"ولو انا كتبنا عليهم ان اقتلوا انفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليلٌ منهم..." سورة النساء آية 66. "هذه الآية التي سوّت بين قتل الأنفس وبين الخروج من الديار، تذكّر بمواقع الديار من قلوب العباد" من رسائل الجاحظ في حب الأوطان. وما نراه ونسمعه اليوم من صعود ثقافة تقبل قتل الأنفس/ الاستشهاد في الديار الفلسطينية، يدل الى خيار انهاء الحياة كحل لإنها آلام "الجماعة"، أو التضحية بالحياة في سبيل حيوات أخرى. والمنطق الخاص - العام إنما الأعمال بالنيات وانما لكل امرئ ما نوى يلجأ اليه الذين لهم حساسية، ويشعرن تجاه مجتمعاتهم انهم مدفوعون الى الدور الناشط، فيختارون في الاستشهاد رسالة يبعثون بها الى ذويهم ومدرّسيهم وقادتهم يعبّرون فيها عن ارتباطاتهم اللصيقة بهم. وتصل الرسالة الى العدو في أسواقه ومحطات الباصات وعند نقاط التفتيش وفي المقاهي، أي رسالة النكاية به، وتحقيق الاضطراب والهلع والقلق في نفوسه، والموات السريع أو البطيء لمواطنيه حسب الاصابة. وتصاغ هذه الرسالة على جناح السرعة الى أصحاب القرار في المزارع الأميركية لتصب في خطاب الإرهاب "المعولم" بدلاً من الإقرار ب"حق المصير" للشعب الباقي من فلسطين. لكن، في نظر المنفّذين/ المنفذات للعمليات الاستشهادية فإن الاستشهاد هو تبادل وجهات الضيق في الصدور والبيوت وحتى في القبور التي يشعر بها الفلسطينيون اليوم. هذه المقالة تأخذ في الحسبان ظاهرة الاستشهاديات في الانتفاضة الفلسطينية الثانية أيلول/ سبتمبر 2000 - وحتى اليوم وقد سمّين الاستشهاديات لأنهن وقعن أسماءهن بذلك ولأن ذويهن سموهن كذلك، والكتائب التي تبنّت استشهادهن خلعت عليهن اسم الاستشهاديات. والاستشهاديات بعد الاجتياح الاسرائيلي للضفة الغربية كن أسيرات حالات الحصار الجماعي، مغلق عليهن داخل دوائر المخيمات الفقيرة المغلقة أو القرى المعزولة الجدباء. ومحظور عليهن التجول بسبب نقاط التفتيش الموزعة على المعابر والمفارق، وكثيرات منازلهن مهدمة وآباؤهن واخوتهن وأبناء عمومتهن ميتون أو مائتون لم يموتوا بعد أو معتقلون أو قيد المحاكمة... انها نفوس مضى عليها أكثر من عام محطمة، خارج الأعراف الاجتماعية ومن دون روابطها الانسانية. ومع هذا فالأخذ في الحسبان ظاهرة الاستشهاديات في الانتفاضة الفلسطينية الثانية ضروري لأن مسألة استشهاد "الفتيات" مقابل استشهاد "الفتيان" تعد نمطاً لا سابق له في تاريخ الشهادة الفلسطينية منذ ثلاثينات القرن الماضي. عرفت في التاريخ العربي ظاهرة الاستشهاديات النجرانيات المسيحيات الشريقات منهن والإماء، بعد الاضطهاد العنيف الذي أوقعه على نصارى بلاد سبأ وحمير - اليمن سنة 523م - مسروق ذو نواس الذي تهوّد وتملّك على تلك الديار فاتكاً ببعض آلاف منهم "إذ هدّ لهم الأخدود، وحرق بالنار، وقتل بالسيف، ومثل بهم كلّ مثلة" انظر "الشهداء الحميريون العرب في الوثائق السريانية" تأليف اغناطيوس يعقوب الثالث، دمشق، 1966. بدأت الظاهرة مع الاستشهادية وفاء ادريس 28 عاماً التي أثارت الحماسة لدى اترابها بأن كانت لها الأسبقية في اطلاق المرأة الفلسطينية هجمات استشهادية هدفها قتل أكثر عدد ممكن من الاسرائيليين "المدنيين" و"غير المدنيين" أفتى علماء الأزهر الآتي: "ليس لمغتصب حرة ما أقام على اغتصابه، ولا لدمه عصمة، وان اليهود مغتصبي فلسطين لا يعرفون التفرقة بين مدني ومحارب. فجميعهم أهل حرب، ولا أدلّ على ذلك من ان سفاح المسجد الابراهيمي "غولدشتاين" الذي يحسبونه الآن في عداد الأبطال، لم يكن سوى مدني... مجلة "فلسطين المسلمة"، أيار مايو 1996. وانظر رأي الفقهاء في "العمليات الاستشهادية في الميزان الفقهي"، اعداد نواف هايل تكروري، دمشق 1997. ولم تترك وفاء ادريس وصية أو رسالة الى ذويها كما فعلت سناء محيدلي 17 عاماً، أول استشهادية لبنانية في معركة تحرير جنوبلبنان، استشهدت في 13-4-1985 حين اقتحمت بسيارة مفخخة تجمعاً لآليات على معبر باتر - جزين. ولم تخاطب ادريس الحكام العرب والاسرائيليين بكلمة كما ستفعل دارين أبو عايشة 21 عاماً التي استشهدت بعد وفاء ادريس بشهر واحد 27-2-2002، والتي فاجأت الكثيرين بدراستها الجامعية سنة رابعة الأدب الانكليزي - جامعة النجاح الوطنية. وتكررت الظاهرة مع الباقيات اللواتي كنّ أقرب الى عمر الطفولة منهن الى عمر الرشد: نورا شلهوب أقل من 16 عاماً وآيات الأخرس 18 عاماً وعندليب طقاطقة 20 عاماً. فهذه الظاهرة على غرار الاستشهاديين الذكور تقدم أفواجاً من العمر الفتي، سكان المخيمات وفاء ادريس من مخيم الأمعري وآيات الأخرس من مخيم الدهيشة والقرى المبعدة قسراً وليس في الجغرافيا - دارين أبو عايشة من قرية بيت وزن قضاء نابلس وعندليب طقاطقة من قرية بيت فجار القريبة من بيت لحم. هؤلاء الاستشهاديات الفلسطينيات المسلمات مقابل الفلسطينيات غير المسلمات ملتزمات اللباس الشرعي عدا وفاء ادريس جميعهن محجبات الشعر ولاحظ ذووهن أخيراً تواصلن كثيراً مع الصلاة وقراءة القرآن كان دارين أبو عايشة صائمة يوم استشهادها. ولا يندب الاستشهاديات الفلسطينيات الشابات المسلمات ساكنات المخيمات أو القرويات "حماس" أو "سرايا القدس" الجماعة، ذلك للموقف المتشدد عند الحركتين في رفضهما استقطاب الفتيات للشهادة كما سمعنا الشهيد جمال منصور، القائد في "حماس"، يقول لدارين عندما توجهت اليه للانضمام الى الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية وعزمها القيام بعملية استشهادية: "عندما يخلص الرجال من عندنا سنستعين بكن للقيام بالعمليات". بل تندبهن "كتائب شهداء الأقصى" التابعة لحركة "فتح". ونجد عند الاستشهاديات الفلسطينيات وعي نسوي يتوق الى توضيح صدارة المرأة الفلسطينية في الجهاد والمقاومة كما سمعنا في الشريط المتلفز وقرأنا في رسالة دارين. لحن هناك تماثلاً مع شهادة شهداء فلسطين من الذكوز، واعتبار استشهادهن هدايا يقدمنها الى الشهداء، كما أهدت نورا شلهوب عمليتها الى أرواح الشهداء فواز بدران وعامر الخضير ورائد الكرمي والدكتور ثابت ثابت وغيرهم كثيرون من الذين قتلوا عمداً ولم يكونوا من الاستشهاديين. وهناك تماثل مع الشهداء من عائلاتهن أصيب أخو آيات الأخرس برصاص الجيش الاسرائيلي وقتل ثلاثة من أبناء عمومتها وأبناء حاراتهن وجيرانهن ومن المصابين أو الميتين التي تُسمع أصوات سيارات الاسعاف أخبار نقلهم لمن يتاح لهم فرصة هذه النقلة الى المستشفى أو المدنف، كما كانت ترى وتسمع الاستشهادية المتطوعة في الاسعاف التابعة للهلال الفلسطيني، وفاء ادريس. والاستشهاديات الفلسطينيات في هذه الظاهرة يتركن رسائل تبدو، في بعضها، بسبب صغر سن كاتبتها، كموضوع انشاء في حب الأم والمعلمة والمدرسة، كما قرأنا في وصية نورا شلهوب للأصدقاء والزميلات. "فإنني يا اخواني ويا صديقاتي العزيزات أرجو منكن ان تنتبهن الى دروسكن وان تحترمن معلماتكن لأنهن كأمهاتكن...". أما الشرائط الملتفزة للفلسطينيات ممن اخترن الموت كوسيلة "لسؤال الهوية" و"لمشروع الوطن"، فتجعل لهن ظهوراً أخيراً على الشاشة "المعولمة" والمبثوثة على القنوات العربية، لزمن لا يتعدى الدقائق من أواخر عمرهن، يظهرن ب"العقال" الذي سوّى بين الشاب والشابة في حلم "الدولة الفلسطينية". وهناك الخطاب الإسلامي الذي ساد على الخطاب العربي الميؤوس منه والمتخاذل والفاشل في رأيهن. قالت عندليب طقاطقة: "اخترت ان أقول رسالتي الى الزعماء العرب العاجزين عبر جسدي"، مضيفة انها قامت بعمليتها انتقاماً لضحايا مجزرة جنين ومعاناة شعبها في المدن الفلسطينية. أما أم نضال والدة الشهيد محمد فرحات فقد بدت معرفتها في ثقافة الاستشهاد ثابتة، وقالت مخاطبة الأخت المسلمة: "بالله عليك ان تربي ابنك على حب الله وطاعته، واغرسي بذرة التقوى في قلبه غرساً جيداً، ربيه يا أختي على حب الجهاد والاستشهاد في سبيل الله، فالوطن المغتصب بحاجة ماسة لمن يذود عنه، عن هذا الشعب المسلم المظلوم وقد تخلى عنه الجميع... والله لن ترهبنا دباباتهم وطائراتهم وصواريخهم فهي أوهن من بيت العنكبوت إذا تمسكنا بديننا... أناشدكم يا اخواتي يا نساء". وهناك تبنّي العملية من "كتائب شهداء الأقصى" التابعة لمنظمة "فتح"، وعودة لجثث الى ذوي الاستشهاديات أو تبخرها كما حصل لوفاء ادريس التي حمل نعشها الخشب الفارغ ألفان من الفلسطينيين في جنازة رمزية لها في مخيم الأمعري - رام الله. وهناك زغردات الأمهات في وداعهن، والعيون الشاخصة في الأرواح التي تتطاير، والإقبال والإدبار والتململ. ثم تروى القصائد على مسامعنا في أسواق القراءة الواسعة، فتمتدح شجاعة البنات المجهّزات بالسكين والحزام المتفجر فوق فستان الأبيض لزفهن في عرس، وتسمى العروس "عروس فلسطين" كما سميت سناء محيدلي "عروس الجنوب" أو "عروس العوالي" كما نادى السفير والشاعر غازي القصيبي "آيات"، وتتحول البنت الى أم لهذا الوطن قبل ان تتزوج. نلاحظ في هذه الظاهرة الاستشهادية في مجتمع الانتفاضة الفلسطينية المتفاوتة القوة في مقابل الحرب الاسرائيلية الشارونية، نلاحظ ذواء فروق اجتماعية وحيوية كثيرة: فالاستشهاد/ البطولة ليس قصراً على الفتيان حتى انتقد بعضهم الفحولة، وليس للاستتشهاد عمر معين أو هو حصر على المراهقات عمر وفاء ادريس 28 عاماً، ويساوي الاستشهاد في المتعلمة الجامعية دارين أبو عايشة وتاركة المدرسة للعمل عندليب طقاطقة، ويدخل النظام العسكري في النظام المدني جميعهن لا ينتسبن الى جناح عسكري، ويصبح البيت الفلسطيني داخل ساحة المخيم أو القرية أو المدينة: وتدخل الساحة ساحة الوغى الى البيت الفلسطيني، وتختلط الحياة بالموت لذوبان الحدود والفروق. ويصبح الحصار والاستشهاد ثقافة تبرز في دواوين الشعراء ديوان محمود درويش "حاصر حصارك" وتراجم الشهداء كتاب مئة شهيد - مئة حياة وأفلام التضحية فيلم ساكريفا ومعارض رسومات أطفال الحجارة قاد الطفل الفلسطيني الانتفاضة الأولى والثانية بحجارة البناء، وصور المصابين والمشيعات بأشكال شتى على القنوات التي خصصت للشهادة أزمنة قناة فلسطين، والأغنيات القديمة منها والجديدة تعود في شدوها وأكثرها دوماً من مصر، ومقاطعة بضائع ترمز الى انتهاك حقوق الانسان في الشارع العربي، وكأن الشارع العربي للمرة الأولى يكتشف مشروعاً جديداً للنهضة والحداثة من طريق ثقافة موات الفلسطيني واستشهاده في سبيل مشروع حضاري للحياة. * كاتبة لبنانية.