اكتسبت القمة اللبنانية - السورية الأخيرة 18 الشهر الماضي أهميتها من الرسائل التي انطوت عليها أكثر منها المدة التي استغرقتها والاستقبال الذي لقيه الرئيس اللبناني، ولا بالتأكيد من الطابع الحميم الذي تعمّد الرئيس السوري بشار الأسد إضفاءه عليها. كما ان هذه القمة لم تقل بعد كلمتها في انتخابات رئاسة الجمهورية في لبنان خريف 2004. لذلك قيل فيها، استناداً الى مطلعين على نتائجها، أنها أعادت تصويب التوازن السياسي الداخلي في اتجاه ترجيح كفة الرئيس إميل لحود في إدارة الحكم والسلطة في لبنان. والأصح انها قمة توجيه الرسائل السورية الى اللبنانيين، والى المسؤولين، وتحديداً - أكثر من أي وقت مضى - الى أولئك الذين اختلفوا مع لحود. على أن القمة رمت في حصيلة الأمر الى جملة معطيات، منها: 1- تأكيد الموقف السوري بأن الرئيس اللبناني هو الثابتة الوحيدة التي من حولها يتغيّر الباقون، أو على الأقل يدورون في فلكها، ومن دون ان يكون هذا الموقف مؤشراً الى ان دمشق قررت خيار تمديد ولايته الرئاسية، الا انه أظهر في الواقع إرادة الأسد برفض أي تعرّض لموقع لحود في رئاسة الجمهورية، وهو أمر يشير أيضاً الى أن خيار التغيير الحكومي ربما يصبح في المرحلة المقبلة متاحاً أكثر من أي وقت سابق. ويتزامن هذا الاعتقاد مع ما كان نُقِل عن مسؤول سوري بارز عشية القمة من أن لا وقت غير مناسب أو وقت مناسباً للتغيير الحكومي بل ان المصلحة اللبنانية كما يقدّرها لحود هي التي توجب حصول مثل هذا التغيير، وتالياً توجيه رسالة سورية صريحة الى الداخل اللبناني مفادها ان خياراً كهذا هو رهن مشيئة الرئيس اللبناني يقترب أو يتراجع بمقدار التعاون مع لحود أو الخلاف معه. 2- لن تكون القيادة السورية، منذ الآن، في وارد تحديد موقفها من الاستحقاق الرئاسي اللبناني، تمديداً أو تجديداً أو انتخاباً لرئيس جديد. وفي الغالب لن تتخذ قراراً كهذا قبل حزيران يونيو 2004، في ضوء ما تكون رست عليه الأوضاع الاقليمية ومنحى التجاذب السوري - الأميركي والسوري - الاسرائيلي. اذ ذاك، وتبعاً للحسابات السورية، تجري دمشق مفاضلتها بين الخيارات التي تريدها من اليوم، وحتى ذلك الوقت، مفتوحة بفرص متساوية تماماً. فهي أكدت في القمة الأخيرة أنها تعتبر الرئيس اللبناني أحد عناصر القوة في مواجهة التحديات الاقليمية وحماية للعلاقات اللبنانية - السورية. وبمقدار ما لمّحت هذه الإشارة البالغة الدلالة الى خيار التمديد، إلا أنها لمّحت خصوصاً الى ان القيادة السورية تتصرف على قاعدة ان كل الخيارات لا تزال قائمة بتساوٍ جدي. والواقع ان القيادة السورية في الاستحقاقين الرئاسيين المتعاقبين الأخيرين اختارت شهر حزيران لتحديد موقفها من الانتخابات اللبنانية. في حزيران 1995 قررت التمديد للرئيس السابق الياس الهراوي وأبقت القرار سرياً حتى تشرين الأول أكتوبر من العام نفسه ليصار عندها الى تمديد ولاية الرئيس ثلاث سنوات. كذلك الأمر عام 1998 حينما قرر الرئيس الراحل حافظ الأسد دعم وصول قائد الجيش العماد إميل لحود الى رئاسة الجمهورية. فكان ان تبلّغ لحود في حزيران 1998 من رئيس الأركان السوري في ذلك الوقت العماد أول حكمت الشهابي عبر شخصية سياسية لبنانية قريبة من الرجلين قرار الأسد بانتخابه رئيساً للجمهورية. 3- خلافاً لواقع الحال الذي عرفه اللبنانيون على مرّ العهود الرئاسية، بحيث ساد تقليد رافق معظم الرؤساء، وهو أنهم، في السنة الأخيرة للولاية، يفقدون كل مقومات قوة عهودهم وهيبتها، فإن الطريقة التي اتبعتها القيادة السورية في التعامل مع هذا الأمر بدت مغايرة تماماً. فالهراوي ظلّ رئيساً قوياً للبنان حتى الدقيقة الأخيرة من ولايته الرئاسية، وفرضت دمشق حتى تشرين الأول 1998 تغليب وجهة نظره على وجهة نظر رئيس الحكومة يومها رفيق الحريري في مجلس الوزراء وخارجه، ولم تقل دمشق كلمتها في الرئيس الجديد الذي سيخلف الهراوي الا في القمة اللبنانية - السورية في 5 تشرين الأول 1998 ومن خلال الهراوي بالذات. الأمر نفسه بالنسبة الى الرئيس الحالي، سواء اختارت القيادة السورية لاحقاً بقاءه في الحكم أو انتخاب خلف له، فهو سيظل الرئيس القوي وصاحب الكلمة المرجحة في الحكم حتى الدقيقة الأخيرة من ولايته. والواضح ان دمشق، بمنحى كهذا، تحاول اصطياد هدف مزدوج: ان تبقي في يدها، حتى التوقيت المناسب، الخيارات المفتوحة على نحو متكافئ، في ضوء مراجعتها لتطورات الوضع في المنطقة، وفي الوقت نفسه ان تساعد الرئيس اللبناني، سواء استمر في الحكم أم خرج منه، على الاحتفاظ بكمّ كبير من الهيبة ما دام أحد أبرز حلفائها اللبنانيين، ان لم يكن أولهم، غير المتساوي بالباقين. 4- لم يقل السوريون حتى اليوم أنهم لا يريدون الحريري في رئاسة الحكومة اللبنانية، ولم يقولوا له بعد ان يترك السلطة بعدما بلغت علاقاته بلحود ذروة التردي، ولم يعد الاستمرار في التعاون والعمل معاً يُطاق. إلا أنهم، بمقدار معرفتهم بموقع الحريري في لعبة التوازن السياسي الداخلي، باتوا يشعرون بأن الرجل بات عبئاً على دعمهم للحود الذي يصر أمام القيادة السورية على أنه أضحى عاجزاً عن استكمال السنة الأخيرة من ولايته في ظل حكومة يترأسها الحريري. وهو ما بدا جلياً منذ نيسان أبريل الماضي عندما تألفت الحكومة الحالية ولم يكن لحود يريد الحريري رئيساً لها، إلا أنه رضخ لرغبة سورية في منح التعاون بينهما فرصة جديدة، مع تقديم دمشق ضماناً بدعم الحريري لكل ما يتطلبه الرئيس اللبناني في إدارة الحكم. مع ذلك فإن أوساطاً قريبة من لحود لم تتردد، على مرّ الأشهر التالية، في إشاعة مناخات تغيير حكومي جديد مرتقب في مواعيد متتالية، تارة في أيلول سبتمبر وطوراً في تشرين الأول ثم في تشرين الثاني. وفي كل مرة كان ثمة تأكيد ان الحريري لن يعود على رأس الحكومة الجديدة مع ترجيح بضعة أسماء بديلة. فقيل الرئيس رشيد الصلح أو النائب السابق تمام سلام، وفي بعض الأحيان جيء على ذكر الخصمين الطرابلسيين الرئيس عمر كرامي أو الوزير نجيب ميقاتي. ومع انقضاء الأشهر الثلاثة هذه بقي الحريري في رئاسة الحكومة الى ان جاءت القمة اللبنانية - السورية لتعكس من خلال رسائلها الضمنية أن التغيير الحكومي حقيقة واقعة، ولكن من دون تحديد موعد صريح لذلك. الا ان ذلك عنى أساساً ترك العلاقة بين الرئيسين من الآن وحتى رأس السنة الجديدة تستنفد كل امكانات التعايش بينهما، ليصار عندئذ الى البحث في الرئيس الجديد للحكومة إذا أراد لحود أن يحكم من دون الحريري. والواقع ان رئيس الجمهورية يتسلّح في حملته لإقصاء الحريري عن الحكم بشتى المعلومات عن الدور الذي يضطلع به رئيس الحكومة في مناوأة التمديد، ولم يعد الحريري يقصر أحاديثه عن معارضته هذه على مجالسه المغلقة، بل بات يتحدث عنها علناً في إشارة صريحة الى جهره برفض بقاء لحود في رئاسة الجمهورية بعد نهاية ولايته. ويبدو ان ثمة كلاماً كثيراً بلغ الى لحود كما الى السوريين عن جهد مثابر يقوم به الزعيم البيروتي من أجل الحؤول دون التحديد، وآخر ما كان نُقل عن لسان السفير الأميركي السابق في دمشق ادوارد جيرجيان منسوب الى الحريري يشير الى مسعى الأخير لدى الإدارة الأميركية للعمل على التدّخل ومنع التمديد للحود، وميله الى دعم ترشيح قائد الجيش العماد ميشال سليمان أو حاكم مصرف لبنان رياض سلامة لرئاسة الجمهورية. جيرجيان "عبد العرب"! ونُقِل مضمون هذا الكلام الى العاصمة السورية فغضبت، الأمر الذي أوجب قبل ثلاثة أسابيع عشاء مفاجئاً على يخت نائب رئيس الحكومة عصام فارس بعد اتصال أجراه به الحريري، وضم العشاء الوزراء غازي العريضي ومروان حمادة وفؤاد السنيورة، وأثير خلاله ما نُسب الى رئيس الحكومة، وهو كلام كان قد بلغ فارس أيضاً عندما التقى جيرجيان في عشاء خاص بينهما. فعمل الحريري على ايضاح موقفه نافياً ما نُسب اليه. علماً ان جيرجيان كان حضر الى بيروت في مطلع تشرين الثاني لبضعة أيام بدعوة من رئيس الحكومة وأقام في فندق في بيروت باسم مستعار هو "عبد العرب"، كما التقى مسؤولاً سورياً نسيباً للرئيس بشار الأسد جاء من دمشق الى البقاع، حيث اجتمعا قبل ان يتوجها معاً الى العاصمة السورية حيث التقى جيرجيان هناك وزيراً سورياً وثيق الصلة بالأسد. وكان المقصود بالزيارة المفاجئة للسفير الأميركي السابق معرفة صحة ما تردد عن وضعه تقريراً ينتقد فيه السياسة السورية حيال علاقاتها بواشنطن. ومن خلال هذه الزيارة اتسعت دائرة التكهنات والشكوك إزاء ما يمكن ان يكون أثير بين الحريري وصديقه السفير الأميركي السابق في دمشق حيال موضوع الانتخابات الرئاسية اللبنانية والتمديد للحود. وهو ما جزم الحريري بنفيه كلياً. 5- اقتران القمة اللبنانية - السورية بالتأكيد على الخيارات الاستراتيجية للرئيس اللبناني، سواء في السياسة الخارجية أم في إرساء العلاقات اللبنانية - السورية، وهي كانت موضوع إشادة مستفيضة من الأسد عندما وجد في نظيره اللبناني كل عناصر حماية علاقات البلدين ودعم المقاومة في الجنوب في مواجهة اسرائيل، خصوصاً أن الرئيسين اعتبرا هذه الخيارات مصدراً رئيسياً للاستقرار الداخلي في لبنان ولوحدته الوطنية. ويبدو أن هذا الجانب من قمة دمشق كان في صلب الزيارة المفاجئة التي قام بها لحود لبكركي في 21 تشرين الثاني، عشية ذكرى الاستقلال، وخلوته بالبطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير. واستناداً الى مطلعين على مداولات لقاء بكركي، فإن رئيس الجمهورية أكد لرئيس الكنيسة المارونية تعويله على خياراته في السياسة الخارجية وفي تعزيز العلاقات اللبنانية - السورية انطلاقاً من اعتقاده بأن تهديدات جدية تستهدف لبنان وسورية على السواء في المرحلة المقبلة توجب تضامنهما في جبهها. والواقع ان لحود يستمد قوة عهده من هذه الخيارات التي يجد فيها، وفقاً للمطلعين اياهم، عاملاً رئيسياً في تخفيف وطأة النزاعات الداخلية، وفي المقابل اكساب الوحدة الوطنية تماسكاً بفعل انحسار الانتقادات المتطرفة للدور السوري في لبنان بعد المواقف الإيجابية التي اتخذها بطريرك الموارنة منذ 4 آذار مارس الماضي عندما أرسى معادلة جديدة في التعامل مع سورية. على أن تسلّح لحود بالخيارات الاستراتيجية في السياسة الخارجية بدعم سوري مطلق يقلّص جزئياً من ثقل الخلافات بينه وبين فريق كبير من السياسيين اللبنانيين، لا سيما منهم حلفاء سورية كالحريري ورئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط والوزير سليمان فرنجية، وجميعهم يقفون على طرف نقيض من تمديد الولاية، إلا أنهم على وفرة خلافاتهم مع رئيس الجمهورية لن يكونوا حجر عثرة في وجه هذه الخيار إذا كان قراراً شخصياً للرئيس السوري. وهو ما أكده اثنان منهم على الأقل جهراً، كجنبلاط وفرنجية. ماذا بعد القمة اللبنانية - السورية إذاً؟ الواضح ان الرئيس اللبناني عاد من ثانية قمة علنية له مع الرئيس السوري بعد أولى في بيروت في 3 آذار 2002، واثقاً من امتلاكه وحيداً كل أوراق الحكم في مجلس الوزراء وخارجه حتى نهاية الولاية خريف 2004. على ان الأمر لا يقتصر على هذه الناحية فحسب، بل يشير في المقابل الى تراجع كل الأدوار الأخرى من حوله، خصوصاً أن القيادة السورية تولي الأهمية في المرحلة الحاضرة للاستحقاقات الاقليمية وتدير ظهرها لكل الخلافات الناشبة بين المسؤولين اللبنانيين على الملفات الداخلية. وبسبب هذا الاهتمام اتخذت موقفاً صريحاً في القمة بترجيح كفة رئيس الجمهورية بتعويلها على دوره في ضمان الاستقرار الداخلي من خلال توجيه الانتباه الى التهديدات الأميركية والاسرائيلية. وكل ذلك بمعزل عن انتخابات رئاسة الجمهورية التي لا تشعر دمشق بحاجتها الى استعجال اتخاذ موقف مبكر منها أو حسمها. أما التغيير الحكومي فمن المرجّح بتّه بعد رأس السنة الجديدة فور انجاز مجلس النواب اقرار قانون الموازنة العامة لعام 2004. وإذ ذاك تُفتح الأبواب على إخراج الحريري من رئاسة الحكومة، مع مجيء حكومة جديدة يريدها الرئيس اللبناني خالية من معارضيه في مجلس الوزراء، خصوصاً من الوزراء الموارنة المرشحين تقليدياً لانتخابات 2004. إذ في جانب من شكوى لحود للأسد عن عدم انتظام أعمال مجلس الوزراء انتقاده لغياب ثلاثة وزراء موارنة هم سليمان فرنجية وفارس بويز وخليل الهراوي عن جلساته وذهابهم الى الصيد، فضلاً عن الدور السلبي الذي يضطلع به رئيس الحكومة أيضاً في تعطيل إقرار المجلس مشاريع لا تحظى بموافقته، أو على الأقل لا يدرجها في جدول أعمال الجلسات عملاً بالصلاحية الدستورية الحصرية التي لرئيس الحكومة بوضع جدول الأعمال. ثم أتى أخيراً الغياب المتعمد للحريري عن العرض العسكري في ذكرى الاستقلال في 22 تشرين الثاني وعن الاستقبال الرسمي جنباً الى جنب مع رئيس الجمهورية بسفره الى السعودية، ليشير حكماً الى أن الحياة باتت لا تطاق بين الرئيسين اللذين لم يعودا يكتفيان بخصومتهما الشخصية وطباعهما المتعارضة، بل أضحيا مختلفين على كل شيء تقريباً، وكلاهما يستفز الآخر بفجاجة