"الشجار" الذي جرى في مكتب الرئيس ياسر عرفات، مع رئيس جهاز الامن الوقائي في الضفة الغربية جبريل رجوب، وقيل ان عرفات صفع خلاله الرجوب وشهر مسدسه في وجهه، هو من دون شك مشكلة كبيرة. بل هناك من يراه، خصوصاً في السلطة الفلسطينية، قضية خطيرة. مع ان الجميع يحاولون التقليل من شأنه ولفلفته. بعضهم يفعل ذلك لأنه يعتبر المسألة فضيحة، لا حاجة لتوسيعها اكثر خوفاً من ان تصبح كرة الثلج تأخذ في طريقها ما بقي عامراً في السلطة الفلسطينية. لكن هناك من ينظر اليها من وجهة اخرى، فيعتبرها "رسالة" من عرفات الى كل من يرسم شيئاً لمستقبل القيادة الفلسطينية، سواء كان ذلك في اسرائيل ام في الولاياتالمتحدة ام الدول العربية ام داخل السلطة الوطنية والتنظيمات المعارضة لها. ويقول هؤلاء ان غضب عرفات لم يكن موجهاً إلى الرجوب مباشرة بقدر ما كان موجهاً الى تلك العناوين مجتمعة. واختيار الرجوب لها، لم يكن بدافع رؤيته "رجل اسرائيل"، كما يقال في بعض الاوساط العربية، انما قصد عرفات به تلقين الجميع درساً. واختار الرجوب بالذات، لأنه قائد اكبر جهاز امني فلسطيني. وشهر المسدس في وجه الرجل الأقوى، هدفه اعطاء درس للجميع، الاقوياء والضعفاء على السواء. والدليل الأهم على ذلك هو ان الرجوب يستمر في ممارسة مسؤولياته وقيادته جهازه العسكري الكبير. وجميع القادة مثله، او اكبر منه او اصغر، تلقوا رسالة عرفات جيداً. واعلنوا الولاء له، لا بل اعلنوا انهم سيحاربون اية محاولة اسرائيلية للمساس به او استبداله. تفتقد الخطة الاسرائيلية، التي تهدف الى خلق اجواء عسكرية وسياسية ملائمة لإطاحة ياسر عرفات، الى امكانات النجاح في المدى المنظور لأن اريل شارون لا يترك اي هامش للحركة يمكن أن يعول عليه من يخالف الرئيس الفلسطيني. فالطريق المسدود، الذي بلغته عملية السلام، لا يشجع اياً ممن يعتبرهم شارون ووزير دفاعه بنيامين بن اليعيزر "بدلاء" أو "خلفاء" مقبولين احمد قريع ومحمود عباس وجبريل الرجوب ومحمد دحلان على التطلع جدياً الى موقع الرئاسة، حتى إذا كان بينهم من يمكنه ابداء مرونة أكثر أو تقديم تنازلات اوسع. فما سيكون مطروحاً على الفلسطينيين، في أي مفاوضات مع الحكومة الحالية بافتراض إمكان اجرائها في ظل شروط شارون، هو نوع من الاستسلام الذي يصعب تمريره تحت أي ظرف، وعرف احد هؤلاء المرشحين احمد قريع ذلك في الاسابيع الماضية مرتين، عندما ناب عن السلطة الفلسطينية ومنظمه التحرير في مفاوضات مع وزير الخارجية الاسرائيلي شمعون بيريز. كانت المرة الاولى عندما رفض بيريز طلبه ان تُرفق، مع وثيقة التفاهم بينهما، رسالة تتضمن ان حدود الدولة الفلسطينية التي سيتم التفاوض عليها - بعد اعلانها في حدود مناطق السلطة الحالية فقط - هي حدود 1967. والمرة الثانية حين رفض شارون الوثيقة، التي تمثل أقصى قدر من المرونة الفلسطينية، على رغم ان بيريز كان أعلن ان رئيس الوزراء مُطلع على مضمون المفاوضات ومحبذ له. ولكن تبين ان شارون كان يناور للحفاظ على حكومة "الوحدة الوطنية" وكذلك فعل بن اليعيزر الذي شجع بيريز على التفاوض ثم تحفظ عن الوثيقة بدعوى أنها "غير قابلة للتطبيق". وإذا كان "ابو العلاء" لمس، في محك مباشر، أن طريق السلام صار مسدوداً ما بقيت الحكومة الحالية في السلطة، فقد ادرك باقي المرشحين ذلك كل في موقعه وعبر متابعتهم لمفاوضاته مع بيريز، بمن فيهم جبريل الرجوب الذي يبدو احياناً أنه اكثرهم خلافاً مع عرفات، لكنه خلاف من النوع التكتيكي، يتعلق بكيفية التعاطي مع الهجمة الاسرائيلية الشرسة، فيبدو الرجوب معبراً عن اتجاه يرمي الى خفض خسائر السلطة الفلسطينية خشية تصفية بنيتها التحتية تدريجياً مما يؤدي الى تفكيكها فعلياً. وبديهي ان عرفات يشاركه هذه المخاوف لكنه ينظر الى الازمة الفلسطينية الخانقة من منظار اوسع، خصوصاً بعدما أقدم على اجراءات لوقف اطلاق النار واعتقال بعض المطلوبين من دون ادنى مقابل اسرائيلي، ولذلك فالخلاف، هنا، يتعلق بالمدى الذي تذهب اليه السلطة في التعاطي مع الضغوط الاسرائيلية - الاميركية. وهذا جزء من خلاف بين اتجاهين داخل السلطة نتيجة التباين في حسابات صارت شديدة التعقيد، ففي الظرف الدولي الراهن، ربما يتفق الاتجاهان على أنه لا ضرورة لانخراط حركة فتح في العمل المسلح علناً وعبر جناحها العسكري "كتائب الاقصى". ولكن يعطي احدهما اهتماماً أكبر من الآخر لقواعد "فتح" وأجيالها الجديدة الأكثر غضباً، ولا يريد أن يغامر بتقييدهم إلى الحد الذي قد يدفع بعضهم إلى الالتحاق بالحركات المعارضة، أو يؤدي إلى انشقاق الحركة التي تؤدي دور "ضرب السلطة". وليس هذا خلافاً جوهرياً أو استراتيجياً، ولا يوجد حتى الآن هذا النوع من الخلاف الذي يدفع أحد من يُرشحون بدلاء لعرفات إلى التفكير جدياً في خلافته الآن. فالحديث عن بديل لاپبد أن ينصرف إلى مشروع ورؤية وبرنامج، وليس فقط إلى شخص. والمرشحون أو المطروحة أسماؤهم يشاركون عرفات اتجاهاته الرئيسية، وجاؤوا من المنبع نفسه. بل سبق له شخصياًَ أن أشار إلى اثنين منهم باعتبارهما أكثر رفاقه أهلية لتولي مهماته وصلاحياته في حال غيابه، وهما أبو علاء وأبو مازن. وربما يكون الرباعي كله، أي مع اضافة الرجوب ودحلان، هو البديل لعرفات، كقيادة جماعية في حال غيابه وليس تغييبه. وفرق تام بين الحالين، خصوصاً في هذه اللحظة التي يمثل إبعاد عرفات فيها نصراً كبيراً لشارون، حتى إذا أخذ ذلك شكل الاستقالة. كما أن أياً من هؤلاء لن يجد أمامه إلا الخيارات الضيقة الراهنة. فهناك - أولاً - الخياران الحدّيان، وهما قبول شروط شارون، وإدخال السلطة طرفاً محارباً بشكل مباشر في المواجهة العسكرية. وكل من هذين الخيارين ينطوي على تصفية القضية الفلسطينية، إما سلماً أو حرباً. أولهما يرفع الراية البيضاء، والثاني يعرّض الفلسطينيين - في الظرف الدولي الراهن - إلى مذابح قد تكون أبشع من صبرا وشاتيلا. ولذلك يسعى عرفات إلى تجنب كل من هذين الخيارين وإدارة الأزمة بهدف الخروج منها بخسارة يمكن تحملها، مستخدماً مزيجاً معقداً من الصمود والمناورة التي راكم خبرة طويلة فيها لا يتوافر مثلها لأي من المرشحين لخلافته حتى وهو قيد الإقامة الجبرية. فلا خيار آخر لديه إلا الاستسلام أو الانتحار، بعدما صار مستحيلاً العودة إلى النضال من الخارج. فخروجه من فلسطين اليوم سيكون إلى حصار أشد مما هو مفروض عليه في رام الله. فلن يجد دولة تستقبله إلا بوصفه زعيماً فلسطينياً سابقاً معتزلاً ليقضي باقي عمره في كتابة مذكراته. وهذا هو ما يعتقد كثيرون أن شارون يطمح إليه، غير أنه قد لا يكون هذا ما يريده بالضبط، فربما يفضل مواصلة التلويح بتغييب عرفات سياسياً من دون أن يتحرك جدياً في هذا الاتجاه. فهو يسوق موقفه المتعنت متذرعاً بأن عرفات عقبة أمام السلام ولا يمكن التفاوض معه أو الثقة فيه. ونجح، حتى الآن، في اقناع الإدارة الاميركية بذلك. فإذا أبعد عرفات، صار عليه أن يتعاطى مع البديل بأسلوب مختلف، وإلا ثبت أن المشكلة فيه وليست في عرفات. ولذلك فالأرجح أن الوضع الراهن هو الأفضل بالنسبة إليه، لأنه يتيح له الهروب من المفاوضات. وربما يكتفى بحصار عرفات، مع العمل على إعادة ترتيب الأوضاع في الضفة والقطاع عبر إقامة "مواقع أمنية" داخل مناطق السلطة، وترك موضوع خلافة عرفات مفتوحاً على احتمالين: أولهما أن تنتقل صلاحيات الرئيس الفلسطيني تدريجاً وبشكل طبيعي إلى معاونيه الذين يفوضهم إجراء الاتصالات وإدارة الأمور التي تستدعي تحركاً ممنوعاً عليه. وثانيهما أن يجد الإسرائيليون، في لحظة يحدث فيها تراجع في معنويات الشعب الفلسطيني، أن إبعاد عرفات يدعم هذا التراجع ويخلق أجواء انهزام تفرض على من يخلفه تقديم تنازلات في الجوهر. ولكن الظاهر حتى الآن أن كلاً من الاحتمالين بعيد، فالرئيس عرفات، الذي واجه أزمات خانقة من قبل، تعلم كيف يحافظ على دوره في مواجهة أشد الرياح عصفاً. والشعب الفلسطيني، الذي مرت عليه أهوال، تعود على مواجهة أكثر المحن صعوبة. ويبدو أن شارون كان لديه إحساس داخلي بأنه لن يستطيع الخلاص من عرفات عندما أبدى ندمه، أخيراً، لأنه لم يقض عليه في حرب 1982