يبدو المشهد العام للحضور العسكري الأميركي في المنطقة آيلاً الى الكثافة بعد قرار إدارة الرئيس جورج بوش إرسال اكثر من أربعين ألف جندي إلى العراق. يجري هذا وسط اتجاهات متضاربة لشن عدوان واسع النطاق على ايران واستهداف منشآتها النووية، بما يوحي ان الإدارة الاميركية الحالية عازمة على حسم الملف النووي الإيراني بالقوة. وعلى رغم المحاذير الجيو - استراتيجية والأمنية التي ستترتب على مثل هذا الاتجاه، فإنّ مسؤولين أميركيين يؤثرون الجمع بين خطين متناقضين في التعامل مع الحالة الإيرانية: - خط التوتر المحمول على التصعيد، وحشد الجيوش، والتهديد بالحسم العسكري... - وخط إبقاء الأبواب مشرعة على الحوار والتسوية السياسية السلمية... ووسط الجدل المحتدم حول الخيارات الإستراتيجية الكبرى للولايات المتحدة في المنطقة، لا يزال النقاش يتمحور حول الاتجاهين اللذين عكسهما تقرير بيكر - هاميلتون حول العراق من جهة، وخطاب الرئيس بوش عن حال الاتحاد من جهة ثانية. الواضح أن كلا الاتجاهين يفضي الى الاضطراب والتردد في اتخاذ قرار الحسم، خصوصاً إذا تعلق الوضع بالانتقال الدراماتيكي الى طور اعلى من الحرب الباردة المحتدمة بين طهرانوواشنطن. هذه الحال المأزقية يدركها الفريق الحاكم في إدارة بوش. لذلك فهو يسعى الى العثور على نافذة تمكِّنه من تدوير الزوايا الحادة. ولا شك في أن الجولة التي ينوي نائب الرئيس ديك تشيني القيام بها في المنطقة انما تدخل ضمن هذا المسعى. فهي كما يُتداول محاولة لوضع قادة دول المنطقة في أجواء تحضيرات بوش المفترضة ضد ايران. في حين رأى الكثيرون أن جولة تشيني تشبه الى حد بعيد، الجولة التي قام بها قبل غزو العراق، وحاول خلالها حشد دعم دول المنطقة للخطط الأميركية ضد نظام صدام حسين. قصارى القول ان مسلك واشنطن بعد خطاب حال الأمة الأخير، لا ينأى عن الإطارين النظري والعملي اللذين شكّلا الخط الإيديو - ستراتيجي العام للمحافظين الجدد بعد الحادي عشر من أيلول سبتمبر. هذا يعني أن منطق اللجوء الى القوة المفرطة في التعاطي مع جغرافية التوتر الشرق أوسطي يبقى سائداً كما في سيرته الأولى. وربَّما لهذا السبب لا يُلاحظ ان الفترة المتبقية من ولاية الرئيس جورج بوش ستمر بسلام. وأن ما تبقى من ميل المحافظين الجدد نحو الحروب سيبقي الطريق مشرعاً امام إجراءات حربية جديدة. ولعل خروج فريق بوش بالحصيلة التي أظهرها خطاب حال الأمة قبل أسبوعين، يُعطي انطباعاً اكيداً بالالتزام بما رسمه الفريق المذكور من استراتيجيات بعد زلزال مانهاتن. أي المضي بعيداً في اتجاه الحروب الاستباقية والفوضى الخلاّقة. كأنّ يجري ذلك على نحو متواز ومركَّب بين الأسلوبين المشار إليهما"بحيث إذا لم تفلح الحروب المباشرة، كانت الفوضى والحروب الأهلية هي المسار المفتوح على الاحتواء وإعادة إنتاج السيطرة. وبات واضحاً أن الإدارة الأميركية لم تبدِّل في هذا الاتجاه منذ تجارب افغانستانوالعراق، فإلى لبنان والصومال بوقائعهما الجديدة، وانتهاءً الى التعامل مع الوضع الجيو - ستراتيجي الإيراني بملفاته المتنوعة. غير أن بين الخبراء من يتوقف اليوم امام المفاعيل التي ترتبت على سقوط الحزب الجمهوري في الكونغرس، وهو ما يشكل أحد المعوقات الأساسية لطموحات المحافظين الجدد، ولا سيما حيال خياراتهم الحربية ضد ايران. حتى ان منهم من يلاحظ وجود رؤيتين أميركيتين في هذا الصدد. كيف تبدو رؤية الحزب الديموقراطي الذي اكتسح الكونغرس قبل اسابيع وما مفاعيلها على سلة الاختيارات الأميركية حيال ايران؟ يظهر موقف الديموقراطيين في جوهره مماثلاً لموقف الجمهوريين حيال إيران، ولو انه يتمايز نسبياً في الأشكال والآليات التي ينبغي أن تعتمد في المواجهة، خصوصاً في ما يتعلق بالقضية النووية. يجمع الديمقراطيون على ضرورة استعمال الوسائل كافة من أجل منع ايران من تطوير برنامجها النووي. والأسباب التي تحملهم على ذلك كثيرة. إذ إن ما يعلنه الديموقراطيون انفسهم، يفضي الى ضربٍ من تطابق الرؤى مع الجمهوريين"حيث يفصِّلون رؤيتهم على الشكل الآتي: - إن تطوير البرنامج النووي الإيراني سيؤدي حتماً الى امتلاك ايران القنبلة الذرية. - إنّ هذا الأمر يشكل خطراً داهماً على المنطقة بسبب مواقف إيران العدائية من إسرائيل، بل إن البعض من الديموقراطيين لا يستبعد احتمال هجوم ايراني على اسرائيل. - إنّ ايران قد تمكّن بعض المنظمات الإرهابية في المنطقة من امتلاك السلاح النووي الذي سيهدّد أمن الولاياتالمتحدة. - إنّ السياسة الخارجية الإيرانية متطرفة ولا تريد السلام. اكثر من ذلك لم يستبعد عدد من الديموقراطيين وفي ذروة إمساك بوش بالسلطة في العام 2005 احتمال توجيه ضربات وقائية الى المنشآت النووية الإيرانية. بل ثمة من يمضي الى القول إنّنا نبتعد اليوم عن تلك اللحظة التي اطلق فيها الرئيس بيل كلينتون مبادرة الحوار مع ايران في نهاية تسعينات القرن الماضي، وكانت الحصيلة آنذاك، صدور التوصيات الإستراتيجية، ولا سيما تلك التي تقدَّمَ بها زبيغنيو بريجينسكي عندما قرَّر نظرياً ان سياسة"الاحتواء المزدوج"للعراق وإيران غير مجدية. في مقابل هذا المناخ يصر البعض ومنهم السيناتور جوزيف بايدن على ضرورة التعامل الإيجابي مع طهران من أجل الخروج من المأزق العراقي، لأنّه - بحسب رأيه - ان اثبت جيران العراق دوراً في استقراره، يصبح من العبث الاستمرار في السياسة التي تعتمدها الإدارة الحالية، والتي تقضي بتجاهل إيران وسورية. وهو ما فعله ايضاً السيناتور نيلسون حين بادر إلى فتح خط الحوار مع الرئيس السوري بشار الأسد. غير أن التباين الأساسي بين الديموقراطيين والجمهوريين يكمن في المنطلقات النظرية اكثر مما يتأتَّى من المواقف السياسية العملية. فقد ظلَّ الحزب الديموقراطي معارضاً للمنطق الديني المتشدد الذي امتاز به التيار الإنجيلي الطاغي في الحزب الجمهوري، كما انه حرص على إظهار رفضه ومجانبته لأطروحة صدام الحضارات. لكن مرونة الديموقراطيين لا تنكشف - على ما لوحظ - الا في الملف العراقي. وهو الملف الوحيد الذي ينتقد فيه هؤلاء بشدّة الإستراتيجية المعتمدة كلياً على الخيار العسكري. الا ان الديموقراطيين لم يتفقوا بعد على خطة مشتركة لفك التزامهم بالعراق. فالكثير منهم يقترح خطة زمنية للانسحاب العسكري بحلول العام 2008، وبالتنسيق مع الجيش العراقي. ثم ان بعض الديموقراطيين ومنهم جوزيف بايدن نفسه راحوا يشجعون الإدارة الحالية على فتح باب الحوار مع إيران وسورية"إذ من العبث - بحسب هؤلاء - ان تنتظر إدارة بوش دوراً إيجابياً من هاتين الدولتين وهي ترفض التعامل معهما. وهنا يصر قياديو الحزب على اهمية السبيل الديبلوماسي، ليس كدليل ضعف أو تراجع، وإنما كوسيلة ترافق سياسة القبضة الحديدية. لكن التناقض يبدو واضحاً بين الدعوة إلى الحوار مع ايران حول المسألة العراقية من جهة، وبين سياسة متشددة تجاهها في ما يتعلق ببرنامجها النووي من جهة ثانية. فأيهما يُرجَّح على الآخر: استراتيجية الحوار التي لا يسعها أن تستثني أياً من القضايا العالقة بين البلدين، ام استراتيجية الردع التي قد تؤثر سلباً في الوضع في العراق؟ على الحسم في ارجحية أي من هذين الاختيارين يمكن معرفة العناوين العامة التي تنطوي عليها الأسابيع والشهور القليلة المقبلة. غير أنَّ ما يرجّحه المشهد المتواتر في هذا الصدد، هو أن يحتدم السجال بين الديموقراطيين والجمهوريين حول تقديرات المصالح العليا للولايات المتحدة في المنطقة. ذلك أن حروب الاستنزاف التي يواجهها جيش الاحتلال الأميركي فضلاً عن جملة العوامل التي ستنشأ جراء استئناف خيار الحرب، قد تدفع الى حقل جديد من السلوك الأميركي، يعيد الاعتبار الى أطروحة"الاحتواء المزدوج"كطريق توافق بين الرؤيتين. * رئيس تحرير "مدارات غربية"