بعد أسبوع واحد من "مؤامرة الانقلاب" التي نفذها مدنيو البيت الابيض ضد عسكرييه، خلال المداولات المغلقة التي أجروها في مزرعة الرئيس جورج بوش في تكساس، أطلق نائب الرئيس ديك تشيني أول المؤشرات على طبيعة هذا الانقلاب: فهو صّب ماء مثلجاً على رؤوس كل الاطراف الاميركية التي كانت منغمسة في جدل ساخن حول الحرب مع العراق، بمن في ذلك الشخصية الجمهورية البارزة جيمس بيكر مخطط التحالف الدولي ضد العراق العام 1991، حين أوضح أن ادارة بوش ماضية قدماً في الاستعداد للحرب على رغم كل الانتقادات العنيفة. وهو قفز فوق رأس وزير الخارجية الجنرال كولن باول وباقي جنرالات هيئة الاركان المشتركة الذين يرفضون الحرب العراقية بحجة ان العراق لا يشكل تهديداً للولايات المتحدة، بإعلانه ان هذا التهديد قائم بالفعل، وان بغداد ستحوز قريباً على الاسلحة النووية وقد تزّود بعض الحركات الارهابية بها. وأخيراً شدّد تشيني على أن مبدأ "الحرب الاستباقية"، لا يزال هو الدينامو المحّرك للسياسة الخارجية الاميركية في فترة ما بعد 11 أيلول سبتمبر 2001. بالطبع، تأكيدات نائب الرئيس الاميركي حول مواصلة الاستعداد للحرب على العراق مهمة بما فيه الكفاية، وهي قد تغّير الكثير من معطيات الجدل الداخلي الاميركي حول هذه المسألة. ومع ذلك، فالاهم في خطاب تشيني تركيزه على استمرار التمسك بمبدأ "الحروب الاستباقية"، لأن هذا المبدأ، في حال إقراره بشكل نهائي، سيشكل مظلة لسلسلة واسعة من الحروب الاميركية التي قد لا تكون فيها حرب العراق سوى تفصيل بسيط، أو على الاقل محطة أولى في رحلة معارك طويلة. لقد أوضح بوش، ومن بعده نائبه تشيني ثم وزير دفاعه رامسفيلد، أنهم لم يطوروا مبدأ الحروب الاستباقية ليكون مجرد خريطة طريق للحرب العراقية، بل ليشكل المبدأ الاول والاخير في السياسة الخارجية الاميركية طيلة عقود عدة مقبلة. وبرأيهم أنه لا مناص أمام الولاياتالمتحدة من التزام هذا المبدأ، بعدما أسلم مبدأ الردع والاحتواء السابق الروح مع انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي. فالردع لن يكون قادراً على ردع الارهاب العالمي. والاحتواء لن يكون في وسعه منع التحالفات السرية، المدججة بأسلحة الدمار الشامل، بين دول "محور الشر" والشبكات الارهابية. وحدها الحروب الاستباقية قادرة على ذلك. ووحدها الولاياتالمتحدة في وسعها وضع هذا النمط من الحروب موضع التطبيق في كل انحاء العالم، بسبب تفوقها العسكري - التكنولوجي الكاسح. لقد شّبه أنصار الادارة الاميركية الحالية المتحمسون "مبدأ بوش" الجديد ب"مبدأ ترومان" القديم. وهم سيكونون على حق، اذا ما نجح بوش في إقناع الكونغرس والشعب الاميركي بتبني هذا المبدأ، كما فعل الرئيس الاميركي الاسبق هاري ترومان. ففي 12 آذار مارس العام 1947، ألقى الرئيس ترومان خطاباً أمام جلسة مشتركة لمجلسي النواب والشيوخ الاميركيين، طلب فيه تخصيص 400 مليون دولار كمساعدات إقتصادية وعسكرية عاجلة لليونان وتركيا لمساعدتهما على مقاومة توّسع النفوذ السوفياتي والشيوعية. قال ترومان آنذاك: "يجب أن تقوم سياسة الولاياتالمتحدة على دعم الشعوب الحرة التي تقاوم محاولات الاخضاع من جانب الاقليات المسلحة أو من جانب الضغوط الخارجية". وسّجل هذا الخطاب، الذي بات يعرف بمبدأ ترومان، بدء سياسة الردع والاحتواء التي أنهت عزلة الولاياتالمتحدة في فترة السلام، ودشنت أنغماسها في سياسات تدخل عسكري وسياسي طاولت كل أرجاء البسيطة. ويقول أنصار بوش الآن أن الاخير سيحصل على تأييد الكونغرس لمبدأه الذي سيؤدي أيضاً الى انغماس اميركي جديد في العالم، انطلاقاً من الشرق الاوسط. لا بل هم يقولون أن طلائع التأييد ظهرت بالفعل حين أقر الكونغرس طلب بوش بتخصيص 40 بليون دولار وليس فقط 400 مليون دولار كما مع ترومان لتمويل الحروب الجديدة. كما انهم يعيدون الى الاذهان ان خطاب بوش أيضاً كان أمام الجلسة المشتركة لمجلسي الكونغرس في 27 أيلول 2001، حصل هو الآخر على موافقة حماسية من النواب والشيوخ. وكما هو معروف، استخدم الرئيس الاميركي التعابير الآتية لتوضيح فلسفة مبدأه الجديد: "إننا سنوّجه كل مورد تحت قيادتنا وكل وسائل الديبلوماسية، وكل أدوات الاستخبار، وكل النفوذ المالي، وكل أسلحة الحرب الضرورية، لتدمير وهزيمة شبكة الارهاب العالمي. إننا سنحرم الارهابيين من التمويل، وسنجعلهم يقاتلون بعضهم البعض، وسنطاردهم من مكان الى مكان، حتى لا يكون أمامهم لا ملجأ ولا راحة. وسنتحرك ضد الدول التي تقدم المساعدة أو الملجأ الآمن للارهاب. كل أمة في كل منطقة عليها الآن ان تتخذ قراراً: اما انكم معنا أو أنتم مع الارهابيين". حتى ما قبل حرب أفغانستان وخلالها وحتى بعدها، كان يبدو ان أميركا مجمعة بالفعل على الالتفاف حول مبدأ بوش هذا، خصوصاً في الجانب المتعلق منه بالحروب الاستباقية. فالقنابل الاميركية الذكية وغير الذكية انهالت على افغانستان من دون إذن مسبق من الكونغرس الاميركي. والقوات الاميركية تدفقت على تلك الدولة من دون ان تحصل على أي تفويض من أي نوع كان من مجلس الامن الدولي. واعتبرت هذه الحرب نموذجاً كاملا وناجحاً لمبدأ الحرب الاستباقية. وهي كانت كذلك بالفعل. لكن ما ان شارفت الحرب الافغانية على نهايتها وبدأ الحديث عن حرب العراق بصفتها المرحلة الثانية من الحرب العالمية ضد الارهاب، حتى بدأ الجدل الاميركي حول مفاهيم الحرب الاستباقية ومداها. في البداية، كان هذا الجدل هامساً، ودشّنه الرئيس الاميركي السابق بيل كلينتون باشارات خجولة تطالب بتوضيح مسيرة حلقات الحرب. لكن، وبعدما بدا واضحاً أن الجنرالات الاميركيين يبدون هم أيضا حذراً من مضاعفات الحرب على العراق، فيما المدنيون مصرّون على خوضها بغض النظر عن الاكلاف، تلقفت الاطراف السياسية الداخلية الاميركية فرصة هذا الانقسام، وحّولت النقد الهامس الى تحذيرات هادرة من مغبة خوض مغامرات عسكرية غير محسوبة. والخطر في هذه النقلة من الهمس والغمز الى الصراخ واللكز، هو انه كشف، بشطحة قلم واحدة، ان أميركا ليست مجمعة بعد على قبول مبدأ بوش حول الحروب الاستباقية كقاعدة جديدة للسياسة الخارجية الاميركية. وهذه كانت في الواقع الخلفية الحقيقية للخلافات داخل الادارة الاميركية، وبين هذه الادارة ومنتقديها الديموقراطيين وبعض الجمهوريين. اما حرب العراق نفسها، فليست سوى جزء من كل في هذه الصورة. إنها مجرد المدخل لقبول مبدأ بوش او رفضه. وهذا أمر يدركه جيداً الرئيس بوش وهيئة أركانه المدنية. ولذا فهو يبدو أكثر إصراراً على المضي في مشروع الحرب ضد العراق حتى النهاية، كي يضمن سيطرة مبدأه على السياسات الاميركية ليس لولاية ثانية فقط بل أيضاً لعقود عدة مقبلة. لكن، ماذا اذا ما تعثّر الهجوم العسكري الاميركي على العراق؟ ألا تخشى إدارة بوش حينذاك ان تخسر المبدأ والولاية الثانية معاً، خصوصاً أن آخر استطلاع للرأي العام الاميركي أشار الى ان غالبية الشعب الاميركي التي تؤيد غزو العراق 57 في المئة ستعارضه اذا ما تضمن خسائر بشرية أميركية؟ أيضاً: ماذا اذا ما إستخدم الرئيس العراقي صدام حسين الاسلحة غير التقليدية ضد إسرائيل لتحويل الحرب ضده الى حرب شرق اوسطية شاملة؟ المعلومات الصحافية الاميركية والاسرائيلية تفيد أن إدارة بوش ترد على هذه الاسئلة على النحو الآتي: اولاً، صدام لن يجرؤ على إمطار إسرائيل بالصواريخ او الطائرات المحملة برؤوس نووية وكيماوية، لأن الدولة العبرية أبلغته رسمياً بأنها ستدّمر بغداد وباقي المدن العراقية بالقنابل النووية إذا سقط عدد كبير من المدنيين الاسرائيليين في الهجمات العراقية المحتملة. ثانياً، الولاياتالمتحدة قد تستخدم أيضا ترسانتها النووية وغير التقليدية خصوصاً الاسلحة النووية التكتيكية، إذا ما تعرّضت قواتها الى هجمات كيماوية او بيولوجية. ثالثاً، القوات الاميركية ستبادر في اليوم الاول من بدء الحرب الى إحتلال غرب العراق. وهذا سيمنع صدام من إطلاق صواريخه نحو تل أبيب او حيفا. كما انها لن تركز هجماتها سوى على قوات الحرس الجمهوري الخاص، وستترك "منافذ" للجيش النظامي العراقي لتشجيعه على الانقلاب على صدام. رابعاً، فكرة "بغداد اولاً"، أي احتلال المدينة في بداية الحرب، تبدو مغرية، لأنها ستسفر عن محاصرة نظام صدام سريعا من الجنوب والشمال والوسط. خامساً، أن العملية العسكرية الاميركية التي ستبدأ كالعادة بالحرب الجوية، لن تستغرق اكثر من ثلاثة أشهر، يسقط بعدها نظام صدام ويقوم مكانه نظام جديد برعاية القوات الاميركية التي ستبقى هناك الى أجل غير محدود. والرهان الاميركي هنا هو على قدرة سلاح الجو والصواريخ والاسلحة الذكية الاميركية على كسب المعركة حتى قبل ان تبدأ. وهذا قد يقلص الخسائر البشرية الاميركية الى حد كبير. هل هذه الرهانات في محلها؟ لا أحد يعرف ماذا سيحدث على أرض العراق، الا بعد ان يحدث. وهذا صحيح على وجه الخصوص بسبب السرية والعنف المطلقين اللذين يعيش في ظلهما النظام العراقي. فلا أحد يعرف على وجه الدقة مدى ولاء جنرالات الجيش حتى داخل الحرس الجمهوري الخاص لصدام، إذا ما تطورت العمليات العسكرية لتضعهم أمام لحظة الخيار بين بقاء صدام وبين صراع بقائهم هم. ولا أحد في وسعه التكهن بما سيحدث للآلة الأمنية - الاستخبارية العراقية اذا ما دمرت مراكز القيادة والتوجيه الخاصة بها. ثم، وهنا الاهم، لا تتوافر معلومات دقيقة عن القوة الحقيقية للمعارضة الكردية والشيعية العراقية. لكن الكثيرين يتذكرّون أنه عشية الحرب الاميركية على أفغانستان، كان الرأي السائد في كل العالم هو ان المعارضة الشمالية الافغانية ممزقة بالصراعات ومتآكلة عسكريا، فإذا بها بعد دخول سلاح الجو الاميركي ومعه القوات الخاصة الاميركية - البريطانية على الخط، تتحول الى جيوش مظفرة لا تهزم! على أية حال، وسواء صحّت الرهانات البوشية أم لا، من الواضح أن قرار الحرب العراقية الجديدة اتخذ وانقضى الامر. وهذه كانت الرسالة الواضحة المتضمنة في خطاب تشيني الاسبوع الماضي. وهي رسالة تضمنت جملة يتيمة من ألفها الى الياء: الحروب الاستباقية، أولاً، والحروب الاستباقية ثانياً، والحروب الاستباقية ثالثاً