مساء يوم الجمعة 19 كانون الأول ديسمبر الجاري، أعلن العقيد معمر القذافي في بيان مفاجئ قرار ليبيا التخلص من أسلحة الدمار الشامل، بعدما كان طوال السنوات الماضية ينكر كلياً وجود برامج بهذا الشأن. المفاجأة الثانية جاءت من الرئيس جورج بوش شخصياً، الذي لم يتأخر بتثمين هذه الخطوة التي ستيعد ليبيا سريعاً إلى الأسرة الدولية. يبقى السؤال: هل تملك ليبيا فعلاً المواد التي تمكنها من صنع قنبلة نووية وأسلحة كيماوية، أم أن الأمر لا يتعدى كونه ورقة إضافية للرئيس الأميركي يوظفها في استطلاعات الرأي، على غرار ورقة اعتقال صدام حسين؟ غداة إعلان الزعيم الليبي معمر القذافي خبطته الإعلامية النووية، كشف مسؤولو الاستخبارات الأميركية أنهم عثروا خلال زيارات سرية لليبيا - من دون تحديد التاريخ - على برنامج لتخصيب اليورانيوم، أكثر تطوراً مما يُعتقد، إلا أنهم لم يعثروا على دليل لانتاج مطلي لمواد انشطارية تستخدم في الأسلحة النووية. فهل أن اكتشافاً خطيراً بهذا المستوى، ولو كان منقوصاً، لدى إحدى دول "محور الشر" ليس كافياً لتهديد السلم العالمي والغرب ككل، حتى لا تلجأ واشنطن كعادتها للتهديد والوعيد، كما لم تحرك الوكالة الدولية للطاقة للقيام بواجبها بالتفتيش على أرض الواقع؟ أحد المسؤولين الليبيين الذين شاركوا في بعض مراحل المفاوضات التي بدأت بين الأميركيين والليبيين بوساطة بريطانية في عواصم أوروبية ومغاربية، والذي أقصي في ما بعد بحجة "عدم مرونته الكافية"، أكد في مجالس خاصة أن ملف أسلحة الدمار الشامل لم يكن في وقت من الأوقات على جدول أعمال المحادثات الرئيسية. ببساطة، لأن الولاياتالمتحدةوبريطانيا تعلمان تماماً أن برنامجاً تصنيعياً من هذا النوع غير موجود أصلاً، وأن الحملة التي قادتها الإدارة الأميركية السابقة قبل أكثر من عقد مستخدمة اسلوب التهويل بالعصا الغليظة كانت كافية لثني بعض أطراف القيادة الليبية عن السعي لإمتلاك بعض المكونات التي تساعد في تصنيع عدد من الأسلحة المتطورة، وصرف النظر نهائياً عن الاستعانة بخبرة علماء من بلدان أوروبا الشرقية. يومها لوحت أميركا بضرب مصنع "الربطة" لانتاج الأدوية، الذي كانت إحدى الشركات الألمانية الصغيرة سلمته في نهاية الثمانينات. قبول الشروط والتزام العهود ويضيف المسؤول الليبي، الذي تقاطعت معلوماته مع معلومات مصادر فرنسية ومغاربية، أن واشنطن اشترطت، قبل الدخول في أية مفاوضات، موافقة مسبقة من الطرف الليبي، وبضمانة شخصية من العقيد القذافي - تولى نقلها في حينه العميد مصطفى الخروبي يرافقه سيف الإسلام معمر القذافي - على حسم جملة من الملفات والنقاط أبرزها: الإقرار من دون قيد أو شرط بالمسؤولية في قضية لوكربي ودفع التعويضات لعائلات الضحايا وفقاً للمبلغ المطلوب. كشف طبيعة العلاقات الاستخباراتية والتعاون العسكري الذي كان سائداً بين ليبيا وكل من إيران وسورية، سيما في مجال دعم حركات التحرر والمنظمات الموصوفة بالإرهابية. التوقف عن دعم المقاومة الفلسطينية مادياً. اخذ المواقف الأميركية في الاعتبار داخل القمم والمحافل العربية. الاستمرار في التعاون اللامحدود في محاربة الإرهاب الذي تقوده أميركا. دعم الاختراق الأميركي في افريقيا السوداء. كما ركزت المطالب الأميركية على تخلي ليبيا نهائياً عن فكرة تنويع الشراكات في مجال الهيدروكربورات وعدم الوقوع في الخطأ الذي ارتكبه الرئيس العراقي السابق صدام حسين في هذا المجال، كذلك الإعداد لاحقاً لمشروع قرار يقضي بفتح باب الاستثمار الأجنبي في هذا القطاع، ما يعني عملياً اعطاء أولوية شبه مطلقة للشركات الأميركية النفطية. وأخيراً تقريب الشخصيات المعروفة بتعاطفها مع الولاياتالمتحدة من مواقع القرار في السلطة. كل هذه الشروط بخطوطها العريضة تمت الموافقة المبدئية عليها من قبل طرابلس قبل أن تبدأ المفاوضات السرية التي أصبحت في ما بعد نصف علنية، تعمدت بريطانيا، بضوء أخضر أميركي، تسريب بعض ما دار فيها، تمهيداً لتحضير الأجواء أمام الرأي العام الأميركي والدولي. في السياق نفسه، أشار المسؤول الليبي عينه، إلى أنه عدا الوساطات التي جرت في شأن موضوع لوكربي تحديداً والتي قامت بها دول مثل المملكة العربية السعودية ومصر والمغرب وتونس وجنوب افريقيا بشخص الرئيس السابق نلسون مانديلا وبعض الأميركيين ممن يشكلون اللوبي المؤيد لعودة الشركات النفطية إلى ليبيا مثل شيستر كركور رئيس مجلس "اتلانتيك" وروبن ويست أحد كبار المسؤولين في عهد رونالد ريغان، لم تجر أية محاولات أخرى من هذا النوع، كما ذكر أخيراً بعض وسائل الإعلام العربية في شأن دور شخصيات عربية في قضية أسلحة الدمار الشامل الليبية. منذ اللحظة الأولى التي بدأت فيها المفاوضات، وحتى ما قبل "مفاجأة" القذافي الأخيرة، حرصت طرابلس على احترام التعهدات التي قطعتها للوسيط البريطاني، فقد عمدت في الاجتماع الثنائي، في بادرة حسن نية وتعاون جدي، إلى تسليم الطرف الأميركي لائحة بأكثر من 70 اسماً لإسلاميين من جنسيات عربية مختلفة مرفقة بإضبارات مفصلة عن نشاطاتهم السابقة والحالية مع اثباتات لعلاقة بعضهم بتنظيم "القاعدة". وأفادت مصادر بأن الأجهزة الليبية دفعت لجهات معينة ثمن اعتقال عدد من الإسلاميين بهدف تسليمهم لاحقاً. وفي جلسة المفاوضات الثالثة قدم أحد ممثلي ليبيا وثائق تثبت توقف بلاده عن دعم المقاومة الفلسطينية مادياً، وقطع علاقاتها مع حركات التحرر منذ العام 1993. وفي إطار دعم الاختراق الأميركي في افريقيا السوداء، وظفت ليبيا كل شبكاتها الموجودة في القارة، سواء تلك المرتبطة ب"جمعية الدعوة الإسلامية" التي يرأسها الدكتور محمد أحمد الشريف، أو العاملة لحسابها من خلال المؤسسات والمشاريع التي أنشأتها في الفترة الأخيرة "الشركة الافريقية - الليبية للاستثمار الخارجي" في خدمة الاستراتيجية التي وضعتها إدارة بوش، كما جندت قدراتها لإضعاف النفوذ الفرنسي في عدد من الدول الافريقية التي كانت تعتبر في الماضي نقاط ارتكاز وانطلاق للسياسة الافريقية لفرنسا. في إطار التوجه نفسه، نقل مقربون من القذافي رسائل إلى واشنطن مفادها أن طرابلس باستطاعتها ارباك كل من يحاول اعتراض السياسة الأميركية في هذه المرحلة مقرنة القول بالفعل. من هنا يمكن تفسير العرقلة الدائمة لليبيا لناحية حل عقدة التعويضات العائدة لأسر ضحايا طائرة "يوتا" الفرنسية. كذلك تراجع القذافي في اللحظة الأخيرة عن التفاوض ثنائياً مع الرئيس الفرنسي جاك شيراك على هامش قمة "5"5" التي عقدت في تونس لحسم هذه المشكلة، بعدما أعطى تعهداً بذلك للرئيس زين العابدين بن علي. ولم يكتف الزعيم الليبي بهذا القدر بل انه لم يأخذ الحساسيات الفرنسية في الاعتبار في تشكيلة الوفد الذي رافقه الى تونس.وذهب أبعد من ذلك، عندما فاجأه النوم عندما كان الرئيس شيراك يلقي خطابه في جلستي الافتتاح والختام لهذه القمة. وفي باب مبادرات حسن النية الأخرى، وجه قائد الثورة الليبية اشارات إلى واشنطن عبر الإعلان عن عزمه تقويض عدد من صلاحيات اللجان الثورية وسحب الامتيازات من بعض رموزها، كذلك الاستعداد الجدي لدخول اقتصاد السوق ووضع حد بذلك للاقتصاد الموجه "البغيض"، معلناً سلسلة من الاجراءات على الصعيدين المالي والمصرفي. كما نفذ الشرط المتعلق بتقريب شخصيات "معتدلة"من مواقع القرار بحذافيره، عبر فرض انتخاب غانم شكري وزير الاقتصاد السابق الليبرالي في موقع رئيس الوزراء من قبل المؤتمر الشعبي العام البرلمان، متحدياً بذلك إرادة بعض رموز مراكز القوى في النظام. كما قرّب منه عبدالله سالم البدري، وزير النفط السابق، الذي عمل مع وزير الخارجية الراحل عمر المنتصر، فكلاهما على علاقة ب"كونسورسيوم أواسيس" الواحات، الذي ضم في الماضي مجموعة من الشركات النفطية الأميركية العاملة في ليبيا، بحيث جعل منه المستشار الأول له. كذلك عزز مكانة الليبيين الآخرين والمعروفين باعتدالهم والداعين لتخصيص القطاع المصرفي، من أمثال جمال عبدالملك رئيس "بنك التجارة والتنمية الليبي" وأيضاً مبارك الشريف رئيس اتحاد غرف التجارة الليبية. ولم تتأخر واشنطن في الرد على هذه الخطوة الانفتاحية بأجمل منها، بحيث شجعت وفداً من صندوق النقد الدولي على زيارة الجماهيرية والخروج بتقرير علني يشيد بمتانة هذا القطاع وبالسوق المالية الليبية. استنتاجاً مما تقدم، لم تكن مسألة امتلاك ليبيا لأسلحة الدمار الشامل بين الأولويات التي تم التفاوض في شأنها، كما لم تكن من ضمن الشروط الرئيسية بغض النظر عن الحديث عن ضغوطات بوش وبلير كي تعترف طرابلس بحيازتها أسلحة محظورة، وكما أن الحديث عن "الدرس العراقي" بعيد عن الواقع، لأنه لو أرادت واشنطن ضرب نظام القذافي بحجة اقتنائه أسلحة الدمار التي تهدد الجيران... والولاياتالمتحدة، لكانت عبأت الدنيا عموماً وحلفاءها بشكل خاص قبل توجيه ضربة وقائية من السهل التكهن بنتائجها وانعكاساتها على نظام ذي قدرات عسكرية محدودة كالنظام الليبي. اما التقديرات التي نشرتها اميركا عن التسلح النووي الليبي الذي شهد تطوراً منذ العام 2001 أنظر الكادر فتبدو مركبة، حسب رأي غالبية خبراء دول الاتحاد الأوروبي، الذين تساءلوا عن عدم قيام واشنطن بالحد الأدنى من التحرك لوقف هذا التطور في حينه. وعلى رغم الشكوك وتضخيم قدر ات ليبيا في مجال التسلح النووي من قبل اجهزة الاستخبارات الأميركية بعد ساعات من تعليق الرئيس الاميركي وشريكه رئيس الوزراء البريطاني، في محاولة لإعطاء أهمية وجدية في الوقت نفسه، واعتبار الصفقة انتصاراً لهما، إلا ان الحقيقة تبدو بعيدة عن الواقع، اذ ان ليبيا لم تعد منذ حرب الخليج الثانية تشكل أدنى خطر على السلم العالمي. وما ابتعادها عن الحلفاء العسكريين السابقين، وقطع علاقاتها كلياً مع المنظمات الموصوفة بالارهابية، وخفض موازنة التسلح دون 5 في المئة من حجمها الاجمالي، وتحويل عدد من المصانع الثقيلة الى مصانع لانتاج مواد استهلاكية مصنعة، والتوقف عن التعاقد مع الخبراء الأجانب في جميع المجالات، ما عدا الصحة وبعض نواحي البنيات التحتية، سوى دليل على التزام ليبيا تعهداتها على رغم التذكير الأميركي بضرورة التمهل ومراقبة عدم الإخلال بها لاحقاً. الإنعاكاسات العملية للخطوة بعد تنفيذ هذه الشروط مجتمعة، وبعد الاعلان الأخير بالتخلي عن سعيها لتطوير أسلحة الدمار الشامل التي بحوزتها، ما أضاف انتصاراً "ديبلوماسياً شخصياً لمحور بوش - بلير، هل باتت الجماهيرية الليبية في الطريق لأن تصبح حليفاً جديداً لواشنطن في العالم العربي، وتحديداً في مغربه وبالتالي القارة الافريقية؟ هذا التساؤل مطروح داخل معظم الدوائر الغربية المهتمة بهذه المناطق من العالم. وعلى رغم الالتزام الشخصي بتنفيذ هذا التعهد، لا تزال بعض الأوساط في عواصم أوروبية معينة تشكك بإمكان تنفيذ الزعيم الليبي تعهداته حتى النهاية، في حين بدأت جهات اخرى تتحدث عن احتمال حدوث مواجهة داخلية في ليبيا مع تيارات لم تعد تقبل بتغييرات مفاجئة من هذا النوع، في الوقت الذي تحركت فيه جهات اخرى، نشطت في الأشهر الأخيرة بسرية مطلقة استعداداً لفتح الملفات المتعلقة بمصير عدد من المعارضين الليبيين. ومن المفارقات الأخرى، ان عدداً من رؤساء شركات النفط الاميركية مثل "ماراثون" و"أميراهيس" و"كونكو" و"اوكسي"، التي عملت سابقاً ضمن كونسورسيوم "الواحات" والتي لم تسحب التراخيص منها على رغم قطع العلاقات الديبلوماسية وتطبيق العقوبات التي استمرت نحواً من عقدين، كانت توصلت قبل 48 ساعة من اعلان القذافي المفاجئ في مفاوضاتها مع الإدارة الاميركية - تحديداً مع نائب الرئيس ديك تشيني - الى تفاهم يقضي بشطب ليبيا قريباً من لائحة "الدول المارقة"، آخذين في الحساب أهمية الاحتياطات النفطية الموجودة والمقدرة بحوالى 36 بليون برميل، غير مستغلة بما فيه الكفاية. من جهة اخرى، يفيد تقرير اعدته اللجنة الأوروبية في بروكسيل بعد توقيع اتفاق لوكربي واحتلال العراق، بأن الشركات الاميركية والكندية التي تملك فيها الأولى حصصاً مهمة بدأت تعود الى الساحة الليبية ولو على أطراف أصابع رجليها. أما بالنسبة الى المستثمرين فتحركوا بدورهم من خلال تكليف مكاتب متخصصة بدراسة الوضع ميدانياً، وإمكان نجاح الحكومة الليبية الجديدة، سواء في اصدار مشروع قرار بفتح باب الاستثمار في قطاع الهيدروكربورات والبتروكيماويات أمام الاستثمار الاجنبي، أم بالنسبة الى القطاعين المالي والمصرفي واصلاح القضاء وخلافه. على أي حال، يرى المراقبون بأن صفقة لوكربي والصفقات التي تلتها، السرية منها والعلنية وحتى الاستعراضيه مثل التخلي عن اسلحة الدمار الشامل، لا يمكن التعاطي معها بصورة انتقائية أو استنسابية، لأن الأمر بالنسبة الى واشنطن يتعلق في آن معاً بالمستقبل السياسي والاقتصادي والدور الاقليمي لليبيا في محيطها العربي عموماً والمغاربي بشكل خاص. وقد جاء المؤشر على ذلك عندما أعلنت الجزائر ارجاء القمة المغاربية بناء على طلب من ليبيا. ويعتبر هؤلاء المراقبون بأن ربط الجماهيرية بالسياسة الاميركية وتعويضها لنفط العراق مرحلياً، هو أحد المفاتيح الاضافية لنجاح الاستراتيجية الاميركية، ليس فقط في منطقة شمال افريقيا بل في القارة السوداء كلها التقدير الاميركي للقوة النووية الليبية أثبتت التقارير التي سربتها بروكسيل للتقدير الفعلي الاميركي لأسلحة الدمار الشامل الليبية، أن الجماهيرية، خلافاً لكل المعلومات التي رشحت في العام 1998 عن أنشطتها النووية بما في ذلك عملية الإخصاب لم تكن صحيحة بتاتاً. كذلك، لناحية استقدام علماء عراقيين فروا من بلادهم لاستخدامهم في تطوير البرامج. وافادت هذه التقارير بأن ليبيا أوقفت كل اتصالاتها مع كوريا الشمالية قبل هذا العام، ولم تعد تهتم بتطوير صواريخها من طراز "سكاد" من 300 كلم الى 1000 كلم. من ناحية أخرى استندت بروكسيل على تقرير "أو سونيك" الذي يعتبر بأن ليبيا لم تحقق تقدماً في برنامجها النووي منذ السبعينات، كما لا يشكل هذا الأخير بحد ذاته، حسب اجماع الخبراء، أية قدرة عسكرية خطرة ذات مصداقية. وتؤكد المعلومات الأوروبية بأن مسؤولين اميركيين وبريطانيين زاروا في شهر حزيران يونيو 2003 مواقع عسكرية في ليبيا تأكدوا خلالها من خلو هذا البلد من أي برامج نووية. اما في ما يتعلق بتخصيب اليورانيوم، فقد توصل الاميركيون الى استنتاج بأن ليبيا لا تملك حتى اليوم، كميات من شأنها المساعدة على التصنيع.