عندما أطل الزائر من باب الغرفة المنعزلة، أدرك على الفور اسباب تردد الزوجة مارسيل في السماح بإباحة الدخول اليها. رأى نبيل خوري جالساً في وضع المتحفز الى مغادرة كرسيه، وقد مال ظهره المنحني الى الأمام ليخفي جسماً نحيلاً ضامراً يختلف تماماً عن جسمه السمين سابقاً. وأبصر عينيه الجاحظتين تحدقان به على نحو صارخ من دون ان ترف أهدابهما المجمدة، ولاحظ ان أصابع يديه مشدودة نحو السماء بحركة متشنجة تظهره وكأنه يستدر الرحمة والخلاص من غيبوبة طويلة استمرت اكثر من سنتين. وشعر الزائر بالارتباك وهو يواجه صديقاً صامتاً كالنبات، اعتاد ان يراه متحدثاً، ضاحكاً، مرحباً. وانقذته مارسيل من حيرته واضطرابه عندما تقدمت نحو زوجها لتخاطبه بصوت مختنق النبرات وتقول: نبنب اسم الدلع شوف مين اجا يزورك؟ خيّم على جو الغرفة المنعزلة صمت ثقيل لم يعكر صفوه سوى صوت اجهزة العناية الفائقة ووشوشات آلة التنفس الاصطناعي. وأشاح الزائر بوجهه ليخفي دموعه وهو يودع صديقاً فقد وعيه واستسلم لغيبوبة عميقة من الصعب ان يستيقظ منها إلا بأعجوبة من السماء. ولكن الأعجوبة لم تتحقق لأن نبيل خوري مات لحظة تعطل عقله ويبست مشاعره وسكت صوته وجف قلمه. اي انه مات قبل عامين وثلاثة أشهر من اعلان وفاته بعد توقف قلبه عن النبض والخفقان. بموت نبيل خوري ماتت سيرة حياة صحافي وكاتب استطاع طوال نصف قرن تقريباً ان يخلق بحضوره الطاغي جواً من المرح والفرح يعجز أي شخص آخر عن تقليده أو مجاراته. ولقد ظهر في صالونات بيروت السياسية والاجتماعية كظاهرة مختلفة تعبر عن مزاج عصره بانفعال نضر وحيوية متجددة لا تعرف الوهن أو الخمول. من هنا إصرار زوجته مارسيل على حجب وجهه الرمادي الباهت اثر الحادث الصحي الذي تعرض له، لكي تبقى صورته البهية محفورة في ذاكرة اصدقائه ومحبيه. أي صورة ساحر الجلسات الممتعة، ومترجم المشاعر المكبوتة الى روايات وقصص كان يرى فيها تحرره من القدر المأسوي الذي حاصر الانسان العربي منذ بداية نكبة فلسطين. ولقد شاهدت في "دار الصياد" ولادة الكثير من أعماله الأدبية التي كان يحب ان يتلوها على زملائه قبل ان يدفعها الى الطبع. ولاحظت من تكرار الإصغاء اليه انه ينتشي أثناء سماع صوته الاذاعي كأنه يؤدي بتطابق كلماته مع حركاته دور شخصية خيالية يجسدها على أكمل وجه. وربما كان نبيل واحداً من قلة من الروائيين الذين يتقنون فن مزج الأحاديث الشفوية بالنصوص الأدبية، تماماً كما في أعمال القاص جان لوكاريه. ولهذا لم يكن بحاجة الى مزاج فكري معين أو الى موقع ملهم هادئ لكي يستحضر خياله الخصب لحبك رواية متقنة. كان بمقدوره ان يكتب في المقهى أو في المنزل أو في أي مكان يجتاحه هاجس استلهام الوقائع من حادثة قرأها في صحيفة أو حكاية سمعها من سائق عربة. عندما شرع نبيل في تركيب مشهد روايته الأولى "المصباح الأزرق"، كان يعرف ان بناءها الفني يحتاج الى تسجيل ايقاع الحياة الاجتماعية في بيروت قبل انفجار أحداث 1958، يومها بلغت العاصمة اللبنانية اسمى درجات التألق والزهو والنشوة. وراح نبيل يرصد لياليها الصاخبة من صالون محمد الدقر الواقع قبالة ملاهي "الايف" و"الكيت كات" و"الليدو"، حيث تختلط روائح البحر بعطور المغنيات والراقصات الاجنبيات. أو حيث يزدحم عشاق الليل أمام فندق النورماندي استعداداً للدخول الى أندية السهر والسمر. وعلى طول الرصيف العريض كانت تنتصب أعمدة المصابيح الشاحبة ذات الاضواء الخافتة. واختار شخصية اساسية في الرواية ليحكي مأساة شاب ثري وسيم أضاع عمره في البحث عن سعادة تخيل انه سيجدها بين أحضان الغانيات. وكان من الطبيعي ان يعرّضه البحث المتواصل لتحول عميق في نفسيته ووعيه انتقل تدريجاً ليصيب جسده بالوهن وأعراض التغيير. وانتهت مغامرات الشاب المجهضة في "حي الزيتونة" الى تشخيص حالات العزلة والوحشة والبحث عن مشاعر فتية تحت "المصباح الأزرق" يصعب استعادتها. وكما بدّلت الأيام جسده المشتعل بالشهوة، هكذا تبدلت في عيني بطل الرواية أنوار المصباح كأن منابع الضوء قد شحت في الخارج ايضاً. ومع ان الجانب الرمزي في الرواية يختلف عن هواجس رصد الذات المتحولة في رواية أوسكار وايلد "صورة دوريان غراي"، إلا ان التماثل بينهما كان قائماً حول رؤية الصراع الدائم بين عالم النفس والعالم الخارجي. وفي مطلق الأحوال تبقى رواية "المصباح الأزرق" أفضل انجازات نبيل الأدبية، من حيث مهارة التركيب وبراعة تصوير فوران حقبة لن تتكرر في بيروت. صحيح انه قدم في 1954 مجموعته القصصية الأولى بعنوان "كفر"، إلا ان الصحيح أيضاً انها عجزت عن رسم ملامح المورد السخي الذي جمع منه الكاتب عناصر مصباحه الأزرق، ولقد أدرك هو اهميتها الاستثنائية في مكتبته الخصبة، لذلك حرص على نقلها الى السينما قبل اعادة طباعتها خمس مرات. وتبرع في ذلك الحين صديقه جبران خليل بتمويل عملية الانتاج. واستضيف طاقم الاخراج في فندق "كومفورت" - الحازمية - بسبب قربه من "دار الصياد" حيث كان يعمل نبيل، إلا ان التكاليف الضخمة ارجأت تنفيذ المشروع. من المؤكد ان المرحلة التي كتب خلالها نبيل خوري رواية "المصباح الأزرق" كانت خالية من الهموم الاجتماعية والضغوط المالية، على عكس المراحل اللاحقة التي انعكست متاعبها حتى على اسلوبه، بحيث انتقل الى استخدام لغة مختصرة، مشدودة، سريعة كالبرقيات. وأذكر ان فيليب تقلا قال له مرة ان منضدي الأحرف اشتكوا من كثرة استخدامه النقاط الثلاث بدلاً من الفواصل. وحدث هذا أثناء الفترة التي تولى فيها الوزير والسفير السابق فيليب تقلا مهمة رئاسة التحرير في صحيفة "الديار" بالاشتراك مع مؤسسها حنا غصن. وردّ عليه نبيل بظرفه المعهود ان النقاط الثلاث التي تملأ مقالاته، هي اشارات سياسية تعني الكثير في ظل الرقابة على الصحف! في زمن الرئيس فؤاد شهاب تولى نبيل خوري مسؤولية ادارة برامج الاذاعة لفترة طويلة. واعتبره الشهابيون عنصراً مهماً من العناصر الرائدة، مثل فؤاد بطرس وشفيق محرم وباسم الجسر وبطرس ديب ومنير السردوك. ويبدو ان نمط الوظيفة الروتينية لم يرق لمزاجه المستقل، الأمر الذي أغرقه في الاحساس الخانق بعبء الحياة المبرمجة. ومع انه كتب سلسلة قصص في تلك الفترة الحرجة بينها: "الامبراطورة الحزينة" و"ليلنا خمر" و"مجتمع بلا رتوش" و"قصة مهرب" بالاشتراك مع سليم اللوزي. إلا ان تلك الاصدارات لم تلغ مواجهات ظروف ملحة كان نبيل يشعر بأن تراكماتها أقوى من قدرته على المقاومة. وانتهى به الاحساس بعدم الاستقرار والأمان للسفر الى الخليج حيث بقي الحنين الى بيروت يلازمه كفكرة عقاب على الغياب. وبعد انقضاء فترة احتجاب، أطل نبيل خوري من فوق صفحات مجلة "الحوادث" ليكرر فكرة استنهاض العرب ودعم صمود المقاومة الفلسطينية. واتصفت نبرته هذه المرة بالإلحاح لأن مشاهداته لفظائع حرب 1967 أحيت في ذاكرته صور نكبة 1948. وهكذا امتزجت في كتاباته عواطف الحنين الى القدس وبيت لحم ورام الله، محدثة بعض التنافر مع الاجواء السياسية التي هيمنت على لبنان قبل انفجار حرب 1975. وكان يرى في روايته "حارة النصارى" التي اصدرها عام 1968 خلاصة نظرته الى اسباب نكبة فلسطين وما تلاها من هزائم خصوصا هزيمة 1967 . في آخر شهر أيار مايو 1982 باشرتُ الكتابة في مجلة "المستقبل" التي أصدرها نبيل خوري من باريس مطلع العام 1977. وفوجئت بنشر كلمة في الصفحة الأولى تقول: "ليس الغريب ان ينضم سليم نصار الى اسرة "المستقبل". الغريب انه تأخر في هذا الانضمام الى هذا الوقت. قليلون هم الذين يعرفون ان سليم نصار كان وراء شراء امتياز "المستقبل" من أصحابه السابقين. وانه هو الذي بدأ المفاوضة على السعر... وانه كان شريكاً في الحلم، يوم كان الحلم... حلماً. وبقي مكانه شاغراً الى الآن، عندما أصبح الحلم حقيقة. بيننا وبين "النصار" - كما هو معروف بين أصدقائه - رحلة عمر، بدأت في الحازمية، مع استاذنا الكبير المرحوم سعيد فريحة، واستمرت في مبنى "الحوادث" في الشياح، ثم انقطعت لتستأنف اليوم في مكاتب "المستقبل" في باريس". ان استحضار ذكرى وفاة الصديق المرحوم نبيل خوري، بعث حكاية الاشكال الذي تعرضت له عملية شراء الامتياز من السيدة الفيرا لطوف. ذلك انه طلب مني في ذلك الحين مساومتها على ثمن الرخصة. وبعد الاتفاق على التفاصيل اخبرني نبيل ان صاحبة الامتياز تراجعت عن وعدها ورفضت توقيع عقد البيع. ولما اتصلت بها معاتباً، عاتبني بدورها لأنني أخفيت عنها هوية الشاري، وقالت انها لا تبيع صحيفتها اللبنانيةلفلسطيني يمكن ان يخرجها عن خطها السياسي. وبعد جدل طويل وافقت على تنفيذ عملية البيع مشترطة اشرافي الشخصي على سياسة الجريدة. ومعروف في منطقة شمال لبنان أن الفيرا لطوف من بلدة مزيارة كانت تعبر في صحيفتها عن منطق قدامى المغتربين، وتعزز سياسة "لبننة" لبنان. ولكي يتخلص نبيل خوري من رباط هذا الارث الإعلامي المربك، قام بتفكيك كل الصلات مع "مستقبل" الفيرا لطوف ونسب مجلته إلى جريدة "المستقبل" التي أصدرها عام 1916 شكري غانم في باريس، واكتشفها الزميل انطوان عبدالمسيح أثناء أبحاثه الجامعية. وإمعاناً في رغبة الانتماء إلى هذه الخلفية التاريخية علّق في مكتبه صورة أول عدد من جريدة "المستقبل" الباريسية. في مواجهة ثانية مع الماضي، شعر نبيل خوري بأن حرب 1975 دفعته إلى مغادرة لبنان، لأن هويته أصبحت عبئاً عليه في شطري بيروت، الشرقي والغربي. وازداد في غربة باريس تعلقه بهويته اللبنانية لأنها منحته الشعور بالامان، وسلحته بمقاومة نفسانية يحتاجها الذين طردوا من أرضهم. وكان في سنوات الغربة يعتبر هذه الهوية مرساته إلى مرافئ الحماية وموانئ الطمأنينة. وهذا ما أقلقه عندما اكتشف أمام موظف الأمن العام في مطار بيروت، انه نسي جواز سفره اللبناني في الطائرة. وناشد الموظف أن يساعده على جلب الجواز من مقعد الطائرة لأن رجليه لا تقويان على حمله. وتخيل موظف الأمن ان المسافر كان يتعامل معه من موقع الاستعلاء أو التجاهل، لذلك أصرّ عليه أن يعود هو شخصياً إلى الطائرة للبحث عن جواز سفره. وبما انه كان خارجاً لتوه من عملية جراحية ثانية في القلب، فقد اجهز عليه الارهاق المضاعف أثناء جريه لجلب جواز السفر. ولما وصل الى نقطة التفتيش سلم الموظف الأمانة الغالية التي احتفظ بها مدة نصف قرن، ثم سقط امامه مغمياً عليه. ومنذ تلك اللحظة فقد نبيل خوري وعيه، وظل يعاني من موت بطيء في عزلة تامة كأن تعلقه بمرساة وطنه البديل سبب له نهاية مفجعة كمعظم ابطال قصصه. بوفاة صديق العمر نبيل خوري، فقدت الصحافة اللبنانية مصنعاً للظرف ومخزناً للحكايات المشوقة الممتعة. كان حضوره الطاغي أشبه بحبوب المهدئات والمسكنات الشافية من أمراض الصداع. صحيح ان فصولاً عدة من حياة الانسان تغرق في لجة النسيان، لكن الصحيح ايضاً ان الأيام الساحرة التي عشناها برفقة نبيل - الصحافي والروائي - ستظل عالقة في الذاكر وملتصقة في الوجدان الخوف من الطائرة كان نبيل خوري يخاف جداً من ركوب الطائرة. وكان يعزي نفسه بالقول ان المطرب محمد عبدالوهاب والشيخ خليل بشارة الخوري نجل رئيس الجمهورية يبزانه في مضمار الخوف من ركوب الطائرة. ومع انه لم يتعرض في حياته لأي حادث يمكن ان يؤثر على نفسيته، إلا ان علم الاحتمالات اقنعه بأن الناجين من حوادث الطائرات لا يزيدون على 5 في المئة. ولقد تخلص من هذه العقدة بعدما قرأ في الصحف اللبنانية ان ضحايا السيارات أكثر بكثير من ضحايا الطائرات وقطارات الهند وباكستان. وجوه الشؤم! عُرف نبيل خوري بتشاؤمه من بعض الوجوه في بيروت. وكان يغتاظ لدى رؤيتها ويغادر المطعم أو النادي إذا ما شاهد أحد اصحاب وجوه الشؤم. وأخبره الاستاذ سعيد فريحة مرة انه يستطيع مقاومة وجوه الشؤم بالبصق على الأرض. وهي عادة قديمة تمنع حدوث الخطر أو الأذى. وشكره نبيل على هذه النصيحة وأخبره انه صدم سيارته عقب اصطدامه بواحد من هذه الوجوه. وراح يبصق على الأرض كلما التقى واحداً منهم. وحدث مرة ان قادته الصدفة الى رؤية أحد وجوه الشؤم أربع مرات في يوم واحد. واقترب منه مداعباً وقال: - يا صاحبي أرجوك.... نشفت لي ريقي!