عاقتني نزلة برد سخيفة عن حضور حفل تكريم محمود أمين العالم الذي دعاني إليه الشاعر الناقد حلمي سالم - رئيس تحرير مجلة "أدب ونقد" القاهرية، وذلك احتفاء بوصول محمود العالم إلى عامه الخامس والثمانين. ولولا تحذير الأطباء لتحاملت على نفسي، وذهبت كي أشارك أقراني من تلامذة محمود العالم وتلامذة تلامذته في الاحتفاء بالرجل الذي لا يزال قيمة مضيئة، نادرة المثال، في حياتنا الثقافية المصرية والعربية. وكنت أريد أن أتحدث عن العالم المتعدد الأوجه، فهو مفكر ماركسي أصيل، وناقد أدبي ثاقب النظرة، وصاحب مواقف جذرية أصيلة في زمن تميعت فيه المواقف، وضاعت مع الكبار الذين ضاعوا، ولم يتركوا لنا سوى الفئران التي سرعان ما تهرب عندما تشم رائحة الخطر. وكنت أودّ أن أتحدث عن العالم المناضل الصلب العنيد الذي لم تهزه المحن، بل زادته قوة، وجعلته يخرج منها كما يخرج المعدن الأبيّ على النار، أكثر صلابة وقوة، وهي صلابة لم تتناقض، قط، مع مرونته ورحابته الفكرية التي تزايدت مع التجارب وصقلتها الممارسة، فظل المفكر - في العالم - سمحاً يقبل الاختلاف، ويبادر إلى الاعتراف بالجديد الأصيل الذي لا يتوقف عن تشجيعه والإسهام في توجيهه. ولذلك يلحظ القارئ لكتابات العالم التباين في النظرة ما بين المرحلة الأولى من الانتشار التي اقترنت، نقديا، بكتابه الذي اشترك فيه ورفيق عمره عبدالعظيم أنيس"في الثقافة المصرية"، سنة 1955، والمرحلة المغايرة التي تبدأ مما كتبه عن نجيب محفوظ بعنوان"تأملات في عالم نجيب محفوظ". وهو الكتاب الذي صدر سنة 1970، في الموجة الرحبة التي اقترنت بتجليات مفهوم"واقعية بلا ضفاف"الذي سبق إلى تأصيله روجيه غارودي. "أغنية الإنسان" وكنت أرجو - لو وجدت فسحة من الوقت - أن أتحدث عن محمود العالم الأديب، الشاعر الذي صدر ديوانه الأول"أغنية الإنسان"عن دار التحرير في القاهرة 1972، وديوانه الثاني"قراءة لجدران زنزانة"الذي نشره في بغداد سنة 1972، فضلاً عن القاص الكامن في أعماقه الذي تكشّف عندما طلبت منه أن يكتب شهادته عن اعتقاله منذ سنة 1959 إلى سنة 1964 وكنت رئيس تحرير"فصول: مجلة النقد الأدبي"، فكتب مستهل سيرة سجن بديعة في العدد الخاص بالشهادات من الأعداد الثلاثة التي أصدرتها"فصول"عن"الأدب والحرية"، وأحدثت تأثيراً بالغاً في الحياة الثقافية العربية. وكتب العالم - في هذا العدد - شهادته عن السجن بعنوان"اصطياد الإنسان"التي لا تزال تفتنني، وتدفعني إلى الإلحاح عليه كي يتم الاستهلال بعمل سردي كامل عن سيرة حياته في السجن، ابتداء من فصله من الجامعة سنة 1954 في أزمة آذار مارس السيئة السمعة، ودخوله السجون الناصرية ما بين أول كانون الثاني يناير 1959 إلى أيار مايو 1964، وأخيراً عودته إلى السجن لأشهر في بداية المرحلة الساداتية. ولكن العالم المشغول بعشرات الأعمال، يومياً، لم يجد وقتاً إلى اليوم ليكمل سيرة السجن ولا سيرة حياته الفنية والاستثنائية التي لا تزال في حاجة إلى قلمه الخلاّق. وظني أن محمود العالم لا يزال ينطوي على قاص، مقموع بضغوط الحياة ومشاكلها، تماماً كالعالم المبدع الأدبي الذي تحول همومه العملية والفكرية بينه والحضور الإبداعي الذي لا تقيده القيود. ولا يعوضنا عن ذلك إلا العالم ناقد الشعر والرواية والمسرح الذي يتميز برهافة النظرة الأدبية وحدسية الرؤية الفنية، ونفاذ البصيرة النقدية التي تتكامل وغيرها من البصائر في صنع محمود أمين العالم، آخر الموسوعيين الكبار في ثقافتنا المعاصرة. ولكنني لم أذهب إلى حفل التكريم الذي كنت أرجو أن أقول فيه هذا الكلام وأكثر، فاكتفيت بالرقاد في الفراش، تاركاً لذهني حرية التذكّر، ولعقلي حرية التداعيات عن معرفتي القديمة بالعالم منذ سنوات طويلة. وكانت البداية في أعوام دراستي الجامعية التي سمعت فيها من أقراني الذين سبقوني إلى التعاطف مع الفكر الماركسي الذي كان ذائعاً بين الشباب الجامعي في ذلك الوقت عن كتاب"في الثقافة المصرية"الذي صدر قبل تخرجي في الجامعة بعشر سنوات. وكان من الطبيعي أن يجذبني الكتاب إليه بحماسته الثورية، وخطابه الناري، وعدائه للفلسفات الرجعية أو العدمية أو النكوصية. وأعجبني - بوجه خاص - روح التحدي الذي دفع المؤلِّفين الشابين - عبدالعظيم أنيس ومحمود أمين العالم الذي لم يكن جاوز الأربعين سوى بعام واحد، فهو مولود في الثامن عشر من شباط فبراير 1922 - إلى تحدي طه حسين وعباس العقاد اللذين كانا يتربعان بلا منازع على قمة الحياة الثقافية، ويمثلان إطاراً مرجعياً لا سبيل إلى وضعه موضع المساءلة، فإذا بالمؤلفين الشابين يلقيان بقفاز التحدي في وجه هذين العملاقين، ويضعان مفاهيمهما الأدبية موضع المساءلة الجذرية الجسورة، فيكتب طه حسين تعقيباً على ما كتبه محمود العالم عن"الأدب بين الصياغة والمضمون"مقاله الشهير في ذلك الوقت"يوناني فلا يُقرأ"نُشر المقال بعد ذلك في كتابه"خصام ونقد". الأدب الواقعي ويدخل العقاد في المعركة بحدّته وعصبيته المعروفة بمقاله:"إلى أدعياء التجديد... اقرأوا ما تنتقدونه"، فيضطر الشابان إلى المزيد من توضيح"الأدب الواقعي"الذي انحازا إليه، وهاجما - من منظوره - الهروب من الحياة في"إبراهيم الكاتب"للمازني، والنظرة الرجعية إلى الزمن عند الحكيم في"أهل الكهف"والأخلاق الوجودية في كتابات عبد الرحمن بدوي. وكان ردهما على حدة العقاد عنيفاً مثل هجومه، وردهما على طه حسين هادئاً في مستوى مكانته عندهما، وحبه لهما. وانتهت الردود بمقالهما"حصاد المعركة"الذي أكد أهم مبادئ الواقعية الاشتراكية التي لم يجدا لها نموذجاً إلا في رواية"الأرض"لعبدالرحمن الشرقاوي الذي كان يكتب في سياق التقاليد الإبداعية الماركسية، وأبدع روايته عن"الأرض"متأثراً برواية الكاتب الإيطالي إغناسيو سيلونا 1900 - 1978"فونتا مارا"1930 التي أعلن الشرقاوي تأثره البالغ بها أثناء كتابة"الأرض"1953. وكنا نتابع - في ذلك الوقت - المعركة المحتدمة بين شيوخ الأدب ممثلة في العقاد وطه حسين وشبابه أمثال العالم ولويس عوض ويوسف إدريس الذي كان لا يزال شاباً يافعاً في ذلك الحين، وكنا منحازين - بحكم السن - إلى أمثال العالم، نافرين من دوغمائية عبدالعظيم أنيس الذي وصف نجيب محفوظ، مختزلاً قيمته في أنه كاتب البرجوازية الصغيرة، فلم نر في هذا الوصف سوى ذوق أدبي سقيم ونظرة ضيقة. أما محمود العالم فظلّ نجماً لا نقارن به سوى حسين مروّة الماركسي اللبناني الذي كتب مقدمة"في الثقافة المصرية"في طبعتها الأولى، فاندفعنا إلى قراءة كتابه"قضايا أدبية"الذي أصدرته"دار الفكر"في القاهرة سنة 1956، وهي دار اختصت بنشر الأدب الواقعي، وكان ذلك قبل أن أقرأ كتابه"دراسات نقدية في ضوء المنهج الواقعي"الذي صدر بعد ذلك بسنوات عن مكتبة المعارف في بيروت عام 1965 . هكذا، كانت بداية المعرفة بمحمود أمين العالم الذي لم ينتبه كثير منا إلى أننا قرأنا كتابه"في الثقافة المصرية"وهو لا يزال في السجون الناصرية التي خرج منها قبل تخرجي بعام واحد، وبعد أن أعجبت بكتاباته التي تابعت بعضها، حتى من قبل أن أدخل الجامعة، خصوصاً مقالاته في مجلة"الثقافة الجديدة"التي أصدرها يوسف السباعي، وضمّت الكثير من النقاد المتباينين في اتجاهاتهم الفكرية، فضلاً عن تميزها بنشر ثلاثية نجيب محفوظ، مسلسلة في أعدادها المتوالية التي كانت بداية معرفة جيلي بثلاثية محفوظ، قبل نشرها في ثلاثة مجلدات عن"مكتبة مصر"ما بين 1956 و1957. وكنت لا أزال طالباً عاشقاً للأدب في المرحلة الثانوية. وقرأت ما كتبه محمود العالم عن ديوان صلاح عبدالصبور"الناس في بلادي"الذي أصدرته دار الآداب - بيروت، كانون الثاني 1957. ولم أكن نسيت ما كتبه عن الديوان الذي تحمس له بسبب نبرته الواقعية من ناحية، ونزعته التجديدية من ناحية ثانية، وميله الدائم إلى الجديد الأصيل من ناحية أخيرة. وربما كانت نزعته الواقعية الاشتراكية هي السبب في عدم حماسته لديوان صلاح عبدالصبور الثاني"أقول لكم"الذي صدر عن المكتب التجاري في بيروت في آذار 1961، وذلك بسبب جنوح الديوان إلى التأمل الفكري الوجودي المجرد، وابتعاده من الغنائية الواقعية الشعبية ؟! التي كان أقران العالم متحمسين لها، نافرين من النظرة الوجودية التأملية وفلسفتها التي رأوا فيها نوعاً من التوفيق الذي لم يكن - في تحليلهم الأخير - سوى هروب من الاشتراكية واقتراب من الليبرالية الرأسمالية. وكانت بداية الستينات أول عهدي بانقطاع صلاح عبدالصبور عن جذوره الماركسية، وتحوله عنها إلى نزعة وصفها بأنها إنسانية، وكانت نزعة مغايرة للماركسية التي ظلّ محمود العالم متمسكاً بها، ومضادة لكل فلسفة تنطوي على نسق مغلق. ولم يكن محمود أمين العالم وحده في عدم التعاطف مع الديوان الثاني لصلاح عبدالصبور، فقد مضى معه في الطريق المذهبي نفسه أحمد عباس صالح وأقرانه الذين لم يفارقوا المنظور الأدبي للماركسية في ذلك الوقت، ولم يكونوا عرفوا رحابة"الواقعية بلا ضفاف"بعد. بقايا "المذهبية" وأذكر أنني قرأت نقد أحمد عباس صالح - رحمه الله - في جريدة"الجمهورية"في صفحة"الأدب في سبيل الحياة"التي كان يُشرف عليها لويس عوض، ولم يرق نقد صالح لمحمد مندور فردّ على نقده بنقد مضاد، وعقّب أحمد عباس صالح بما رفض به نظرة مندور، وذلك من منظور أقرب إلى منظور العالم، غير مختلف جذرياً مع رؤية لويس عوض لديوان"أقول لكم". وأحسبني كنت أقرب إلى عدم حماسة العالم للديوان في ذلك الوقت، فقد كنت لا أزال أرى في"الوجودية"فلسفة انهزامية، تلفيقية، وذلك بسبب بقايا"المذهبية"التي زرعها محمود العالم وحسين مروّة في وجداني. وهي"مذهبية"لم يُفلح في تقويضها ما كتبه الأستاذ أبو سيف يوسف - باسم مستعار - عن كتاب"في الثقافة المصرية"بعنوان"نقادنا الواقعيون غير واقعيين". وهو مقال مكتوب من وجهة نظر واقعية أكثر انفتاحاً على التيارات الماركسية الأكثر حداثة ومعاصرة، نظراً وتطبيقاً، وأكثر قرباً من أمثال تروتسكي، وأكثر بعداً من الجدانوفية وأفكار غوركي أو ستالين. وبالطبع، ازددنا تعاطفاً مع آراء محمود العالم عندما عرفنا أنه في السجون الناصرية البشعة، يعاني مع أقرانه أبشع أنواع التعذيب، وهو التعاطف الذي أخذت بذرته تتسلل إلى أعماقنا لتزرع بداية الشك في الديكتاتورية العسكرية التي لم ننتبه إليها إلا مع قارعة العام السابع والستين، أو نكستها، كما قيل لنا تخفيفاً وتهويناً من فداحة الكارثة. وكنت تخرجت في الجامعة، وأصبحت معيداً في كلية الآداب في جامعة القاهرة، ناصري الهوي، يساري الاتجاه. وكان محمود العالم خرج من السجن قبل النكسة ؟! بحوالى ثلاث سنوات، وأصبح رئيس مجلس إدارة الهيئة العامة للكتاب سنة 1965، ضمن موجة التصالح الناصري مع الشيوعيين الذين أعلنوا حلّ الحزب الشيوعي. ولم يقضِ محمود العالم وقتاً طويلاً في هذا المنصب، إذ سرعان ما تركه، غير أن اللافت للنظر حقاً أنه ما إن خرج من المعتقل حتى اندفع في حماسة متقدة للمشاركة في الحياة الثقافية، كتابة ومناقشة في ندوات وأمسيات، كما لو كان لم يعرف مرارة السجن وعذابه الوحشي. وأذكر أنني بدأت أتعرف الى ناقد المسرح فيه في ذلك الوقت، وذلك من خلال الندوات التي كانت تقيمها مجلة"المسرح"التي كان يرأس تحريرها رشاد رشدي، كل شهر، حول مسرحية من المسرحيات المعروضة في مسارح القاهرة، أو حول قضية مسرحية. وشهدت من إسهام محمود العالم في هذه الندوات الناقد المسرحي العتيد الذي يسعى إلى تطويع"الواقعية الاشتراكية"التي أسهم في ترسيخها في وعينا الشاب، ويوظفها في نقد المسرح الذي كتب فيه الكثير. وليته يجمع الآراء التي كان يبديها في ندوات مجلة"المسرح"في كتاب، أو بعض كتاب، فهي تستحق الجمع مع غيرها من المقالات الكثيرة التي أعرفها، والتي لم يجمعها محمود أمين العالم بعد، خصوصاً في مرحلة"الواقعية الاشتراكية"وتجلياتها التي ظلت متصلة ما بين الخمسينات والنصف الأول من الستينات على الأقل.