بعد اسبوع على القمة اللبنانية - السورية الموسّعة في اللاذقية 13 نيسان/ أبريل الجاري، لا يزال اتفاق الرؤساء الياس الهراوي ونبيه بري ورفيق الحريري على سحب موضوع انتخابات رئاسة الجمهورية من التداول السياسي صامداً، بعد اقترانه بسحب مماثل من التداول لمشروع الزواج المدني الذي اقترحه الهراوي وصوّت عليه مجلس الوزراء 18 آذار / مارس بغالبية ثلثي اعضائه، فيما عارضه الحريري وخمسة من الوزراء القريبين منه. ويبدو ان التعويل على صمود نتائج تلك القمة، في هذين البندين الدقيقين على الاقل، سيكون كبيراً لأسباب عدة: بعضها يتصل بتفويض الرؤساء الثلاثة الى الرئيس السوري حافظ الاسد وضع يده مباشرة على ملف الاستحقاق الرئاسي و"اتخاذ القرار المناسب" في شأنه - وهو ما اكده بري صراحة لنواب التقاهم بعد 48 ساعة على انتهاء اعمال القمة وبعضهم الآخر بالمصير الذي آل اليه الاستحقاق في ذاته، بدفع تداوله الى تشرين الاول أكتوبر المقبل، الى موعد المهلة الدستورية لانتخاب رئيس جديد للبلاد بين 24 أيلول/ سبتمبر و24 تشرين الثاني/ نوفمبر. وفي الواقع، بعيداً من الاطار العام والمعلن لما اسفرت عنه نتائج قمة اللاذقية، افضى اخراج الانتخابات الرئاسية اللبنانية من سجالها السياسي المحلي الى المعطيات الآتية: 1 - لم يتم تفويض القيادة السورية بت مصير استحقاق هو في عهدتها اساساً، بمقدار ما انتُزعت من ايدي الافرقاء المحليين، لا سيما الرؤساء الثلاثة، لعبة خطرة في مرحلة اقليمية خطرة هي ايضاً على الدور السوري في لبنان. ذلك ان تأثير دمشق في هذه الانتخابات كبير، بل لعله في الوقت الحاضر وحيد، تماماً على النحو الذي اوصل الهراوي في 24 تشرين الثاني نوفمبر 1989 الى رئاسة الجمهورية. وعلى النحو نفسه الذي قضى بتمديد ولايته ثلاث سنوات جديدة في 19 تشرين الأول اكتوبر 1995، بعد 11 يوماً على تصريح للرئيس الأسد في جريدة "الاهرام" عن حتمية ذلك التمديد كان بمثابة دعوة قاطعة اليه. بل قد يكون الاصح القول عن تفويض الرؤساء الثلاثة الى الاسد "اتخاذ القرار المناسب" في شأن استحقاق 1998، اتفاقهم ارادياً على اخراجه من سجالهم العقيم حياله ومن تباعد مواقفهم منه، اكثر منه تفويضاً لمن هو في حكم المعني الاول - والوحيد كذلك - بالانتخابات الرئاسية اللبنانية. 2 - يقود الدافع الاول الى تأكيد امر مواز في اهميته للتفويض، هو ان القيادة السورية لم تُباشر بعد مناقشة هذا الموضوع على الاطلاق. ويجزم بهذا الاعتقاد وزير بارز قريب من دمشق بقوله ان المسؤولين السوريين المعنيين بالملف اللبناني من جوانبه المختلفة - وقد تكون لكل منهم وجهة نظر محددة حيال هذا الاستحقاق والمرشح المناسب له - لم يجتمعوا بعد الى طاولة واحدة لمناقشة الانتخابات الرئاسية اللبنانية، ولم يضعوا، تبعاً لذلك، آراءهم وأفكارهم واقتراحاتهم في تصرف الرئيس السوري الذي يعود اليه وحده، في آخر الامر، اتخاذ القرار النهائي. أكثر من موقف ويُضيف الوزير ان الاحجام السوري عن الخوض المبكر في الانتخابات الرئاسية كان لا يزال سارياً قبل قمة دمشق، بدليل المواقف والميول المتعددة الاتجاهات التي تطبع تعاطي المسؤولين السوريين مع هذا الموضوع، من دون ان يُكوِّنوا بعد - كل منهم - رأياً اخيراً لبت مصير هذه الانتخابات. فنائب الرئيس عبدالحليم خدام اشاد تكراراً امام نواب لبنانيين بقائد الجيش العماد إميل لحود، مُلمِّحاً الى الدور الذي تنتظره دمشق من الجيش اللبناني في مرحلة الاستحقاقات الاقليمية المقبلة، خصوصاً على صعيد تطبيق القرار 425، من دون ان يقرن اشادته تلك - ذات الدلالة اللافتة - بالموضوع الرئاسي. كذلك لم يتردد خدام في لقائه الهراوي، اثر اجتماع الاخير بنظيره السوري في قمة دمشق، في اتخاذ موقف كان له الوقع الصاعق على محدِّثه الرئيس اللبناني. اذ كلّمه الهراوي عن مآخذه على تصاعد المناخات المذهبية والطائفية في البلاد والحاجة الى مواجهتها، وعن الخلافات الناشئة بينه وبين مراجع اسلامية سياسية ودينية، ليخلص الى استمزاج رأي نائب الرئيس السوري في احد اسمين يقترحهما للرئاسة هما مرشحاه: وزير الخارجية وصهره زوج ابنته فارس بويز اولاً، ثم المدير العام للامن العام ريمون روفايل. ورد خدام - والرواية على ذمة الوزير البارز - مؤيداً الهراوي في اخطار مناخات المذهبية والطائفية هذه، ليقول له بعد ذلك بضرورة ايجاد "معالجة جذرية ونهائية" لها، لكن عن طريق انتخاب "رئيس عقائدي كنصري خوري الامين العام للمجلس الاعلى اللبناني - السوري وعضو الحزب السوري القومي الاجتماعي". 3 - دفع السجال السياسي في الانتخابات الى تشرين الاول المقبل، وتالياً تأجيل اجراء تعديل المادة 49 من الدستور لازالة المانع من انتخاب قائد الجيش الى هذا الموعد ايضاً، اوجد فرصاً متكافئة تقريباً لمرشحين آخرين غير لحود، اولهم رئيس الجمهورية بالذات. اذ اعاد الى الحسابات المحلية احتمال تمديد ثان وان هو اضعف الخيارات الاخرى على الاطلاق، لمس الهراوي استبعاداً سورياً له في قمة دمشق بينه وبين الاسد، ثم ما لبث ان ترجم هو بنفسه هذا الاستبعاد بسلسلة مواقف متلاحقة اكدت عزوفه عن اي تمديد ثان، ورغبته في ترك رئاسة الجمهورية لخلف له بعد انقضاء ولايته الطويلة. وتزامن هذا العزوف مع معلومات عن نتائج قمة دمشق رجّحت اجتماع البرلمان اللبناني في اثناء دورته العادية في نيسان وأيار مايو لإجراء تعديل على المادة 49 يوصل قائد الجيش الى رئاسة الجمهورية. بل قيل اكثر من ذلك على لسان وزير نافذ قريب من دمشق ومن رئيس الجمهورية ايضاً، بتأكيده ان اي تعديل للمادة 49 في نيسان او في أيار يعني حصراً انتخاب لحود رئيساً. مناخ رئاسي في مثل هذا الحجم من الحسم اللبناني المسبق لخيارات معركة الانتخابات قبل ستة اشهر على حصولها، كان يحتِّم مواجهة ازمة داخلية في حجم مماثل على الاقل، شأن الشرخ الوطني الذي تسبَّب به في مجلس الوزراء اولاً، ثم في الشارع التصويت على مشروع الزواج المدني. اذ على رغم انخراط مراجع سياسية ودينية في مواجهة هذا المشروع، ظهرت اسباب اخرى ينطوي عليها الانقسام على هذا المشروع وهي ربطه بالاستحقاق الرئاسي. فرئيس الحكومة بكَّر في اعلانه ان لا تمديد ثانياً لولاية رئيس الجمهورية، وذهب الى حد طرح مواصفات الرئيس الجديد على نحو يُظهرها كما لو انها نقيض مواصفات الرئيس الحالي. وفي المقابل لم يتردد نواب ووزراء يُكثرون من زيارة دمشق في نقل استنتاجاتهم من احاديث مسؤولين سوريين تتصل بإشادات بارزة بلحود والجيش اللبناني الى رئيس الجمهورية الذي لم ير بداً من مصارحة بعض محدثيه، قبل ساعات على قمة اللاذقية بأنه ينوي مكاشفة الرئيس السوري بهواجسه الشخصية، ومفادها رغبته في الخروج من الرئاسة وقد فاز بعلاقة خاصة معه، شبيهة بالتي جمعت الاسد بالرئيس الراحل سليمان فرنجية على امتداد سنوات طويلة، خصوصاً بعد انتهاء ولاية الرئيس اللبناني السابق العام 1976. فظلّ فرنجية - بفضل تلك العلاقة - في قلب اللعبة السياسية المحلية فاعلاً في مراحلها وفي صلب قراراتها، حتى ان الرئيس الاسد رشحه لانتخابات الرئاسة صيف 1988، في الجلسة العامة للبرلمان في 18 آب أغسطس التي عطّل انعقادها تفاهم ديبلوماسيين أميركيين في بيروت مع قائد الجيش آنذاك العماد ميشال عون وقائد "القوات اللبنانية" سمير جعجع. وذهب الهراوي في كلامه الى حدّ القول ايضاً انه سيطلب الى الرئيس الأسد ضمان المستقبل السياسي لأبنائه في تعاطيهم الشأن العام، تماماً على نحو الرعاية السورية، للدور السياسي للوزير سليمان فرنجية حفيد الرئيس السابق. قال الهراوي ايضاً لمحدِّثه - مُعبّراً له في الوقت نفسه عن اثر تلك الهواجس عليه - انه سيشكر الاسد على دعمه له في سنوات ولايته التسع ومساعدته في القرارات التي اتخذها، لكنه سيخبره بقراره العزوف عن طلب تمديد ثان لأسباب صحية كما لأسباب سياسية، منها عدم مقدرة البلاد ولا أوضاعها الداخلية على تحمله رئيساً لمرحلة جديدة. واذا كان الرئيس الهراوي اطلق بضعة ردود فعل تجزم بإحجامه عن طلب ولاية جديدة، دونما تسلميه بتعديل المادة 49 من الدستور، فإن ذلك لا يعني، في كل حال، انتصاراً لقائد الجيش وحده، بل كذلك للحريري الذي لم يُفوّت مناسبة لتأكيد معلوماته - لا اعتقاده فحسب - ان لا تمديد جديداً لرئيس الجمهورية. وهو الذي كان يبشِّر، قبل سنة ونصف سنة على الاقل من تمديد 1995 بإقبال البلاد عليه على قاعدة مواصفات الهراوي نفسه. وفي عصارة نتائج قمة اللاذقية، اضحى الاستحقاق الرئاسي مفتوحاً على كل الخيارات: فنظرياً، تتساوى حياله الاحتمالات حتى تشرين الاول المقبل التمديد للهراوي، انتخاب لحود، توافق على مرشح ثالث نائب في الغالب. اما واقعياً، فالامر قد يبدو مختلفاً الى حد ما، اذ يجهر مسؤولون ووزراء ونواب، في ضوء ما يستخلصون من احاديث مسؤولين سوريين، ان صفحة التمديد للرئيس الحالي قد طُويت، وإن لم يكن ثمة قرار نهائي بعد في ذلك، قبل ستة اشهر على موعد المهلة الدستورية لإجراء الانتخابات. ومن جهة اخرى لم يعد قائد الجيش صاحب الحظ الوحيد في الرئاسة، على ما كان عليه في المدة الفاصلة بين قمتي دمشق واللاذقية، مع انه لا يزال حتى الآن الاوفر حظاً. وباختصار بات جميع المرشحين الموارنة مدعوين الى حلبة التنافس، فيما القرار في يد واحدة هي دمشق. ولعلّ في هذا الانقلاب على المناخات التي رافقت قمة دمشق يكمن نجاح الهراوي الذي جعل تسمية الرئيس المقبل تمديداً او انتخاباً قراراً شخصياً للاسد بعد احتكام الرؤساء الثلاثة اليه في تفويض اللاذقية. وليس انتصاراً محلياً لأي من الافرقاء اللبنانيين، على غرار محاولة الحريري اشاعة تمديد 1995 على انه انتصاره الشخصي، بفعل كونه خياراً شخصياً انبأ به قبل سنة ونصف سنة من حصوله. ومع ذلك كلّه، ظلّ سؤال عالق عن نتائج قمة اللاذقية: اي من الرؤساء الثلاثة اقترح تفويض اتخاذ "القرار المناسب" في الانتخابات الرئاسية اللبنانية الى الرئيس السوري؟ الواضح ان كتماناً كبيراً يحوط بصاحب الاقتراح. على ان اجتهادات اوساط نيابية تشير الى رئيس المجلس نبيه بري، العارف الوحيد تقريباً على جاري العادة بين المسؤولين اللبنانيين، ان لا قرار سورياً في مصير الاستحقاق الرئاسي وفي الاسم المرشح له، بل لا مناقشة له بعد، في وقت يستعجل الباقون ما لا تستعجله دمشق بالذات: صاحبة هذا القرار .