته عندما تخرج الأحداث عن المألوف. أي أنه بمعنى آخر لو كانت الحوادث الكارثية تتكرر مع كل إطلاق صاروخ أو مكوك فضائي، لكان الاهمال الإعلامي قد حلّ محل الاهتمام الإعلامي على رغم أعداد القتلى وتكرارها. وهذا ما يحصل في فلسطين، فيومياً يقع شهيد أو شهيدان برصاص الاحتلال، وقبل يومين فقط من تحطم كولومبيا، سقط ضحية يوم واحد من العنف الاسرائيلي 12 قتيلاً. ولكن الفارق الإعلامي بين قتلى الانتفاضة الفلسطينية وقتلى "حادث فريد" هو أن الضحايا الفلسطينيين دخلوا عالم "الرتابة الإعلامية" بينما قتلى المكوك الأميركي أتوا ليكسروا جليد تلك الرتابة. وكذلك الأمر بالنسبة الى احداث كثيرة في العالم، لكنها بتكرارها الرتيب تدخل في الظل الإعلامي وتخرج من دائرة الضوء الذي يمكن أن يدفعها إلى صدارة الأخبار. ففي كل يوم يقع قتلى في الكونغو منذ بضع سنوات على رغم الإعلان عن نهاية الصراع... إعلامياً. ولكن لا نجد ذكراً لهؤلاء الضحايا في وسائل الإعلام حتى في العاصمة كينشاسا وفي بعض الأحيان باتت وكالات الأنباء تهمل ذكر "اكتشاف جثة على طريق كيفو" أو "قتل عدد من رجال قرية وتهجير أو هرب ما تبقى من سكانها"! وفي أفغانستان أيضاً فإن عناصر من فلول "القاعدة" أو من حركة "طالبان" يهاجمون بشكل شبه يومي قوات النظام الجديد والقوات الأميركية وفي بعض الأحيان قوات الأممالمتحدة والمنظمات التابعة لها، لكن الوسائل الإعلامية تهمل الخبر الا إذا وقع الهجوم في وسط كابول! أو يذهب أحد أفراد "الجالية الأجنبية" أي من غير الأفغان ضحية للهجوم. وكذلك الأمر في كثير من المناطق في العالم. ويطرح هذا الأمر مسألة سعة المساحة الإعلامية المخصصة للأخبار المتكررة. فمن الطبيعي أن يثور الرأي العام الفلسطيني حين يرى أن أخبار ضحاياه تتراجع إلى طيات الأخبار الداخلية بينما يتصدر خبر مصرع متسلق جبال في سفوح سويسرا الأخبار. غير أن الأمر يتجاوز التجاهل الإعلامي أو "الفوقية العنصرية" في التعامل الإعلامي، فالأمر مرتبط بقدر كبير بأسس التواصل الإعلامي وبنمط حياة المتلقي الإعلامي. لكن هذا لا يمنع من أن وجود خطة إعلامية لدى فريق يسمح له بإبقاء قضيته على مستوى عال من "التوتر الإعلامي" ما يبقي أخبار قضيته في ساحة التناول الإعلامي باستمرار. والولاياتالمتحدة سباقة في هذا المجال والأولى بلا منافس. ولا ريب أنه لا يوجد مجتمع يؤمن بالتواصل وقوته وأهميته مثلما يفعل المجتمع الأميركي بشكل عام والإدارة الأميركية بشكل خاص. ويعيدنا هذا إلى حادث كولومبيا. فمنذ لحظة وصول الخبر دخلت أميركا في ما بات يسمى "أجواء 11 أيلول" تحت شعار "أميركا المجروحة"، فقد ظهر بوش على شاشات التلفزيون يعزي شعبه بالفاجعة، وهو أمر طبيعي وبديهي. غير أن الأجواء المشحونة التي تعتري العلاقات الدولية منذ 11 أيلول وانطلاق الحرب على الإرهاب اضافة إلى التوتر الذي يرافق تحضيرات الحرب المعلنة على العراق والتي تلاقي معارضة شبه عالمية، لم تكن غائبة عن التحضيرات الإعلامية التي رافقت الحدث منذ دخول أميركا في فترة الحداد على كولومبيا. فمن الطبيعي أن تنتهز السلطات المهتمة بدعم صورة أميركا في الخارج ودعم مشاريع الحكومة في الداخل فرصة الارتجاج العاطفي الإعلامية الذي سببته صدمة الخبر المأسوي غير المألوف، وتستعمله كرافعة إعلامية لها لتجديد الكسب العاطفي الذي حصلت عليه أميركا بعد 11 أيلول، وعادت وخسرته بسبب سياستها الاستفرادية مع أصدقائها قبل خصومها. وكذلك عرفت الوسائل الإعلامية الأميركية أن الفرصة سانحة لكسب "أصدقاء جدد لأميركا" بسبب الزخم العاطفي الذي يمكن البناء عليه بعد كارثة رواد الفضاء، خصوصاً بين الأصدقاء والحلفاء. فالإعلام الأميركي على خلاف وسائل الإعلام الغربية الأخرى يتصرف، على رغم الحرية التي يتمتع بها، مثل إعلام الدول التوتاليتارية وكأنه مكلف الدفاع عن مواقف "وطنه أميركا"، مهما كانت تلك المواقف وكأنه يطبق شعار "وطني دائماً على حق". وهو بذلك أقرب إلى الإعلام الوطني المؤمم في بعض دول العالم الثالث من الإعلام بمفهومه الغربي الحديث، ولكن فقط في ما يتعلق بالسياسة الخارجية والعلاقات بين أميركا والدول الأخرى. في المقابل وفي ما يتعلق بالسياسة الداخلية فإن الحرية التي ينتقد بها الحكومة ووكالاتها وسياستها هي حرية يحسد عليها حتى في بعض الدول الغربية المتقدمة، الأمر الذي ينطبق على الإعلام الأميركي وتحديه للمنطق في ما يتعلق بعلاقات أميركا مع الدول الأخرى وتسخيره طاقاته التواصلية للدفاع عن وجهة نظر دولته. والصحافة الإسرائيلية مثلها مثل الصحافة الأميركية قفزت على الحدث المروع لاستغلاله إعلامياً لمصلحة دولتها، ولتضعه في خدمة صراعها التاريخي. حتى أن نوعاً من المنافسة الإعلامية برز بين الصحافة الإسرائيلية والصحافة الأميركية في استغلال حادث المركبة الفضائية. ولم يتردد بعض المعلقين الاسرائيليين أو الأميركيين المتعاطفين مع إسرائيل في الحديث عن "حادثة مصرع الرائد الإسرائيلي ران رامون ورفاقه الستة" وكأن الرواد الأميركيين الخمسة والرائدة الهندية الأصل الأميركية الجنسية كانوا فقط مرافقين للرائد الإسرائيلي! إلا أن التعامل الإسرائيلي الإعلامي الأهم جاء في مجالات أخرى أكثر أهمية من المجال العاطفي. فقد تم التركيز على التعاون التقني بين الولاياتالمتحدة وإسرائيل ومستوى التقدم العلمي في إسرائيل. وهذه الرسالة موجهة بالدرجة الأولى الى من تعتبرهم إسرائيل أعداءها التاريخيين: العرب أجمعين قبل الفلسطينيين المحاصرين. وهي رسالة تفوق في الحرب الحضارية توجهها لجيرانها ولمحيطها القريب كسلاح ردعي، والى الرأي العام في الداخل على سبيل التطمين. أما بالنسبة الى الرأي العام العالمي فالرسالة تشدد وتكرر ما يسعى الإعلام الإسرائيلي للتركيز عليه منذ قيام إسرائيل، وخلاصته أن إسرائيل قطعة من الغرب المتقدم تشاركه مغامراته العلمية وتضحي بخيرة شبانها في سبيل التقدم والإنسانية. ووصول رسائل كهذه إلى الرأي العام العالمي هو بمثابة نقاط ثمينة يسجلها الإعلام الإسرائيلي تساعده في عمليات مقبلة عندما يكون عليه أن يجد تبريراً لجرائم جنوده ومستعمريه والمجازر التي يرتكبونها. وجاءت الصدفة لتخدم الرسالة الإسرائيلية، فالنبذة عن حياة الرائد الإسرائيلي تشير إلى أنه شارك في قصف المفاعل النووي العراقي العام 1981 اضافة إلى مشاركته في معظم عمليات قصف لبنان خلال خمس عشرة سنة. لكن ذكر المفاعل النووي العراقي في الظروف الحالية يقدم خدمة لا مثيل لها للإعلام الإسرائيلي وللإدارة الأميركية. فعلى خلاف ما كتبته صحف عربية لا "يفضح تحالف إسرائيل والولاياتالمتحدة" فالتحالف موجود ومعترف به ويفخر به الطرفان، بل هو يساعد إسرائيل للادعاء بأنها أول من "تنبه" الى خطر الأسلحة النووية العراقية، مما يبرر دورها كيد ضاربة للغرب في المنطقة، ويساعد الولاياتالمتحدة للإشارة إلى التاريخ النووي للعراق الذي يعود إلى أكثر من عشرين سنة. وبالطبع لم يشدد الإعلام العربي على كون العملية التي قامت بها إسرائيل في عام 1981 عملية قرصنة دولية في غياب أي قرار من مجلس الأمن، وهو ما تستعد الولاياتالمتحدة للقيام به مرة ثانية. لكن بالطبع لم يغب عن أي صحيفة عربية اسم موقع من المواقع التي سقطت فوقها شظايا المكوك الفضائي: فلسطين، على رغم أن هذه الصدفة لا تعني شيئاً في تفكير الرأي العام الأميركي يوجد أكثر من 33 قرية ومدينة صغيرة تسمى فلسطين في الولاياتالمتحدة و48 بلدة أو مدينة تسمى لبنان. وفي الوقت الذي يتحدث شارون عن "متابعة العمل في سبيل غزو الفضاء" لم نر أي محاولة إعلامية عربية للربط بين الجهد الإسرائيلي لغزو الفضاء... والأرض وبناء ترسانة نووية والتصرف كدولة عظمى. في حين أن 25 في المئة من السكان العرب في اسرائيل يعيشون مواطنين درجة ثانية، وهذا النوع من الرسائل هو الذي يؤثر في الرأي العام العالمي ويمكن أن يردع إسرائيل، عوضاً عن الانكفاء على الرأي العام الداخلي العربي والحديث عن وانتقام آتٍ من السماء