تشكل عمليات التزود بالوقود من الجو مخرجاً مثالياً للجيش الأميركي لأنها توفر عليه، فضلاً عن الجهد الأرضي المكلف وغير المتحقق، الحاجة الى أي طرف دولي آخر لتأمين نشاط طائراته الضاربة، ويؤمن "الارضاع" الجوي للطائرات الاستراتيجية كالأواكس وطائرات الكوماندو استمرارها في الطيران لاكثر من سبع أو ثماني ساعات اضافية من دون الحاجة الى الهبوط على الأرض. وكانت القيادة الاميركية وسعت من اسطول طائراتها المتخصصة بالتزود بالوقود جواً بعد الثمانينات اثر فشل محاولاتها اقناع الشركاء الاوروبيين، لا سيما ايطاليا وفرنسا في السماح للطائرات المتوجهة الى ضرب ليبيا باستخدام اراضيهم. وبوسع واشنطن الآن أن توفر قدراً من الاستقلال العملياتي بتطويرها نماذج جديدة من طائرات التزود بالوقود تجعل من الممكن احالة الطائرات القديمة الى التقاعد واستبدالها بطائرات KC-135 وشقيقاتها. ومع ان الطائرات الناقلة من الحجم الضخم هي من تصميم شركة بوينغ الاميركية الا ان التجهيزات الجديدة لطائرات "الارضاع" تجعل منها طائرات بالغة الكلفة. على مسرح العمليات فوق شمال العراق تلعب عمليات تعبئة الوقود في الجو دوراً كبيراً لتأمين تغطية كافية للاجواء الواقعة شمال الخط 36. فالطائرات المقاتلة الاميركية التي تغطي سماء منطقة الحظر لمدة 18 ساعة يومياً وفقاً للمصادر الاميركية تقطع مسافات هائلة كل يوم، كما ان طائرات الرقابة والحماية تحتاج الى البقاء في حال استنفار في الجو تحسباً لتعرض المقاتلات الى خطر الصواريخ او المدفعية العراقية المضادة للجو. ومع تزايد وتائر الاشتباك المدفعي من قبل المضادات العراقية أصبح وضع الطيارين الاميركيين لا يقبل أدنى خلل، لا سيما أن الرئيس صدام حسين وضع جوائز مغرية لمن يسقط أي طائرة أميركية. وتشكل المقاتلات من طراز اف - 16، وأف - 15 جزءاً من شبكة متكاملة للرقابة والرصد تضم ايضاً طائرات تمويه الكتروني وطائرات الاواكس الشهيرة وطائرات متخصصة بالتعامل مع الصواريخ العراقية وهي نسخة معدلة من طائرات اف - 16 ويطلق عليها "سي جي". وتدير عمليات التحليق غرفة عمليات مركزية تقع في قاعدة انجرليك التركية وتضم ضباطاً من القوات المتحالفة: الولاياتالمتحدة، بريطانيا، تركيا. وتقوم طائرات الارضاع الجوي بعمل على مدار الساعة لتأمين بقاء هذه التشكيلة المتنوعة من الطائرات في الأجواء. وشهدت "الوسط" من على متن طائرة KC-135، النسخة المحسنة من بوينغ 707 عمليات "ارضاع" لثماني طائرات مقاتلة اميركية. ولتأمين سلامة الارضاع تجرى عملية التزود خارج الأجواء العراقية وعلى مدار يبعد حوالى 30 كلم شمال خط الحدود مع تركيا. وعادة ما تقوم طائرتان بالتزود بالوقود تؤمن الأولى حماية دائمة للمرضعة والمقاتلة الثانية ويتبدل الدور حتى الانتهاء منها في وقت يراوح بين 10 الى 30 دقيقة حسب نوع الطائرات وكميات الوقود اللازمة لها. وتجري عملية الارضاع بمساعدة تقني مزود بمناظير ووسائل اتصال مع الطيارين وموقعه في ذيل الطائرة المرضعة، حيث يقوم بتوجيه خرطوم الوقود بصرياً نحو فتحة أعلى الجناح الأيسر للمقاتلات. ويبقى على اتصال بصري مع الطيار المقاتل حيث تكون المسافة بينهما عشرة أمتار في بعض الأحيان. وتقوم طائرتا اواكس بتأمين رؤية شاملة للمشهد الجوي والأرضي على السواء عبر تقنيات عالية تعتبر جوهرة الصناعة العسكرية الاميركية. ويمكن ملاحظة التقدم الالكتروني والتقني عند الصعود على متن الطائرة ذاتها. وهي مقسمة الى ثلاثة أقسام: الأول في مؤخرة الطائرة ومخصص للرقابة الرادارية والالكترونية، حيث تستفيد الاواكس من خدمات أقمار اصطناعية تدور في مدارات قريبة الى موقع العمليات فضلاً عن رادارها الخاص فوق جسد الطائرة المعدلة أصلاً عن تصميم طائرة البوينغ التجارية. ويلي قسم الرادار قطاع مهمته القيام بتحليل المعلومات وتبويبها وتنسيق الاتصالات مع غرفة العمليات المركزية. وأخيراً يأتي قسم الأسلحة الذي يوجه الطائرات المقاتلة نحو الأهداف المشتبه بها ويختار نوع الردود المطلوبة على أي تهديد يواجهها. وسمحت القيادة الاميركية لفريق من الصحافة الدولية بينها "الوسط" بالدخول الى عرين الأواكس الذي لم يجر تشغيل الاجهزة فيه لصيانة التقنيات الجديدة للطائرة التي يمتلك الجيش الاميركي 33 طائرة منها. وعلى الأرض اتيح للصحافيين التحدث مع طياري المقاتلات عن تجربتهم فوق خط العرض 36 الذي يرسم معالم منطقة الحظر. ولم يعد سراً تعرض الطائرات الاميركية لنار المدفعية العراقية المضادة للجو التي تحولت الى مصدر القلق الأكبر بعد تلاشي خطر صواريخ سام 2 و3 التي تقف لها طائرات اف - 16 CJ بالمرصاد. ويقول الجنرال باستر ايليس القائد الأعلى لمنطقة انجرليك ان "الطيارين يضطرون الى "تجنب الاشتباك مع المضادات العراقية طالما هي ضمن مستوى معين". ولكنه شدد من ناحية ثانية على ان دقة تصويب العراقيين تحسنت كثيراً في الاشهر الاخيرة بما يجعل اقترابنا من مناطق المضادات غير ضروري. ودفعت المقاومات الارضية العراقية قيادة الجنرال ايليس الى التخلي عن خطط الطيران فوق غالبية المناطق الواقعة غرب نهر دجلة شمال خط العرض 36 تجنباً للخطر. اي ان العراقيين نجحوا في ازاحة الطيران الاميركي من المناطق العراقية الواقعة تحت سيطرتهم في الشمال وليس كما الامر في منطقة الحظر الجنوبي التي تتسم فيها المواجهات بالصرامة مع تصميم واشنطن على عدم السماح للطيران العراقي بالاقتراب من مواقع قريبة على الحدود مع الكويت والسعودية. اما الصواريخ العراقية المضادة للطائرات من نوع سام 2 و3 فان الترسانة الاميركية تعيقها وتدمرها بواسطة نوع متخصص من طائرات اف - 16 مزودة بجهاز تمويه راداري وصواريخ "هارم" وهي صواريخ "مضادة للرادارات العالية الارتفاع". وكانت آخر مواجهة مع صواريخ سام العراقية حصلت خلال شهر نيسان ابريل الماضي حيث اطلق زوج من طائرات اف - 16 صاروخي "هارم" ضد منصات توجيه صواريخ سام ودمراها. ويشبه الجنرال ايليس حربه في الاجواء العراقية بأنها "مثل لعبة القط والفأر حيث يتعين ان نكون يقظين للغاية لأي تهديد". ولكنه يرفض فكرة ان تقوم طائراته بتدمير كل قطعة مضادة للجو او بطارية صواريخ سام ويقول: "ليس من واجباتي ذلك، واجبي هو تأمين عدم طيران العراقيين فوق الخط 36 بطائرات عسكرية وحتى عندما افتتح العراقيون خطاً مدنياً للطيران بين بغداد والموصل الواقعة 30 كلم تقريباً داخل خط العرض سمحنا بذلك". على الصعيد الشخصي يقول الجنرال ايليس ان المهمات الروتينية اصبحت مملة للطيارين حيث الاوامر تؤكد تجنبهم النيران العراقية وهو ما لا يتطابق مع المنطق العسكري الذي يجري تدريب الطيارين المقاتلين على اساسه. وتدفع واشنطن المتمسكة حتى الآن بمناطق الحظر الجوي ثمناً غالياً لتأمين غطائها الجوي الذي يكلفها 750 ألف دولار لكل ساعة طيران وهو ما يقارب مبلغ 30 الى 40 مليون دولار كل عام لنشاط منطقة الحظر الشمالي فقط. اي ان الولاياتالمتحدة انفقت على تأمين منطقتي الحظر منذ فرضه بضعة بلايين من الدولارات على الاقل. وفي هذه الاجواء تتعمق القناعة بان ثمة شيئاً لا بد من حصوله للانتهاء من مهمة المراقبة المكلفة والمثيرة للجدل وهناك احساس قوي بأن ذلك في طريقه للحصول. وضمن جبهة التحالف لتأمين "عملية مراقبة الشمال" كما تعرف عسكرياً هناك البريطانيون بطائرات "جاغوار" في قاعدة انجرليك وهناك ايضاً الطائرات التركية الاميركية الصنع. ولا تتشارك الطائرات البريطانية مع نظيرتها الاميركية في معدات الدعم و"الارضاع" الجوي لذلك فان على البريطانيين ان يستعينوا بطائراتهم الخاصة لتأمين مدة كافية للطلعات فوق الشمال العراقي. وتعقّد هذه الحقيقة من الواقع العملياتي المعقد اصلاً وتلقي بثقل كبير على جداول الطيران المكتظة فوق قاعدة انجرليك. اما السلاح الجوي التركي فيساهم بزوج من الطائرات يومياً كمساهمة رمزية لكن تركيا تقدم تسهيلات كبيرة على الارض وفي الاجواء لتأمين مهمات الحليف الاكبر للولايات المتحدة. كما تقوم انقرة بواجب بتأمين حماية وأمن حوالى 3 آلاف اميركي وبضع مئات من البريطانيين في القاعدة الجوية لا سيما بعد تهديدات تعرض لها محيطها بعد 11 ايلول سبتمبر. وتسعى القيادات العسكرية الى تجنب اي خلل يمكن استغلاله لالحاق ضرر بالطائرات أو الطيارين حيث يفرض منع للتجول في القرية الصغيرة الملحقة بالقاعدة مساء كل يوم. وكان المنع يبدأ في السادسة مساء لكنه تحول تدريجاً الى العاشرة بداية العام الحالي. ويلجأ الطيارون بعد اقلاعهم في مهمات عسكرية من القاعدة الى اتخاذ خط طيران شاقولي حاد لتجنب التعرض الى خطر اصابات محتملة خارج حدود القاعدة. وشهد الصحافيون كيف تنطلق الطائرات نحو قلب السماء مباشرة بعد تخطيها السياج العسكري الاخير لانجرليك