لا تحمل مبادرة العقيد الليبي معمر القذافي بالتخلي عن اسلحة الدمار الشامل قيمة من الناحية الاستراتيجية اذ يعرف الأميركيون والبريطانيون استناداً الى تقارير الاستخبارات العالية الدقة ان "الترسانة الليبية" لم تشكل يوماً خطراً على الأمن والاستقرار في حوض المتوسط على رغم ما قيل عن امتلاك ليبيا صواريخ يصل مداها الى اسرائىل وجنوب أوروبا. ويشير تقرير أعدته "فيديرالية العلماء الأميركيين" الى ان ليبيا كانت تخطط منذ ربع قرن لشراء محطة توليد طاقة نووية، وأجرت مفاوضات حول الموضوع مع الاتحاد السوفياتي السابق قبل ان تعدل عن المشروع لعدم ارتياحها الى التكنولوجيا السوفياتية في هذا المجال. وتحول الجهد الليبي اثر ذلك نحو الشركات الغربية، فتعاقدت طرابلس مع شركة بلجيكية لبناء المحطة عام 1984 بكلفة بليون دولار لكن المشروع توقف جراء ضغوط قوية قادتها واشنطن. وأبرمت السلطات الليبية اتفاقاً مبدئياً مع شركات في ألمانيا الغربية لبناء قواعد لإطلاق صواريخ بعيدة المدى، لكن المشروع أحبط للأسباب ذاتها. ويبدو ان الحكومة الليبية واصلت مساعيها في هذا الاطار في السنوات اللاحقة لدى شركات عدة في شرق آسيا، لكن المراقبة الأميركية الدقيقة والنقص الحاد في الخبراء والمختصين الليبيين حدّا كثيراً من طموح الزعيم الليبي. و"الانزعاج" الأميركي - البريطاني من ليبيا على مدى ثلاثة عقود لم يكن يستند الى ملف السلاح مع انه كان حاضراً على الدوام في أجندة الاتهامات الأميركية لطرابلس، والأصح ان واشنطن ولندن كانتا قلقتين ومستفزتين جراء دعم القذافي السخي للفصائل الفلسطينية ومساعدته للجيش الجمهوري الايرلندي باعتباره حركة تحرر وطني، فضلاً عن علاقات الجماهيرية المتشعبة مع اعداء الولاياتالمتحدة خصوصاً ايران وكوريا الشمالية وكوبا ونيكاراغوا في حينه. لذلك فإن قيمة الاعلان الليبي حول اسلحة الدمار الشامل فرضتها عوامل أخرى لا علاقة لها بالخطر الذي تشكله تلك الاسلحة، ولكن تحديداً في التحول الفجائي في موقف العقيد من احدى القضايا غير القابلة لهكذا نوع من المغامرات التي اعتاد العرب تلقيها منه، ثم في التوقيت الحساس للإعلان في ظل الاحتلال الاميركي للعراق واعتقال الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين. أحدثت مبادرة القذافي مفاجأة غير سارة لحليفتي الامس، سورية وايران، المتهمتين أميركياً بانتاج اسلحة الدمار الشامل وغيرهما من الدول العربية على رغم ترحيب بعضها بالمبادرة. واذا كان الايرانيون نجحوا في تخفيف حدة الضغوط على بلادهم من خلال السماح لمفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية بتفتيش منشآتهم، فإن سورية تواجه ضغوطاً أميركية فعلية عبر اقرار "قانون المحاسبة" الذي يستند في حيثياته على اتهامات اسرائىلية لدمشق بانتاج اسلحة الدمار الشامل فضلاً عن التهديدات الاسرائىلية شبه اليومية وتحريضها واشنطن على اتخاذ المزيد من الاجراءات العقابية ضد دمشق. وخطوة القذافي يترتب عليها في جانب آخر تحول جذري في توجهات الجماهيرية نحو واشنطن لتصبح للمرة الأولى منذ عام 1969 خارج المشروع الذي رفعته "ثورة الفاتح" في مواجهة "المشروع الصهيوني" و"الامبريالية الأميركية". وزاد القذافي ضمن تصريحه الاخير لمحطة "سي إن إن" على الرؤية الأميركية داعياً حلفائه السابقين الى "إزالة" اسلحتهم اقتداء بالخطوة "الجريئة" التي أقدمت عليها الجماهيرية. وفي كل التصريحات الواردة من طرابلس لاحقاً لم يشر أحد الى الترسانة النووية الاسرائىلية التي تضم بحسب تقارير الاستخبارات الأميركية والمعاهد الاستراتيجية الدولية وبين 200 و300 رأس نووي وعدداً من الغواصات. واللافت في تركيبة قصة المبادرة التي بدت كسيناريو جرى الترتيب له جيداً على مدى تسعة اشهر بين مفاوضين ليبيين وأميركيين بوساطة بريطانية عدم اعطاء طرابلس اي مكافأة او مقابل على هذا التحول الجذري في مواقفها. فلم تحصل ليبيا، كما هو مفترض، على ضمانات برفع الحصار الأميركي عنها على رغم الغاء مجلس الأمن الدولي عقوباته عقب اعترافها بالمسؤولية عن حادثة لوكربي ودفعها في آب اغسطس الماضي نحو 7،2 بليون دولار تعويضات لأهالي الضحايا. وبدت المبادرة كما أوردها بيان أميركي - بريطاني مشترك ك"صك غفران" طلبه القذافي من واشنطن، اذ تعهدت ليبيا بالتخلص من كل عناصر برامجها الخاصة بالاسلحة الكيماوية والنووية، والكشف عن كل نشاطاتها النووية للوكالة الدولية للطاقة الذرية والتخلص من الصواريخ البالستية التي يزيد مداها على 300 كلم وتزيد حمولتها على 500 كلغ. والقبول بالتفتيش الدولي لضمان الالتزام التام بمعاهدة حظر انتشار الاسلحة النووية والتوقيع على البروتوكول الاضافي، والتخلص من كل مخزون الاسلحة الكيماوية والانضمام الى الاتفاقية الخاصة بالاسلحة الكيماوية والسماح بعمليات التفتيش الفوري. وفي المقابل، لم يقدم المسؤولون الاميركيون اي تطمينات واضحة من اجل رفع اسم الجماهيرية عن القائمة الاميركية للدول الراعية للارهاب بانتظار التأكد من النيات الليبية او حسبما وعد الرئيس بوش ب"ان ليبيا يمكنها مع الوقت ان تحسن علاقاتها مع الولاياتالمتحدة". المبادرة الليبية تختلف عن كل الاستعراضات السياسية التي اقدم القذافي عليها خلال الاعوام الماضية، الآن ثمة انعطافة جذرية نحو أميركا التي خاض القذافي معها العديد من الجولات والمغامرات وتعرض على اثرها لقصف الطيران الاميركي عام 1986، فهل هو القلق من التهديدات الاميركية المتصاعدة بعد احتلال العراق وبالتالي بات القذافي يخشى بالفعل على نظامه ويريد تطبيعاً كاملاً مع واشنطن املاً بطي صفحة الخلاف واعادة الشركات الاميركية الى حقول النفط ومشاريع البناء الهائلة في ليبيا؟ المؤشرات الأولى لا تبتعد عن هذه التكهنات، خصوصاً بعد تصريح أمين اللجنة الشعبية العامة شكري غانم الى هيئة الاذاعة البريطانية تعليقاً على المبادرة بأن ليبيا استبدلت بسيوفها المحاريث".