عرف القارئ العربي محمود أمين العالم، منذ خمسين عاماً تقريباً، من خلال كتابات مختلفة، وفي أحوال لا تقل اختلافاً. تشكل وعيه الثقافي في زمن وعود الاستقلال الوطني، بعد الحرب العالمية الثانية، ولمع اسمه في سياق حالم بتغيير العالَم. إصطدم مع السلطة الناصرية وتصالح معها، وعاش مع غيره هزيمة حزيران يونيو التاريخية، وعرف المنفى والشتات في زمن لاحق، وعاد الى مصر وقد غدت اتفاقية كامب ديفيد واقعاً لا رجعة عنه. يجعل هذا من مسار العالم شهادة شخصية وكتابية مزدوجة: شهادة أولى على أزمنة متلاحقة، تنسج الأحلام وتفككها وتداعب الوعود وتدفنها، وشهادة ثانية على انسان اختار أن يمضي في الطريق إلى الحريّة. في أحوال محمود أمين العالم ما يقترب من أحوال نظيره اللبناني رئيف خوري، وان كان زمن الأخير أكثر طراوة وأقل وجعاً. فعلى رغم نصوصه المتعددة والمتنوعة، ظلت حياته هي نصه الأكبر. عالج مواضيع كثيرة، تتضمن الفلسفة والنقد الأدبي والسياسة ومواضيع التراث وكتب الشعر أيضاً. ولعل النظر الى عناوين كتبه يعطي صورة عن ذاك المتجول الطليق بين أجناس المعرفة: تأملات في عالم نجيب محفوظ، فلسفة المصادفة، هربرت ماركوزه أو فلسفة الطريق المسدود، الفكر العربي بين الخصوصية والكونية... قد يعبّر هذا التجوال الثقافي عن هاجس البحث ونزوع الى الحرية، وقد يعلن عن نزعة موسوعية متأخرة في زمن أدركه الاختصاص. غير ان تجواله تعبير عن استقرار مفقود، وعن مؤسسة علمية غائبة، اشتاق محمود اليها ولم يظفر بها، لأن خياره الفكري والسياسي جعله مطارداً في اتجاهات متعددة. ذلك المثقف المصري الذي غدا ماركسياً، بعد ان كان في مطلع شبابه وجودياً، لم يتمتع بالعمل المؤسساتي المستقر الا قليلاً. وذلك الذي تولع في شبابه بالشعر وعلم النفس والفلسفة، لم يظفر من العمل المريح الا بقليل القليل. عاش متنقلاً بين السجن وفخ العمل المؤسساتي، في مواجهة صورة المثقف المغترب الذي يرى ما يريد، ويتابع قولاً ثابتاً تطوره الأيام ولا تبدّله... ولأنه لم يشأ ان يرى بعيون غيره، رحل من القاهرة الى بغداد، وغادر الأخيرة سريعاً الى باريس، وعاد بعد ان أدركته الشيخوخة الى القاهرة ليصدر، في منتصف ثمانينات القرن الماضي، مجلة بعنوان "قضايا فكرية". كتب محمود أمين العالم، العام 1955، مع عبدالعظيم أنيس كتاباً عنوانه "في الثقافة المصرية". ومن الغرابة بمكان ان هذا الكتاب الذي وضعه مع سواه، شهره وارتبط اسمه به ارتباطاً وثيقاً، كأنّه لم يكتب غيره. وهناك ثلاثة أسباب بإمكانها تفسير الأمر: السياق الذي خلق الكتاب، والقائل بالاشتراكية وصراع الطبقات في الأدب وخارج الأدب. ثم شيوع اتجاه الواقعية في الأدب الذي أخذ في الكتاب، للمرة الأولى ربما، صياغة واضحة، او شبه واضحة، مفرداتها الواقع والتناقض الاجتماعي ورؤية العالَم والتفاؤل اللازم الذي لا يقوم "الأدب الواقعي" الا به. والسبب الثالث هو ان الشابين الثائرين تعرّضا بالرجم لأسماء ذات وزن ثقيل، مثل توفيق الحكيم وعباس العقاد ونجيب محفوظ... واستقدما الى السجال طه حسين الذي ردّ عليهما بمقالة شهيرة عنوانها: "يوناني فلا يقرأ" نشرها، لاحقاً، في كتابه "خصام ونقد". لكنّ هذا الكتاب لا يمكنه أن يحجب دراسات لاحقة مثل كتاب "ثلاثية الرفض والهزيمة"، وهو دراسة في أعمال صنع الله ابراهيم، ودراسات أخرى نشرت في كتاب عنوانه: "أربعون عاماً من النقد التطبيقي" 1994. غير ان كتاب "في الثقافة المصرية" الذي طبع غير مرة وأشعل سجالاً واسعاً، وهو يعبّر عن مشاغل محمود الشاب ونزوعه الى المشاكسة والمنازلة، ستعقبه لاحقاً مؤلفات تجسّد تواضع العارف، وإيمانه بنسبية المعرفة، وميله الى النقد الذاتي، وتأمل الأمور على مبعدة عن الذاتية والنرجسية. فبعد أن رجم محفوظ، عاد العالم فكتب جملة دراسات رائدة، وبمحبة كبيرة، عن عميد الرواية العربيّة، متحدثاً عن "المعمار الفني" و"شجرية" الشخصيات... ووضع كتاباً عن توفيق الحكيم عنوانه "توفيق الحكيم مفكراً وفناناً" 1984. وذهب الى محراب طه حسين أكثر من مرة، مستأنفاً أحلامه ومدافعاً عن عالم لا ينقصه الخبز ولا المعرفة، اضافة الى اشارات نقدية أدرجها في كتابه "مواقف نقدية من التراث". وفي موقفه النقدي المتجدد سعى محمود العالم الى الخروج من صيغ ايديولوجية ضيقة، يختلط فيها الوهم بالواقع، والى ادراج ذاته في تيار ثقافة متحررة واسعة، تحتمل الاتفاق والاختلاف، ويطورها الاختلاف قبل ان يوحدها الاتفاق. وليس هذا غريباً في مسار مثقف تحدث طويلاً عن "الوعي والوعي الزائف" 1986، معتبراً أن الوعي الحقيقي يبدأ بالناقص والمجزوء، في حين يرتاح الوعي الزائف الى كليات منجزة، لا نقص فيها. يبدو محمود أمين العالم، ظاهرياً، باحثاً بلا موضوع، بعد ان توزع على المواضيع جميعها، ان لم يرَ البعض فيه "مثقفاً ايديولوجياً" مشغولاً بالخير والشر وبوجوه الفضيلة. والأمر بداهة لا يقوم في الموضوع بل في الموقف منه، وهو ما حمل محمود العالم على "الاختصاص في النقد"، مدركاً انه مشغول بسلامة البشر لا بصحة المفاهيم. هكذا دفع الاختصاص بمحمود العالم الى موقع صعب ولا راحة فيه، تتعايش فيه المعرفة المختصة والتبشير الفكري الذي يجاور الاختصاص، ويتجاوز به نزوعاً الى الموسوعية المعرفية في خدمة البشر. واجه حلمه المحاصر بفلسفة زاهدة، لا تكترث بالمناصب والألقاب والحياة المريحة. مارس حريته، وتحصن بضلوعه، وواصل صداقة الكتب القديمة، واحتفظ بروح الشاعر وان كان أقلع عن كتابة الشعر قبل ثلاثين عاماً. لا يزال الرجل الذي كتب "أغنية إنسان"، يصعد درجاً عالياً متأبطاً حقيبة قديمة مليئة بالكتب. يتمهل ويتباطأ ويرتاح، ويمسح عن جبهته العرق، من دون ان يلتفت الى نهاية الدرج او يهجس بالتوقف. إنّه عجوز يسير الى فوق ولا يقيس المسافة، مستأنساً بحقيبة غريبة، وقودها الشقاء والأحلام. في هذا العام، وخلال الشهر الجاري، يبلغ محمود أمين العالم الثمانين من عمره.