لم تستوعب الطفلة حنين ابنة السنوات العشر من مخيم عايدة للاجئين الفلسطينين ما شاهدته عيناها. دبابات الاحتلال ومجنزراته تحيط بالمنزل، جميع افراد عائلتها يختبئون في الداخل لا حول لهم ولا قوة، ويتعالى أزيز الرصاص، ويتبعه دوي القنابل والقذائف وربما الصواريخ، ثم ينفجر المنزل، وعندما ينقشع الغبار يظهر والدا حنين جثتين بلا حراك. بكت حنين واخوتها. لم يكن أمامهم الا الهرب الى أقرب منزل يحتمون به، وكان منزل العمة. فركضوا مسرعين حتى لا تصيبهم غارة اخرى، لكن حظهم كان تعيساً، اذ ما ان دخلوا بيت عمتهم حتى جاءت غارة اسرائيلية اخرى واصابت المنزل. وهذه المرة وجدت حنين نفسها وحيدة بين خمس جثث: شقيقها وشقيقتاها وعمتها وزوج عمتها. كان ذلك منظراً مرعبا لهذه الطفلة التي ظلت وحيده، خائفة، ترتعد، تبكي وتصرخ... وتصرخ وتتمنى لنفسها الموت. وفجأة تفتح حنين عينيها. لا لم تكن تلك حقيقة واقعة، لكنها قريبة جداً من الواقع الذي يعيشه الشعب الفلسطيني، فهذا هو اصلا واقع حياة الفلسطينيين، لكن هذه الصور الفظيعة رافقت الطفلة حنين في حلمها الذي أيقظها في ساعات الفجر الأولى والدموع تنهمر من عينيها، ليس بسبب الخوف الذي رافقها في حلمها المرعب فحسب، بل لأنها لم تمت. لم تقع شهيدة. فوقفت امام نافذة غرفتها، شاردة في تفكيرها وتمنت في ذلك اليوم تلك الامنية التي يتمناها معظم الاطفال الفلسطينيين. لم تتمن حنين ان تصبح طبيبة او أن تسافر في نزهة الى "عالم والت ديزني"، او حتى تعيش حياة هنيئة وسعيدة كبقية اطفال العالم. كانت أمنية حنين ان تصبح شهيدة. وأمنية الطفلة حنين ليست أمنيتها لوحدها بل امنية معظم ابناء وبنات جيلها. 75 في المئة من اطفال فلسطين يحلمون ويتمنون ان يكونوا بين الشهداء، وربما هذا يفسر ظاهرة اقدام فتيان واطفال فلسطينيين على تنفيذ عمليات استشهادية. هذا القرار، كما يؤكد كثيرون، يتخذه الفتى لوحده، ربما باتفاق مع اصدقائه وابناء صفه في المدرسة، ولكن الاهل لا يعرفون نيات اطفالهم الا بعد تنفيذ العملية التي تصدم العائلة. في لقاء مع عدد من الاهالي، الاباء والامهات، كانت الردود متشابهة في رفض هذا التصرف اذ اعتبروا ابناءهم ضحايا. "الجهاد ان يتعلم ابني ويكبر ويحلم بشهادته الجامعية ويصبح انساناً واعياً مثقفاً. العلم هو الجهاد"، قالت ام احمد، الهام زقوت، والدة الفتى الشهيد يوسف زقوت 15 عاماً الذي نفذ عملية استشهادية في مستوطنة نتسريم في قطاع غزة مع اثنين من اصدقائه. وموقف زوجها لا يختلف كثيرا عن موقفها. كل ما يهم العائلة اليوم توعية بقية ابنائها على الخطأ الذي ارتكبه يوسف. ابني البكر احمد يكبر يوسف بعام واحد. حتى قبل ان يستشهد يوسف، كان همي الوحيد متابعة دراستهم والحفاظ على معدل امتياز. واليوم لا اترك احمد ساعة واحدة الا واتحدث معه حول ما فعله يوسف. بصراحة نحن نقول ان مقتله خسارة. انه طفل". أحلام سياسية ظاهرة استشهاد الاطفال الفلسطينيين، ومع كل ما تحمله من معان مأسوية واخطار على مستقبل المجتمع الفلسطيني، لا تأخذ حيز اهتمام من قبل المؤسسات المعنية، ربما لانشغالها في هذه الفترة الصعبة، بظواهر كثيرة تكون نتائجها الخطيرة مباشرة على المواطن الفلسطيني، من دون ان يبالي احد بخطورتها. لدى توجهنا الى العديد من المؤسسات لم نجد الاهتمام الكافي بالموضوع، والاخطر ان احداً لا يفكر في طريقة معالجة هذه الظاهرة واستدراك الاخطار المترتبة عليها، على رغم ان العديد من المؤسسات والمسؤولين مطلعون على الدراسة الخاصة التي اجريت حول الظاهرة من خلال حلم الطفل الفلسطيني والتي كشفت ان 75 في المئة من الفتيان والفتيات الفلسطينيين حلموا خلال فترة انتفاضة الاقصى ان يصبحوا شهداء. الدكتور شفيق مصالحة معد هذه الدراسة يقول ان ظروفا كثيرة تحيط بالطفل الفلسطيني تجعله يحلم بالشهادة، واللافت ان النسبة بين الفتيات لا تقل كثيرا عن الفتيان، وربما انعكس هذا ايضا من خلال تنفيذ العديد من الفتيات عمليات استشهادية، خلال السنة الثانية من انتفاضة الاقصى. أجرى مصالحة دراسته من خلال حوارات مع الاطفال وتحليل رسومهم التي تعبر عن احلامهم وتتحدث بشكل مباشر عن مواجهة الاطفال الفلسطينيين العدوان الاسرائيلي ومشاهدتهم له في الحي والمدرسة والبيت والتلفزيون. اطفال استيقظوا في ساعات الصباح مسرورين، فرأوا في الحلم فاتحة خير ليوم جميل، والسبب انهم حلموا بانهم استشهدوا. اطفال استيقظوا يبكون لانهم شاهدوا في الحلم جميع افراد عائلاتهم قتلى او شاهدوا الجيش يعتقل الوالد. ومن بين هذه الحالات كما يقول مصالحة طفل في الحادية عشرة من عمره من منطقة بيت لحم واسمه محمد، حلم انه وامه وعمته ذهبوا في نزهة في بيت لحم، وكما قال: "فجأة اقتربت منا دبابة اسرائيلية واطلق الجنود مدفعية فقتلونا جميعا واصبحنا شهداء الانتفاضة. لقد استيقظت من النوم وصليت لربي ليحقق حلمي". الطفلة آيات من مخيم بالقرب من بيت لحم لا تتجاوز العشر سنوات كتبت انها حلمت يوماً بأنها كانت تعد للعشرة ثم ضغطت على الزر وانفجرت السوق الاسرائيلية. اما ما حلمت به الطفلة لما، وهي أيضاً في العاشرة من عمرها من مخيم الدهيشة، فكان ابعد من ذلك بكثير. فقد حلمت انها فازت بمليون دولار من برنامج تلفزيوني واشترت بهذا المبلغ طائرة وفجرت اسرائيل بها. وتظهر في احلام الاطفال ايضا المستوطنات التي كما يبدو باتت تشكل كابوساً حقيقياً للاطفال الفلسطينيين. فالطفلة رواند 11 عاما من بيت جالا شرحت لمعد الدراسة ما حلمت به: "في احدى الليالي حلمت انني وجدت جسماً غريباً في الشارع، فناديت افراد الشرطة الفلسطينيين وطلبت منهم ان يفحصوا هذا الجسم فقالوا لي انه صاروخ لكنه لم ينفجر. عندها اقترحت عليهم ان نفجره معا ضد اسرائيل. وفي تللك الليلة رمينا الصاروخ على احدى المستوطنات ومات كثيرون من الاسرائيليين. وبعد ذلك تعلم افراد الشرطة كيف يصنعون الصاروخ ويرمونه على المستوطنات كل ليلة حتى انخفض عدد المستوطنات". وهناك احلام كثيرة بينها كيف يرى الطفل نفسه في الجنة بعد استشهاده والنعيم الذي يعيشه هناك وكيف ان الفلسطيني لا ينزف دماً عندما يستشهد. أحلام الطفل الفلسطيني بدأت تزداد قسوة وبشاعة منذ انطلاقة الانتفاضة الاولى، فأطفال تلك الانتفاضة اصبحوا شبابا وربما، كما يقول مصالحة ان من بين الذين نفذوا العمليات بعض الذين التقيناهم واجرينا معهم الدراسة. في الانتفاضة الاولى 1987 - 1989 عكست الدراسة وضعية الطفل الفلسطيني والمشاكل التي يعاني منها وتدفعه الى تنفيذ عملية استشهادية، وفي انتفاضة الاقصى، اي بعد 12 عاما اجرى مصالحة دراسة اخرى فتبين ان وضع الطفل الفلسطيني خلال هذه الفترة ازداد سوءا. فهو اقل سعادة ويفتقد لاي امل في الحياة وفي مستقبل افضل وهو على استعداد اكثر للاستشهاد. من خلال الدارسة تبين ان 90 في المئة من الاطفال الفلسطينيين يحلمون احلاماً سياسية و80 في المئة من الاحلام تتركز حول الصراع الفلسطيني - الاسرائيلي وتنعكس حالات من العنف. قبل الانتفاضة الاولى كانت نسبة الاطفال الذين يحلمون بالشهادة وتنفيذ عمليات ضد اسرائيل لا تتجاوز 28 في المئة، ولكن منذ انطلاقة الانتفاضة ارتفعت ووصلت الى 70 في المئة ثم الى 75 في المئة في انتفاضة الاقصى. ويقول مصالحة: "الاجواء التي تحيط بالاطفال الفلسطينيين تؤثر عليهم بشكل مباشر فتصبح رغبتهم في الاستشهاد تعبيراً عن العجز الذي يشعر به هذا الطفل امام ما يشاهده من عمليات قتل واغتيال وحصار وجوع وفقر واغلاق مدارس واعتقالات. ففي هذه الانتفاضة الطفل غير فعال في مقاومة الاحتلال، في حين كان في الانتفاضة الاولى في وضع مختلف من خلال مواجهة الجنود بالحجارة. في الانتفاضة الاولى كان يمكن الفتى ان يفرغ ما يشعر به من ضيق وغضب، اما في الانتفاضة الثانية فهو يواجه بشكل مستمر الدبابات والطائرات والصواريخ والغارات المسائية وكل هذا يجعله يعيش حالة نفسية صعبة". ويضيف مصالحة: "احلام الطفل الفلسطيني تنبع من خلال مشاهده اليومية، فهذا والده يستشهد، وآخر شقيقه يعتقل او جاره يهان ويذل ويقتل وسط الشارع. لقد باتت احلام الطفل الفلسطيني خالية من التفاؤل، فهو لا يحلم ببيت جميل ولا برحلة الى الخارج ولا حتى بشراء الملابس الجميلة. احلام اطفال فلسطين باتت قومية ووطنية وتتركز على طريقة الانتصار على اسرائيل واقامة الدولة الفلسطينية". ويشير معد الدراسة الى ان الطفل الفلسطيني يتأثر كثيرا لدى مشاهدته الفضائيات التلفزيونية بشكل متواصل لأنها تبث صور عمليات القتل والاستشهاد والجنازات والتدمير وهدم "بيوت، وهذا كله يؤثر على الطفل. وهنا تقع المسؤولية ايضا على الاهالي، اذ هناك حاجة الى عدم السماح لهم بالجلوس طوال الوقت امام شاشة التلفزيون، كما ان هناك حاجة لأن تضع المؤسسات الفلسطينية هذا الموضوع على رأس سلم اولوياتها لأن استمرار هذه الظاهرة سيشكل خطرا جديا على مستقبل المجتمع الفلسطيني". نحتاجهم لبناء فلسطين حادثة استشهاد يوسف زقوت، تتكرر بشكل مستمر وفي اغلب الحالات التي يستشهد فيها اطفال وفتيان يكون اكثر من طفل وفتى خطط لتنفيذ العملية. وكما تقول والدة الشهيد يوسف زقوت، ان احداً لا يشعر بأن الطفل ينوي تنفيذ عملية وتضيف: "لم نشعر يوما ان يوسف يفكر في تنفيذ عملية. صحيح انه كان يلازم الفضائيات ويتابع جميع الاخبار وكان يغضب لعمليات القتل. وأذكر انه غضب كثيراً عندما نشرت صور مجزرة جنين، وفي حينه قال لي "سأخرج وأقاوم المحتل والويل لمن يعترض طريقي". وكان عندما يشاهد جنازة شهيد يحزن كثيرا، ولكنه لم يلمح امامنا الى نيته تنفيذ عملية استشهادية. وتذكر ام احمد ان ابنها يوسف تألم كثيرا لزميله هيثم ابو شوكة الذي استشهد قبل يومين من استشهاد ابنها، وتقول: "لم نتوقع ولا في أسوأ احلامنا ان يقوم ابننا يوسف الذي ما زال طفلا بعملية استشهادية كهذه. بصراحة ما فعله ابني هو خطأ كبير. أرى في موته خسارة كبيرة". ويضيف باسم زقوت والد يوسف: "الجهاد رسالة في قلب كل فلسطيني، ولكن دور ابني لم يأت بعد، وخطأ كبير اذا هللنا لعمليات استشهادية يقوم بها اطفال وفتيان، فهؤلاء نحن بحاجة ماسة إليهم، هؤلاء هم مستقبلنا واستمرار العمليات الاستشهادية لهؤلاء الاطفال يعني تفريغ الشعب الفلسطيني من جيل بكامله. بصراحة اقول هؤلاء غير قادرين في جيلهم على اتخاذ قرار، ونحن نحتاجهم بعد سنوات لبناء الدولة الفلسطينية" وصية يوسف زقوت مقاطع من الوصية التي تركها يوسف زقوت لعائلته، ننشرها كما كتبها من دون تعديل حتى في الاخطاء اللغوية "الصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام. أما بعد: أماه لا تحزني فحزنك سيعذبني أأنت راضية علي؟ أرجوكي ارضي علي يا أمي. أمي أرجوك أن تدعو لي بالرضا والتوفيق في هذه العملية الاستشهادية أنا وإخوتي في الله وأنا أفدي روحي في سبيل الله والوطن فابنك شهيد فابنك شهيد. أمي لا تبكي فبكاؤك لا يرجعني إلى الأرض فأنا بإذن الله في جوار ربي في جنات الفردوس مع الشهداء فأوصيك أمي أن تدعي لي بالرضا والاطمئنان ودخول جنات الله وان يرضى الله عني. أوصيك بالمحافظة على أبي واخوتي الأعزاء وأن تخرجي استشهادي ابن غيري وان تحافظي على تحفيظ اخوتي القرآن لأنه الشافع. أقول لك سامحيني لأنني ذهبت دون أن أودعك وأودع إخوتي، أقول لك يا أبي سامحني لأن غضبتك أحياناً أرجوك أن ترضى عني حتى يرضى الله عني وأن تدعو لي في صلاتك فالعبد يكون أقرب ما يمكن إلى ربه في الصلاة وأوصيك أن تسامحني على كل قرش أخذته منك، أوصيك أن تدفع لسوبر ماركت عماد 1.5 شيكل وأن تعطي شريط مشاعل القسام لماهر وقاد وشريط لماذا لا نصلي لسامي ظاهر فهو وهؤلاء الآخرين في فصلي وأوصيك أن تعطي كتاب أمثال شعبية وكتاب حسن ابن الهيثم للأستاذ حمدي "أمين المكتبة" وأن تعطي المصحف الصغير جداً وهو عبارة عن مصحف فيه سلسال والليزر القلم إلى فاروق سليم وهو في فصلي فالقرآن موضوع في الحقيبة البلاستيك وهي موجودة في درج الخزانة الأسفل والليزر في الحقيبة أيضاً. فأرجو من أساتذتي ومعلمي في المدرسة أن يسامحوني إذا كنت أتعبتهم أو أغضبتهم وخاصة الأستاذ صبري الفاضل... الخ. فأوصيك يا أبي أن تطلب منهم أن يسامحوني ويدعوا لي وأن تطلب من زملائي في الفصل أن يسامحوني وأقول لك يا أشرف أنت ونضال ألا تحزنا عليّ أرجوكم أن تدعوا لي ولا أنسى إخوتي في المسجد حيث أوصيهم بالدعاء والمحافظة أكثر على الصلاة وأدعو كل من لا يصلي أن يذهب للصلاة ومن يدخن من أقاربي أو زملائي أن يقلعوا عن التدخين فهو حرام وأوصيكم بصلاة الفجر والعشاء فأنا والله لأحب عليّ أن اصلي الفجر في المسجد، وأوصيكم بحفظ القرآن فأنا كنت أنوي حفظه كاملاً إن شاء الله ولكن نيتي للشهادة كانت أسبق فأنا كنت أنوي حفظه عند أبا إبراهيم فأرجو أن يكتب الله لي اجر حافظ القرآن وأوصيكم بصوم يومي الاثنين والخميس وأوصي أقاربي من إخوة أبي للدعاء لي والمحافظة على الإسلام أوصي أقاربي من أخوات أمي للمحافظة على الإسلام والقرآن والدين وأقول لك يا أخي العزيز أحمد أنت واخوتي: رؤية وأمل ومحمد ومؤمن وداليا بالمحافظة على الصلاة والدين والحرص على سماع الخطب والقرآن لا الأغاني. وأقول لك يا أحمد حافظ على مسيرة العلم ولا توجه نظرك للشارع بل للمسجد والمدرسة، وفي ختام وصيتي أقول لكم ادعوا لي ولاخواتي المجاهدين. اللهم إن هذا العمل "خالصاً" لوجهك الكريم فوفقني في قتلهم وأمتني شهيداً ويسر مدخلي واجعل قبري جنة من جناتك لا حفرة من حفر النار. والحمد لله رب العالمين على كل شيء من يتبناني هي الحركة الإسلامية "حماس" من يدفنني أن يجعل قبري كقبر الرسول والصحابة أي على السنة. واجعلوا عزائي يضع فيه القرآن الكريم في معظمه. لا أحد يبكي عليّ فأنا لا أرغب في ذلك. أوصيكم أن تدفنوني مع اخوتي الاستشهاديين إن سمح الأمر. وأوصيكم أن يذهب أحدكم كل فترة إلى قبري يقرأ على روحي القرآن".