يرتكز مبدأ بوش على استراتيجية القوة الوحيدة في العالم لتحقيق حلم الامبراطورية الاميركية التي تسود العالم من دون منازع، ومن دون أي اعتبار للأمم المتحدة. ما خلفيات هذا المبدأ وما آفاقه المستقبلية؟ وهل هو معصوم عن الخطأ؟ هنا تحليلان. "هذا التصويت في الكونغرس سيكون الاهم، لأنه سيلّون بشكل أساسي مشهد أميركا في باقي أنحاء العالم. انني كنت واحدة من بين أولئك الذين شعروا بقلق شديد من مفهوم الهجمات الاستباقية الانفرادية، بصفتها تعبيراً عن "ثقافة امبريالية" طورتها هذه الادارة". هكذا تحدثت السيناتور الديموقراطية ديان فينستاين قبل أيام: "القوة الاميركية وحدها لا تستطيع أن تنجح في تنفيذ مشروع بهذا الحجم مبدأ بوش. إننا نحتاج الى حلفائنا، إننا نحتاج الى أصدقائنا، إننا نحتاج الى شركائنا، لأننا لا نستطيع تحّمل الفشل". وهكذا تحدث أيضاً السيناتور الجمهوري تشك هاغل. ومن ديان الى تشك، كانت حرارة جدل أميركا مع نفسها في الكونغرس وخارجه ترتفع يوماً بعد يوم، فتؤدي الى طرح المزيد من الاسئلة الجديدة بدلاً من الإجابة على القديمة: هل أميركا تسير على الطريق القويم؟ هل "مبدأ بوش" حول احلال الحروب الاستباقية مكان الاحتواء والردع، سيثبت أميركا على عرشها العالمي، أم يقذف بها نحو الهاوية؟ ثم: ماذا يمكن أن تعني مفاهيم التعددية العالمية أو الانفرادية القومية في "العصر وحيد القرن"، أي الذي لا توجد فيه سوى قوة عظمى واحدة؟ قد يتبادر الى الاذهان هنا أن العراق، أو بالأحرى الحرب الوشيكة على العراق، هو سبب كل الاسئلة الوجودية الكبيرة. لكن الامر ليس على هذا النحو. فلا أحد تقريباً في أوساط النخبة الاميركية الحاكمة عدا حفنة من النواب والشيوخ يعارض غزو العراق لأسباب مبدئية. كذلك، لا يبدو أن النخبة الاميركية تتأثر كثيراً بما يجري الآن في مجلس الأمن حول مسألة العراق. وكان هذا واضحاً الاسبوع الماضي، حين سارعت الادارة الاميركية الى رفض عودة المفتشين استناداً إلى القرار 1284 للعام 1998، وأصرّت على صدور قرار جديد من مجلس الامن يتضمن البنود الرئيسة الآتية: 1- فرض التفتيش القسري المسلح على العراق، عبر مواكبة قوات برية وجوية للمفتشين الدوليين. 2- الغاء الاستثناءات التي نص عليها القرار 1284، والمتعلقة بالقصور الرئاسية "والمواقع الحساسة" الاخرى. 3- تفويض دولة أو دولتين من مجلس الامن اميركا وبريطانيا بالطبع استخدام القوة العسكرية ضد النظام العراقي، في حال قيامه ولو بخروقات طفيفة لقرارات مجلس الامن قديمها والجديد منها. وحظي موقف الادارة هذا بتصفيق غالبية أعضاء الكونغرس، بمن في ذلك العديد من الديموقراطيين. الآن وطالما ان الامر كذلك، فعلام جدل أميركا مع نفسها؟ ولماذا تغرق الولاياتالمتحدة بمزيد من الاسئلة كلما حاولت الإجابة على هذه المسائل الجدلية؟ الواقع أن ما يثير هذه الاسئلة هو الخلاف على الطريقة التي تسوس بها الولاياتالمتحدة العالم، بعدما "تنجز المهمة" بنجاح في العراق، لا قبل ذلك. مايكل هيرش، الذي يعد الان كتابا لجامعة أوكسفورد عن السياسة الخارجية الاميركية، أوضح في دراسة نشرتها هذا الشهر دورية "فورين أفيرز" هذه النقطة بالآتي: منذ أن أعلن الرئيس بوش مبدأه، تم استخدامه المبدأ لتبرير توكيد غير مسبوق للذات الاميركية منذ أيام الحرب الباردة، وصل الى درجة الاعلان الصريح عن الهيمنة الاميركية وعن إعادة رسم خريطة العلاقات الاميركية مع كل دول العالم. لكن الحقيقة هي أنه بعد مرور سنة من اعلان هذا المبدأ، لا يزال الغموض يكتنف الوجهة الحقيقية للسياسة الخارجية الاميركية. فلا الحرب ضد الارهاب هي حرب بالمعنى الحقيقي، ولا أحد يعرف معنى ان يكون الى جانب الولاياتالمتحدة في هذه الحرب: هل هو تحالف موقت كما تقول الادارة أم يعني شيئاً آخر؟ يبدو أن بوش يؤمن في الواقع بما يمكن أن نسميه "الحضارة الانفرادية". وهذا ما يدفعه الآن الى تجاهل حلف الاطلسي، والقفز فوق الاممالمتحدة، وإدارة الظهر لكل المعاهدات الدولية. والحصيلة؟ هيرش يراها خطرة. فهو يقول أن رؤى بوش عاجزة عن ادراك الحقيقة بأن الامن يتطلب تعزيز مفهوم الاسرة الدولية والتعددية العالمية لا ضربهما كما يحدث الآن، خصوصاً بعد نشر وثيقة الامن القومي الاستراتيجي الجديدة أواخر الشهر الماضي. ومعروف أن هذه الوثيقة أقامت الاطار النظري العام لمبدأ بوش على "كوكتيل" منوّع ومتناقض من المبادئ. فهي دمجت المفهوم الجاكسوني حول المصالح القومية الاميركية، بالوعد الويلسوني "بنشر أمل الديموقراطية والتنمية والاسواق الحرة والتجارة الحرة الى كل زاوية من زوايا الارض"، ثم خلطت هذين الاثنين بالاستراتيجية الكيسنجرية الداعية الى "موازين قوى الدول العظمى" الذي يؤكد هيمنة الدولة الاميركية. ومثل هذا الكوكتيل، الذي يكرّس التوجهات الانفرادية الاميركية في العالم مع تلوين ويلسوني مثالي لا يقنع أحداً، لا يشبه أي استراتيجية انتهجها أي رئيس أميركي في السابق، بما في ذلك الرئيسان جون كينيدي ورونالد ريغان. فهذان الاخيران، وفي ذروة توكيدهما على القوة الاميركية في الساحة العالمية، كانا حريصين على ألا تعمل الولاياتالمتحدة بمفردها بمعزل عن الاممالمتحدة. فالوثيقة الاستراتيجية، على رغم تمسكها بالعمل الديبلوماسي، الا انها كانت تمنح الأولوية للعمل العسكري الاميركي المنفرد. وهذا ما قد يجعل الاممالمتحدة عديمة الفائدة او الاهمية، ويدفعها نحو مصير قاتم مشابه لذلك الذي واجهته عصبة الامم. وكما هو معروف، العصبة تأسست في حقبة ما بين الحربين العالميتين، أساساً للتخلص من سياسة القوة والديبلوماسية السرية التي طغت على كل تاريخ القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. بيد أن الخطر لا يكمن هنا فقط. ففي الوقت الذي تبدي فيه ادارة بوش نيتها الصريحة للتدخل في كل أنحاء العالم بلا رادع او وازع، ترتسم في الافق معالم أزمة داخلية اميركية تدفع الى الشك بقدرة هذه الادارة على تحويل نياتها الى سياسات دائمة. اول من تنبه الى هذه الازمة كان المحلل الفرنسي دومينيك موازييه، الذي كتب في "فايننشال تايمز" 25 آب اغسطس الماضي: "يبدو أن الولاياتالمتحدة تقول الآن شيئين في الوقت ذاته. أنها تعلن، أولاً: أنا أستطيع أن أحمي نفسي من العالم من دون الانغماس فيه، وتقول ثانياً: أنا لا أعمل في العالم لتغيير طبيعته الوحشية، بل لجعله أقل خطراً علّي. وهذا المزيج من القومية المتشابك مع مفهوم موازين القوى الصافي، يضعف كثيراً الآن مفهوم الغرب والمعسكر الغربي". والحال أن هذه اللغة المزدوجة، لم تولد فقط في حضن الاختلاف في توجهات كل من وزارة الخارجية الاميركية "المعتدلة" ذات السياسات العالمية التعددية، ووزارة الدفاع "المتطرفة" التي تحبذ سياسة التفرد، بل أيضاً في داخل معسكر المتطرفين الاميركيين أنفسهم. إذ على رغم ان صقور الادارة متفقون على مبدأ استخدام القوة لفرض جدول الاعمال السياسي والاقتصادي الاميركي، إلا أنهم غير متفقين على المحصلات النهائية لمثل هذا الاستخدام. وهكذا، وفي حين أن محور وولفوويتز وصحبه في وزارة الدفاع يحبذون حروب التدخل وتغيير الانظمة في كل أنحاء العالم، فإن محور تشيني - رامسفيلد يميل الى التدخل الانتقائي ثم الانسحاب الانتقائي من بؤر التوتر. وبالطبع، نتائج كلا التوجهين فاقعة الاختلاف. فوجهة النظر الاولى تؤدي الى الانغماس الاميركي التام والمباشر في عملية "صنع الأمة" في بلدان مثل أفغانستانوالعراق وفلسطين وغيرها، فيما الوجهة الثانية ترفع شعار "أضرب واهرب". وحتى الان، وجهة نظر تشيني - رامسفيلد هي الغالبة. وأدت الى رفض واشنطن المساهمة في قوة السلام الدولية الهادفة الى مساعدة الافغان على اعادة بناء الدولة - الأمة الافغانية. كما أدت أيضا الى نفض يد الولاياتالمتحدة من تسوية القضية الفلسطينية ووضع مشروع باول حول المؤتمر الدولي للسلام الشرق أوسطي على رفوف النسيان. ولا يستبعد أيضا أن تطبق السياسة نفسها على العراق، على رغم ما قد يسببه ذلك من كوارث لأميركا في هذه المنطقة الاستراتيجية. لكن، الى أين الآن من هنا؟ كل المعطيات تدل على ان "مبدأ بوش" أو بالأحرى مبدأ كوندوليزا رايس التي كانت وراء صياغاته لن يحقق بالضرورة النجاح السريع الذي حققه مبدأ ترومان أو بالاحرى مبدأ جورج كينان الذي وضعه. والسبب واضح، ترومان أعلن الحرب الباردة على عدو واضح المعالم، محدد القسمات، ويهدد بإفناء الوطن الاميركي عن بكرة أبيه. وهذا ما جعل مبدأه الخاص بالردع والاحتواء يحظى بموافقة اجماعية من الاميركيين ومن حلفائهم الاوروبيين. وهذا أيضا ما سمح لمبدأ ترومان بالسيطرة على السياسة الخارجية الاميركية طيلة العقود الخمسة التي تلت الاعلان عنه العام 1947. اما مبدأ بوش فهو ما زال عاجزاً حتى الآن على الاقل عن تحقيق مثل هذا الاجماع حول العدو المتمثل ب"محور الشر" والارهابيين. لا بل تدور الشكوك الحادة بين الحلفاء الاوروبيين والحزب الديموقراطي الاميركي بأن بوش والجمهوريين "يخترعون العدو لتحقيق مكاسب سياسية"، كما قال قبل أيام كل من آل غور النائب الاميركي السابق والمستشار الالماني غيرهارد شرودر. وعلى رغم ان هذه نقطة ضعف خطيرة في مبدأ بوش، إلا أنها ليست النقطة الوحيدة. فالمبدأ قد يتهاوى كبناء من كرتون اذا ما أدت أي من الحروب الاستباقية التي تنوي ادارة بوش شنها عدا الحرب ضد بن لادن والارهاب الى ضحايا بشرية أميركية كبيرة. اذ حينها ستكون كل السياسة الاميركية الانفرادية في العالم معّرضة للانكشاف العسكري والاخلاقي والقانوني في بلاط الأسرتين الاميركية والدولية. كما ان المبدأ قد يتضعضع أيضاً اذا ورّط الولاياتالمتحدة بما أسماه بول كينيدي في كتابه "صعود وسقوط الدول الكبرى" "التمدد الاستراتيجي الزائد". ويلخّص مارك ماوزر، بروفسور التاريخ في جامعة لندن، الثغرات الكبرى التي تخترق جسم "مبدأ بوش" بالقول: "ان أي قوة، بما في ذلك القوة الاميركية، قد تصل الى حدودها سريعاً. واذا كانت ادارة بوش جادة حول مهمتها العالمية، فلا مناص أمامها من ممارسة التعددية العالمية في اطار الاممالمتحدة". لكن التوجه نحو التعددية والاممالمتحدة يتناقض حرفاً بحرف مع "مبدأ بوش"، ومع فكرة الانتقال من مفهوم الحرب الباردة في الاحتواء والردع، الى مفهوم الحروب الاستباقية والهجومية. وبما انه من غير الوارد بالنسبة الى صقور الادارة الجمهورية الراهنة ولا حتى نسبياً لحمائمها الاعتراف بسلطة شرعية دولية فوق سلطة القوة الاميركية، فمن المنتظر أن يحاولوا توكيد "مبدأ بوش" بالحديد والنار والحروب والاجتياحات، قبل أن يقبلوا بإمكان تعديله أو حتى إلغائه. وهذه بالتحديد هي "الثقافة الامبريالية" التي حذرّت منها السيناتورة ديان فينستاين