ورشة إغلاق الملفات مستمرة في ليبيا. طرابلس ما برحت تفاجئ العالم بمبادرة تلو أخرى على نحو يعكس انتقال الجماهيرية من عصر إلى آخر. تتغير ليبيا، وتنتقل من عبادة الإيديولوجيا إلى امتهان الواقعية والبراغماتية. ويروج السلوك الليبي هذه الأيام على وقع "الدرس" العراقي وتداعياته على دول المنطقة. أغلقت طرابلس ملفاً آخر. هدّأت من روع باريس وتوصلت إلى اتفاق ينهي النزاع حول حادث تفجير طائرة "يوتا" الفرنسية. الاتفاق ينص على دفع 170 مليون دولار لتعويض أُسر 170 ضحية . ويتوزع أسر الضحايا على 17 جنسية بينهم إضافة إلى الفرنسيين أميركيون وبريطانيون وإيطاليون كانوا على متن الطائرة التي أسقطت فوق صحراء النيجر غرب أفريقيا عام 1989. جاء التوصل إلى هذا الاتفاق ثمرة مفاوضات طويلة متوترة عكست تنافراً دولياً تمثل في محاولة لندنوواشنطن تمرير سياق "العفو" عن ليبيا من دون مشاركة باريس. فالفرنسيون استهجنوا التعامل مع الضحايا الفرنسيين بتعويض أبخس من ذلك الذي أُقر لتعويض أُسر ضحايا طائرة لوكربي في صفقة لوكربي تدفع طرابلس 2.7 بليون دولار لأسر 270 ضحية. وذهب الحرد الفرنسي إلى حد التلويح ب"الفيتو" لتعطيل النيات الانفتاحية لليبيا وشركائها الأميركيين والبريطانيين. وبالفعل لم تنل ليبيا قراراً من مجلس الأمن يرفع العقوبات الدولية عنها، إلا بعدما سحبت فرنسا تهديدها باستخدام حق النقض ضد القرار، وبعدما حصلت أُسر ضحايا الطائرة الفرنسية على وعد بالحصول على تعويضات إضافية. الاتفاق الأخير يزيل عثرة أساسية كانت تهدد ليس فقط مستقبل العلاقات الفرنسية - الليبية بل حتى طموحات العقيد معمر القذافي الانفتاحية. وقد لوحظ التوتر في علاقة الزعيمين، الفرنسي والليبي، في أعمال قمة التجمع المتوسطي الذي عقد أخيراً في تونس. ففيما حذر الرئيس جاك شيراك من الآثار السيئة على علاقات البلدين في حال تعثر التوصل إلى اتفاق، تجاهل الزعيمان كل منهما الآخر خلال الجلسة الافتتاحية للقمة على رغم أنهما جلسا على منصة واحدة لا يفصل بينهما سوى مضيف القمة الرئيس التونسي زين العابدين بن علي. على أي حال ليبيا تتغير والعالم يقبل شروط تغيُرها. تعترف طرابلس ضمنا وحتى ظاهراً بمسؤوليتها عن تفجيري لوكربي و"يوتا"، وتقر ليبيا بذلك بخطأها في انتهاج "المسلك الثوري" وعودتها إلى "الطريق الصحيح". والعالم، بزعامة الولاياتالمتحدة، يقبل "التوبة" الليبية ويستهلك مفاعيلها عبر اتفاق المال مقابل التطبيع. بكلمة أخرى التغير الليبي لا يخضع فقط لمحددات داخلية ومزاجيات القيادة بل يتفاعل برضى العالم الغربي عبر التعاطي الإيجابي مع المسعى الليبي، وهو تفاعل معدوم في حالتي أفغانستان والعراق، وسلبي في حالتي سورية وإيران. سعت القيادة الليبية إلى تعبيد "الطريق إلى واشنطن" من خلال سلسلة دؤوبة من التحولات و"التنازلات" ومن خلال ردة على فكر الثورة الليبية وأيديولوجية زعيمها. إذ أسس العقيد القذافي زاده السياسي على اعتماد القومية العربية بالنسخة الناصرية منهجاً ودستوراً. وفي ظل هذا السقف، بشر قائد الثورة الليبية بالوحدة العربية، السياسية قبل الاقتصادية، وصاغ تجاربه الوحدوية الفاشلة مغرباً ومشرقاً، واستشرف طموحاته الأممية عبر دعم مالي ولوجستي لكل الحركات والأنظمة "المعارضة للإمبريالية" في محيطه الأفريقي مروراً بفلسطين وانتهاء بسود أميركا والجيش الجمهوري الإيرلندي ومتمردي نيكاراغوا، وضمن هذا السياق تدخلت الجماهيرية عسكرياً في أوغنداوتشاد الخارجية الأميركية قدرت في السبعينات حجم المعونات المالية للحركات الثورية بنحو 100 مليون دولار سنوياً. ونالت أحلام الزعيم الليبي الثورية من صلابة الجسد الليبي، فاصطدم الجيشان المصري والليبي، وتدخلت الطائرات الليبية محاولة اغتيال قائد الجماهيرية، وانهزمت القوات الليبية في تشاد، وقاطع العالم دولة الثوريين الليبيين بعد حادثتي لوكربي و"يوتا". خسر العقيد القذافي رهاناته الخارجية وتحوّل ليعيد دفع بلاده إلى حظيرة العالم الذي كرهه من خلال عملية استرضاء مالي يسيل لها اللعاب. فليبيا تتربع على ثروة نفطية تقدر الاحتياطات النفطية لديها بأربعة أضعاف تلك في الجزائر مكّنت العقيد من الذهاب بعيداً في منطقه الثوري وتمكّنه حالياً من الذهاب بعيداً في منطقه "العقلاني الواقعي". وربما أن المجتمع الدولي تنبه للعامل النفطي في أي عملية تحوّل ليبي حين استثني النفط من العقوبات التي فرضت عام 1992. تخلى العقيد القذافي عن العروبة. لم تعد الفكرة الوحدوية العربية هاجساً ودستوراً بل أضحت خياراً يتم التخلي عنه حين يخيّب العرب آمال زعيم الثورة الليبية على مدى فترة الحصار. قضى القذافي على فكرة العروبة بسبب العرب وانتقل إلى الخيار الأفريقي بسبب الأفارقة الذين تجرأوا على كسر المحظورات الدولية ضد ليبيا. لم تعد الفكرة العربية عمود الثورة الفقري بل إن طلب ليبيا الانسحاب نهائياً من الجامعة العربية وهي المؤسسة الوحيدة الباقية الشاهدة على احتمالية الوحدة العربية يؤكد نفور طرابلس النهائي من فكرة الوطن الكبير وتراجعها نحو الوطن الصغير وأولويات الذات. وأحلت ليبيا في تعاملاتها الخارجية منطق العلاقات الثنائية محل منطق التجمعات الإقليمية، وهي فلسفة قادت إلى إعادة بناء علاقات الجماهيرية الخارجية، وأنهت جُل الإشكالات والنزاعات التي عطّّّلت اندماجها الكوني. وحتى اندفاعة القذافي نحو أفريقيا استندت هذه المرة على منطق المصالح والاقتصاد بدل منطق السياسة والإيديولوجيا، لا سيما لدى تجمع الساحل والصحراء الذي أنشأته ليبيا شتاء عام 1998 تصل عضويته الحالية إلى 18 دولة من وسط أفريقيا وغربها وشرقها وشمالها. وتم تحضير الداخل الليبي للتغيير من خلال تبدل في الخطاب الاقتصادي للبلاد. لم تعد الاشتراكية حتى بتلوينتها الجماهيرية مصدراً للتشريع الاقتصادي. انتهى عصر الاقتصاد المحلي المؤمم وبدأ عصر التكيّف مع شروط العولمة. فتحت طرابلس باب الاستثمارات الأجنبية، واعتُمد مبدأ إشراك رساميل محلية ودولية بنسبة ما بين 30 و40 في المئة لا سيما في المجالات النفطية. كما دخلت الخصخصة قاموس الخطاب الاقتصادي الليبي وعلى لسان القذافي نفسه الذي دعا في حزيران يونيو الماضي وأمام المؤتمر الشعبي العام إلى خصخصة القطاع العام بما في ذلك قطاع النفط والمصارف، وتطبيق البديل وهو الرأسمالية الشعبية شركات يمتلكها الليبيون يحق لها الاستعانة بالخبراء الأجانب. ضمن هذا المنظار يتم فهم الاستعانة بنخبة ليبرالية اقتصادية، على رأسها شكري غانم تلقى علومه في الولاياتالمتحدة وله خبرة في مجال النفط الذي عيّن أمينا للجنة الشعبية العامة رئيس وزراء في ربيع العام الماضي ليقود عملية نقل السوق من تراثه الاشتراكي المركزي المحلي إلى دينامية الاقتصاد الحر. على أن التحولات الليبية على أهميتها بقيت دون المستوى المطلوب على المستوى الداخلي. فعملية التغيير الليبية تتم ضمن صفقات يفاوض بشأنها في واشنطنولندنوباريس وجنيف لتسوية نزاعات قديمة بين "الكيان" الليبي وأطراف هنا وهناك، فيما التشكيل السياسي الداخلي على حاله، إلا من تصريحات انفتاحية خجولة تصدر من وقت لآخر، ومن مبادرات متواضعة في شأن حقوق الإنسان. وربما أن هذا الملف سيبقى مفتوحاً ليس بسبب حاجة البلاد إلى تطوير أدائها السياسي الداخلي فحسب، بل لحاجة الدول الغربية إلى الإمساك بالعنق الليبي والتيقن من صدقية تحولات العقيد الواعدة. ُيراد للتحولات الليبية أن تصبح نموذجاً. العقيد القذافي نفسه دعا الدول التي تمتلك برامج سلاح دمار شامل إلى التخلي عن برامجها والاقتداء بالمثال الليبي. وُيراد للتحولات الليبية أن ُتستخدم فزاعة لدول ما زالت عصية في مجال أسلحة الدمار الشامل، ويمكن من هنا فهم الاتهام الموجه لباكستان بتزويد ليبيا بما يخدم برامجها النووية الرئيس الباكستاني برويز مشرف أمر بفتح تحقيق بشأن هذه الاتهامات فيما تحدثت واشنطن عن علماء باكستانيين "فاسدين" تصرفوا في شكل شخصي في هذه القضية. وُيراد للتحولات الليبية أن ُتحدث قطيعة في ما يخص ثقافة الصراع العربي - الإسرائيلي. فالقذافي سبق أن دعا إلى قيام "إسراطين" كدولة تضم فلسطين وإسرائيل، فيما تسريبات هنا وهناك تؤكد حصول اتصالات اسرائيلية-ليبية تنفيها طرابلس على نحو يوحي بأن عملية التطبيع مع إسرائيل أضحت مسألة وقت بعدما كانت مسألة مبدأ. أما العلاقة مع الولاياتالمتحدة فتحوّلت من طبعها النقيض إلى صيغة الحليف إلى درجة أن سيف الإسلام نجل الزعيم الليبي أشار إلى تعهد واشنطن حماية ليبيا من أي اعتداء، كما تحدث عن اتفاقات أمنية وعسكرية ستعقد مع الولاياتالمتحدة وعن قيام عسكريين أميركيين بزيارة ليبيا قريباً للاطلاع على احتياجاتها العسكرية. الحال الليبية تشكل أول نموذج للانخراط الأميركي في المنطقة. فالمبادرات الليبية الأخيرة تبدل من دور طرابلس في الدائرتين العربية والأفريقية، وتمنح واشنطن قاعدة متقدمة في شمال أفريقيا تعزز من وجود الولاياتالمتحدة العسكري والاقتصادي والسياسي في المنطقة. والحالة الليبية ستكون بالنسبة إلى الإدارة في واشنطن نموذجاً للدول التي تقرر التعاون معها والاتساق مع خططها. وإذا ما عرف العالم مصير من عصى، فإن المراقبين ينظرون بعين فضولية إلى المدى الذي ستذهب فيه الولاياتالمتحدة في هضم أعدائها "التائبين" واستيعاب ديمومتهم لا عدميتهم. * كاتب وصحافي لبناني.