تتميز مجموعة الدول الأكثر تقدماً والمعروفة بالدول السبع عن الدول الأخرى ليس فقط بقوة اقتصادها، بل بقدرتها على انتاج سلع معلوماتية تساعد على معرفة العالم المحيط بها ودرس شؤون الدول الأخرى ومحاولة تفسير خصائص مجتمعات تلك الدول والتعمق في حضارتها. وبما أن تقبّل الأخبار يعتمد بشكل أساسي على القاعدة الإعلامية الموجودة لدى متلقي الخبر، فإن هذه الدول تسعى، عبر السيطرة على سيل المعلومات الثقافية، إلى التحكم المباشر وغير المباشر بقاعدة التلقي والتأثير عليها عبر سيل الثقافة العامة والمتنوعة التي تؤمنها لها بواسطة وسائل الإعلام والتثقيف المختلفة. لقد كان الأمر محصوراً في السابق في الدوائر العلمية ومراكز البحث الجامعي المتخصصة، في حين كانت دور النشر تتكفل بنقل الحصاد العلمي لهذه الأبحاث بعد تبسيطه وتنشره على شكل كتب أو مجلات متخصصة وغير متخصصة ساهمت بشكل كبير في نشر ثقافة واسعة لدى الشعوب المتقدمة. ودخلت وسائل الإعلام مجال المنافسة في نشر الثقافة المتعلقة بالشعوب الأخرى. لكن منافسة الإعلام المكتوب كانت أقل تأثيرا من منافسة الإعلام المرئي الذي يستطيع أن يفتح آفاقاً أقل جهداً بالنسبة الى المشاهد - المتلقي من الجهد الذي يكرسه لمتابعة الموضوع نفسه كتابة. ففي حين أن الإعلام المرئي يقدم صورة حقيقية متحركة للموضوع الموصوف فإن الإعلام المكتوب لا يستطيع أن يتجاوز عدداً محدوداً جداً من الصور لا تكفي شهية المخيلة. وهكذا باتت وسائل الإعلام المرئي توفر مواد أولية لحركة الكتابة والنشر متمثلة بنقل نتاج التحقيقات التلفزيونية في مجالات عدة تمتد من الجغرافيا السياحية إلى التحقيقات السياسية مروراً بالريبورتاجات عن العادات والتقاليد للمجتمعات والبلدان القريبة والبعيدة. ودفع هذا الوضع مجلات علمية كثيرة الى البحث عن "نافذة" في الإعلام المرئي إما عن طريق إنشاء قناة متخصصة مثل قناة "ناشيونال جيوغرافيك" أو قناة "هيستوريا" تاريخ وهي اسماء لمجلات معروفة، أو إلى السعي إلى تأسيس مراكز لإنتاج السلع الثقافية المخصصة لوسائل الإعلام المرئي تتكفل ببيعها "مواد جاهزة للبث". كما تم وضع أسس لنوع من التعاون بين المراكز العلمية والأقنية التلفزيونية بحيث يؤمن الفريق الأول طواقم ذات خبرة علمية والفريق الثاني مجموعات التفيذ الفني لانتاج ريبورتاجات علمية وبثها أو بيعها للأقنية الأخرى خصوصاً أقنية الدول التي لا تنتج برامج علمية تثقيفية، وفي طليعتها أقنية التلفزيون العربية المختلفة. وتغطي البرامج التثقيفية كامل المعارف الإنسانية، وهي بشكل عام مبرمجة على بعض الأقنية العربية لكنها بلا استثناء من نتاج مؤسسات غير عربية، مثل حلقات التعريف بعالم الحيوان أو برامج اكتشاف المناطق البعيدة والبلدان الغريبة. ولا يمكن اعتبار هذه البرامج ثانوية وغير مهمة. لأنه إذا كان الأمر كذلك لما اضطرت أقنية التلفزيون إلى شرائها بمبالغ باهظة لبرمجتها، وهي بذلك تتجاوب مع طلبات مشاهديها. فالبرامج تتضمن "وجهة نظر" المجتمع الذي كان وراء انتاجها، ولهذا السبب ترى دول مثل اليابان مثلاً ضرورة أن تذهب فرقها المؤلفة من متخصصين وتقنيين للقيام بإجراء ريبورتاجات مختلفة، ولا تكتفي بإمكانية شرائها مع أنها تملك الإمكانات لذلك. ان عدد الدول التي تسعى إلى التواجد على ساحة إنتاج المعلومات الثقافية محدود جداً. لكن إذا التفتنا إلى قائمة هذه الدول نجد أنها، بصورة عامة، تنقسم حسب التوجهات السياسية العالمية وأنها تفتح أبوابها للقوى الاقتصادية الصاعدة. وليس من الغريب أن يكون العامل الاقتصادي حاضراً بقوة في صراع إنتاج المعلومات الثقافية فالمال هو أولاً وأخيراً عصب أي صراع، لكنه لا يكفي وحده من دون إرادة قوية مدعومة بتشجيع مؤسسات الدولة خصوصاً تشجيع تيار ثقافي متواجد أصلاً في المجتمع يؤمن بأهمية الحصول على المعلومات الثقافية من مصادرها وبواسطة أدوات خاصة بالمجتمع المذكور. لذلك يتحكم عاملان أساسيان بظروف نشوء صناعة المعلومات الثقافية هما: الإرادة الثقافية والمال. أما التصنيف من وجهة نظر سياسية جيوبوليتيكية فيأتي بشكل تلقائي نتيجة توجه مجتمع الدول المعنية. ثقافة للتصدير وتأتي الولاياتالمتحدة، بطبيعة الحال، على رأس لائحة الدول المنتجة لمواد أولية ثقافية للتصدير. لكنها تتصدر أيضاً فريق المجموعة الأنكلوسكسونية التي تضم بشكل أساسي بريطانيا وأستراليا ونيوزلندا. أما الفريق التالي الفرنكوفوني الذي تتربع فرنسا على رأسه فيضم دولة فرنكوفونية واحدة هي بلجيكا، لكنه قوي بعدد دول "التصريف" أي الدول التي تشتري البرامج الفرنسية وهي لا تقتصر على الدول الفرنكوفونية فقط، اذ تضم دولاً مثل كندا ودول أفريقيا الجنوبية والصين. كذلك سويسرا التي تنتمي إليها لكنها تنتمي أيضاً إلى المجموعة الجرمانية التي لا تتبوأ ألمانيا رأسها كما يمكن أن يصور اسمها. فهي تضم دول أوروبا الشمالية وبحر البلطيق لكن يغيب عنها دور قيادي، وإن كانت ألمانيا بوزنها المالي والاقتصادي تحاول أن تلعب دور القاطرة للمجموعة. وقد نجحت ألمانيا بالانفتاح على أوروبا الشرقية حيث تنافس المجموعة الأنكلوسكسونية ما عدا رومانيا وبولونيا حيث المنافسة ثلاثية تشارك فيها المجموعة الفرنكوفونية. أما خارج العالم الغربي التاريخي فالدولة الوحيدة التي استطاعت أن تضع خطة نهوض للوصول إلى مرحلة انتاج كم معلوماتي ثقافي ينافس الانتاج الثقافي الغربي هي اليابان، لكنه انتاج موجه بشكل خاص للسوق المحلية اليابانية الكبيرة أصلاً والنهمة للمواضيع الثقافية. وينطبق هذا أيضاً على كوريا الجنوبية التي تستعد لدخول معترك حماية حقل التلقي الداخلي الكوري بانتاج معلوماتها الثقافية الخاصة بها عوضاً عن الارتكاز على المجموعة الثقافية الخارجية وبشكل خاص المجموعة الأنكلوسكسونية واليابانية وبصورة ضعيفة جداً المجموعة الفرنكوفونية. ولكن يحد انطلاق كوريا ضعف السوق الثقافية الداخلية بسبب ضعف عدد المتلقين، في حين أن ارتفاع المستوى الثقافي يحتم في المقابل وجود برامج ذات مستوى عال تقنياً ويتطلب فرقاً علمية متخصصة جداً وبالتالي موازنات مالية كبيرة لا تكفي الأسواق الداخلية والإعلانات لتغطيتها. ولا تواجه المجموعات الأخرى هذه المشكلة نظراً الى قدرتها على التصدير والخروج من نطاق أسواقها الداخلية والبث على أقنية الدول المستوردة لسلعها الإعلامية الثقافية. وتستعد الصين للبدء بتوسيع عمل انتاجها للمعلومات الثقافية المتعلقة بالخارج وهي أيضاً لن تواجه أزمة إمكانات مالية لسعة سوقها الداخلية، لكنها ما زالت في أول الطريق. قد يتبادر إلى الذهن أن الهند، بعدد سكانها، يمكنها ان تشكل قطباً مستقلاً غير مرتبط أو مرتبط بصورة أقل بالمجموعات الأخرى. لكن حتى الآن ما زالت الهند على رغم تعداد سكانها الذي يبلغ بليون نسمة بعيدة جداً عن دخول معترك انتاج المعلومات الثقافية التي تغطي خارج حدودها. ان انتاج المعلومات الثقافية هو عمل أعلامي يسعى إلى نقل أخبار الأنشطة المتنوعة المتواجدة خارج حدود المجتمع الذي ينتج هذا العمل ويغطي كل الحقول العلمية، من الحياة الحيوانية في الأدغال والصحارى إلى حياة السكان البدائيين في الجزر البعيدة أو طبيعة القطبين الشمالي والجنوبي أو ما شابه من مواضيع وتحقيقات تنقل المتلقي إلى عالم بعيد عن متناول ثقافته، ولا يمكن القول البعيد جغرافياً، فالدول الأفريقية غير المنتجة لهذا النوع من المعلومات الثقافية يطّلع المتلقي فيها مواطنوها على حياة الأدغال غير البعيدة عنه جغرافياً عبر برامج فرنكوفونية أو أنكلوسكسونية أو يابانية. وكذلك الأمر في ما خص الصحارى في الدول العربية والتنقيب عن الآثار في العديد من الدول غير المنتجة للمعلومات الثقافية، فمعلوماتها تمر بقناة إحدى المجموعات المنتجة لهذا النوع من المعلومات. اين العرب؟ فإذا عرضت أي قناة عربية برنامجاً عن سكان جزر جاوا مثلاً يكون البرنامج من نتاج مصدر إعلامي من خارج المجتمع الذي يعرض فيه. وكذلك الأمر في ما يخص أي بقعة من العالم خارج حقول المعرفة الثقافية العربية التي يشملها النشاط الانتاجي للمعلومات، وهي محدودة جداً. وقليلاً ما نرى أو نسمع أن فريقاً تلفزيونياً عربياً جهز "حملة" للقيام بريبورتاج في أماكن نائية بعيدة عن الحقل الثقافي المباشر للعالم العربي. كما أن الريبورتاجات عن دول الجوار المباشر نادرة جداً. فكم من برنامج من انتاج عربي تحدث عن المزارعين الأوروبيين وحياتهم؟ حتى لا نذهب بعيداً إلى حقول الميدوست الأميركية حيث منبع قوة الولاياتالمتحدة الحقيقي!. وكم من برنامج أنتجته التلفزيونات العربية عن الحياة في المدن الأفريقية أو تأثير القبلية في مجتمعاتها أو دياناتها؟ وماذا يعرف المشاهد المتلقي العادي عن التعدد القبلي في السودان وتداخله في الحرب الدائرة في الجنوب، مع ان السودان بلد عربي؟ انه يعرف فقط ما تنشره فرق تلفزيونية أنكلوسكسونية أو فرنكوفونية أو جرمانية أو حتى يابانية ذهبت إلى السودان واجرت بتحقيقات وأعادت بيعها لأقنية التلفزيون في الدول التي لا تملك قدرة الانتاج في هذا الحقل. ولكن قناة فرنسية مثلاً لا تشتري موضوعاً عن السودان من قناة يابانية لأنها تملك الإمكانات لإجراء تحقيق بواسطة فرقها أولاً، ولأنها تعرف من جهة ثانية أن صناعة الريبورتاج تجيب على تطلعات ثقافة المتلقي الأول الذي صُنع الريبورتاج ليعرض له. ومهما كانت مهنية العاملين في نتاج المعلومات الثقافية فإن ريبورتاجاً عن أي بلد عربي وعادات سكانه تقوم به شركة سويدية سيكون مختلفاً عن الريبورتاج المماثل إذا قامت به شركة إسرائيلية مثلاً. ويثبت هذا المثال المتطرف إلى أقصى حد أن التعامل بالانتاج الثقافي العام المؤثر مباشرة على المحيط الثقافي للمتلقي وبالتالي على توجه المجتمع بصورة عامة، هو حقل مهم جداً في الإعلام لا يمكن إهماله بأي شكل ولا يمكن أن يعامل كسلعة ثقافية مثل الأفلام وبرامج التسلية. لكن في المقابل فإن صناعة المعلومات الثقافية تتطلب هيكلية وقاعدة عريضة من التحضير باهظة التكاليف تضاهي الهيكلية المطلوبة للصناعات الثقيلة الأخرى. ومن أهم مقومات نجاحها وجود العنصر البشري المتخصص إلى جانب الموازنة المالية التي تسمح بالقيام بالريبورتاج الناجح. ويعني العنصر البشري بشكل عام الأشخاص المتخصصين في المجالات المطروقة جغرافياً وانسانياً. اما الموازنة فيجب أن تأخذ في الاعتبار تكاليف التصنيع والانتاج المرتفعة جداً لتغطية مجموعة من التكاليف الفرعية والتي لا يمكن تنفيذ الريبورتاج من دونها، مثل تكاليف السفر والتنقل والإقامة واستعمال خدمات أشخاص محليين لاستقصاء المعلومات أو للترجمة الفورية. ويمكن في بعض الحالات أن تدوم رحلة الريبورتاج أسابيع إن لم نقل أشهراً للعودة بريبورتاج لا يتجاوز أو يجب ألا يتجاوز عرضه ساعة. ومن الأمثلة على الريبورتاجات المهمة التي عرضت اخيراً والتي من المتوقع ان يشاهدها مشاهدو عدد من البلدان ومنها بلدان عربية، ريبورتاج عرضه التلفزيون الياباني إن إهيتش كي يغطي رحلة ألف ميل ينطلق من الصين وصولاً حتى الشيشان ويعبر بلدان آسيا الوسطى وأفغانستان والدول التي كانت تشكل الاتحاد السوفياتي. ويحاول الريبورتاج معتمداً على الرمز الإعلامي لطريق الحرير الشهيرة، تغطية الحياة اليومية لسكان تلك المناطق مع إظهار التنوع الإتني والمناخي في المسافات الشاسعة التي قطعها فريق التصوير والتحقيق. ولا تغيب الفكرة الإعلامية الكامنة وراء الريبورتاج والتي تحاول درس خط التواصل الإسلامي الذي يربط السكان المتعددي الجنسيات من مناطق "جيانغ زينغ" أو بلاد الإيغور الصينية ذات الغالبية المسلمة إلى بلاد الشيشان، وهي مناطق توتر أو تحمل بذوره لتصبح مناطق توتر في المستقبل في ضوء التقلبات السياسية التي تشهدها المنطقة. ولكن ما يهم من ناحية فنية وتقنية هو الالتفات إلى التحضيرات التي سبقت حشد المتخصصين والعارفين بشؤون المناطق المختلفة التي مرّ فيها الفريق المصور، إضافة إلى توفير التقنيات المختلفة من سيارات نقل ذاتية الدفع إلى طائرة هليكوبتر خاصة رافقت الفريق مع كل ما توجب القيام به من إجراءات لتجاوز حدود أكثر من 12 بلداً. وعلى رغم ضخامة هذا العمل فإن بثه لم يستغرق سوى بضع ساعات لكنه حظي باعلانات كثيفة. ومن المؤكد أن القناة اليابانية لن تكون خاسرة في انتاجها هذا. ومن الواضح أنه لا توجد قناة تلفزيونية عربية قادرة على القيام بعمل مماثل أو أقل كلفة من ناحية مالية أو خبرة وتخصص في معرفة شؤون منطقة مهمة جداً بالنسبة الى العالم العربي ومحط نظر العالم حالياً. وفي حال اجتمعت هذه العوامل فليس مؤكداً حصول فريق تلفزيون عربي على التأشيرات والإجازات المطلوبة لتجاوز حدود 12 دولة من دون عراقيل. ولعل هذا أيضاً ما يميز الدول الأكثر تقدماً، اذ تحصل فرقها التلفزيونية على التأشيرات بسهولة