سلوكياتنا.. مرآة مسؤوليتنا!    هل ينهض طائر الفينيق    التعاون يتغلّب على الخالدية البحريني بثنائية في دوري أبطال آسيا 2    «الكوري» ظلم الهلال    «فار مكسور»    أمير تبوك يستقبل رئيس واعضاء اللجنة الوطنية لرعاية السجناء والمفرج عنهم    أمانة القصيم تنجح في التعامل مع الحالة المطرية التي مرت المنطقة    شخصنة المواقف    النوم المبكر مواجهة للأمراض    المستجدات العالمية والتطورات الجيوسياسية تزيد تركيز المملكة على تنويع الموارد    تميز المشاركات الوطنية بمؤتمر الابتكار في استدامة المياه    الموارد البشرية توقّع مذكرة لتأهيل الكوادر الوطنية    الفيحاء يواجه العروبة.. والأخدود يستقبل الخلود.. والرياض يحل ضيفاً على الفتح    وزير الرياضة: دعم القيادة نقل الرياضة إلى مصاف العالمية    نيمار يقترب ومالكوم يعود    اجتماع قادة الصناعة المالية الإسلامية في اللقاء الاستراتيجي الثاني لمناقشة الابتكار المستدام    إنسانية عبدالعزيز بن سلمان    التركي: الأصل في الأمور الإباحة ولا جريمة ولا عقوبة إلاّ بنص    النضج الفكري بوابة التطوير    برعاية أمير مكة.. انعقاد اللقاء ال 17 للمؤسسين بمركز الملك سلمان لأبحاث الإعاقة    أنا ووسائل التواصل الاجتماعي    نور الرياض يضيء سماء العاصمة    قيصرية الكتاب تستضيف رائد تحقيق الشعر العربي    الشائعات ضد المملكة    الأسرة والأم الحنون    سعادة بطعم الرحمة    الذكاء الاصطناعي والإسلام المعتدل    بحث مستجدات التنفس الصناعي للكبار    مستشفى الدكتور سليمان الحبيب بالريان يُعيد البسمة لأربعينية بالإنجاب بعد تعرضها ل«15» إجهاضاً متكرراً للحمل    تقليص انبعاثات غاز الميثان الناتج عن الأبقار    التويجري: السعودية تُنفّذ إصلاحات نوعية عززت مبادئها الراسخة في إقامة العدل والمساواة    إعلاميون يطمئنون على صحة العباسي    الزميل العويضي يحتفل بزواج إبنه مبارك    احتفال السيف والشريف بزواج «المهند»    يوسف العجلاتي يزف إبنيه مصعب وأحمد على أنغام «المزمار»    «مساعد وزير الاستثمار» : إصلاحات غير مسبوقة لجذب الاستثمارات العالمية    محمد بن عبدالرحمن يشرّف حفل سفارة عُمان    أمير حائل يعقد لقاءً مع قافلة شباب الغد    "الأدب" تحتفي بمسيرة 50 عاماً من إبداع اليوسف    60 صورة من 20 دولة للفوتوغرافي السعودي محتسب في دبي    المملكة ضيف شرف في معرض "أرتيجانو" الإيطالي    تواصل الشعوب    ورحل بهجة المجالس    دشن الصيدلية الافتراضية وتسلم شهادة "غينيس".. محافظ جدة يطلق أعمال المؤتمر الصحي الدولي للجودة    باحثة روسية تحذر الغرب.. «بوتين سيطبق تهديداته»    في الجولة الخامسة من يوروبا ليغ.. أموريم يريد كسب جماهير مان يونايتد في مواجهة نرويجية    خادم الحرمين الشريفين يتلقى رسالة من أمير الكويت    إشادة أوروبية بالتطور الكبير للمملكة ورؤيتها 2030    أكدت رفضها القاطع للإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين.. السعودية تدعو لحظر جميع أسلحة الدمار الشامل    اكتشاف الحمض المرتبط بأمراض الشيخوخة    مشروعات طبية وتعليمية في اليمن والصومال.. تقدير كبير لجهود مركز الملك سلمان وأهدافه النبيلة    رئيس مجلس الشيوخ في باكستان يصل المدينة المنورة    أمير تبوك يقف على المراحل النهائية لمشروع مبنى مجلس المنطقة    هيئة تطوير محمية الإمام تركي بن عبدالله الملكية ترصد ممارسات صيد جائر بالمحمية    هؤلاء هم المرجفون    هنآ رئيس الأوروغواي الشرقية.. خادم الحرمين الشريفين وولي العهد يعزيان القيادة الكويتية    أهمية الدور المناط بالمحافظين في نقل الصورة التي يشعر بها المواطن    نوافذ للحياة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الاستخبارات الألمانية في عصرها الذهبي : مراقبة وتنصت ومسح الكتروني جسدي
نشر في الحياة يوم 18 - 02 - 2002

عندما اعلن وزير الداخلية الالماني اوتو شيلي ان لديه مشروعاً متكاملاً لمكافحة الارهاب، كانت الابواب كلها تقريباً مشرعة لتلقي المبادرات والاحتمالات في آن، وكانت العواطف متأججة والكل يحاول اظهار التضامن مع الشعب الاميركي بعد تفجيرات واشنطن ونيويورك.
وتقدم شيلي بملف يتضمن 103 صفحات لم تثر الكثير من الاعتراضات في حينه، بل كانت المعارضة البرلمانية اول من ساند الاجراءات المقترحة واعتبرها ضرورية.
لكن اللافت ان المعترض الوحيد على برنامج شيلي كان إضافة الى شيوعيي المانيا الشرقية وحزبهم "الديموقراطية الاشتراكية"، الكثير من اليسار الاشتراكي الحاكم، وبعض القياديين الخضر. اما اليساريون فقد اعتبروا البرنامج "ستاراً يحمل في طياته مخاطر تحويل المانيا من دولة ديموقراطية برلمانية الى دولة تفتيش ومراقبة". بينما وجد الخضر انفسهم امام خيارين، احلاهما مرّ، فإما الاذعان لافكار وزير الداخلية زميلهم المنشق، وبالتالي الخروج على مبادئ الحزب في الاعتراض على فلسفة الحرب، واما انسحابهم من السلطة وترك هذه الفرصة التاريخية تفلت من ايديهم من دون ان يتمتعوا بها وبايجابياتها. وذلك امر لم يكن يريده ابرز قيادييهم يوشكا فيشر، وزير الخارجية ونائب المستشار، ولا تحبّذه زعيمة الحزب كلوديا روث على رغم الافكار والخطط الانسانية التي تحملها.
لكن على رغم هذه المعارضة البرلمانية الضعيفة نسبياً نجح شيلي في حشد التأييد لسياسته في مواجهة الارهاب، وادخل المانيا كلها في رحم حياة جديدة.
غير ان اطلاق ايدي اجهزة الامن والاستخبارات اثار مخاوف الاجانب بملايينهم الثمانية لان الاجهزة الامنية اصبحت تملك صلاحيات جديدة تسهّل لها مراقبة المشتبه بهم، كما ان وكالة الاستخبارات الالمانية الاتحادية اصبحت قادرة على الوصول الى ما كان محظوراً عليها وهو الساحة الداخلية التي ظلت عقوداً حكراً على الامن الاتحادي.
ولعلها المرة الاولى التي يفرض فيها على ابناء البلاد وضع بصمة ابهام كل منهم على هويته وجواز سفره، الى جانب مسح الكتروني لمواصفات اليد والوجه ولون العينين، بهدف التمكن من مطابقة مواصفات الافراد مع المعلومات المخزنة آليا.
وهكذا اعتبر مشروع شيلي جزءاً من نهج كان الرئيس الاميركي السابق رونالد ريغان يعتمده في ادارة شؤون الولايات المتحدة. وهكذا دخلت اجهزة الاستخبارات والامن الالمانية عصر ما بعد 11 ايلول سبتمبر واصبحت تتحرك بناء على توافر الشكوك فقط، ليس من اجل التثبت بل لاغراض المضايقة والتحقيق، وكانت تلك من أبرز المحظورات في دولة القانون.
وإذا كانت هذه الاجهزة وما يمثلها في الدول الشيوعية الملغاة نشأت في ظروف سياسية وامنية بالغة التعقيد، مقيدة بتحديدات صارمة فرضتها الحرب الباردة، فإنها اليوم تمارس دوراً احادياً في ظل اوضاع الدولة الموحّدة الجديدة. ولعل الأمر الذي لم يتغير منذ الخمسينات هو التركيبة الادارية والهيكلية لهذه الاجهزة، فهناك هيئة برلمانية تدعى مجموعة امناء السر أنيطت بها مراقبة عمل اجهزة الامن والاستخبارات خصوصاً العمليات التي تخطط لها وتنفذها داخل المانيا في طول العالم وعرضه.
وكانت الدولة والبرلمان مهّدا منذ ايار مايو من العام الماضي لإحداث التغييرات الشاملة في عمل الاجهزة الامنية والاستخباراتية عبر اقرار مشروع تعديل قانون يتضمن تقليصاً لحصانة الرسائل البريدية والبرقية واجهزة الهاتف، بهدف مكافحة الجريمة، وكان الدافع في حينه وضع حد لتجارة المخدرات المزدهرة منذ سنوات بينما حدد التعديل الجديد مهمات التنصت على المكالمات الهاتفية بأغراض ملاحقة جرائم "كالقتل واعمال التحريض والاختطاف" لكن كل هذا لم يكن ليحدث لولا قرار المحكمة الدستورية، التي رأت "ضرورة" مكافحة فاعلة لمستويات الجريمة المتصاعدة.
التقنية الاستخباراتية
واتاح تعديل القوانين التشريع للتنصت على دور السكن والمحال التجارية عبر استخدام اجهزة صوتية معقدة ونصب مايكروفونات موجهة تتحرك آلياً باتجاه الصوت، وكل هذه الاجهزة يعمل بالاشعة تحت الحمراء. اضافة الى الاجهزة الصورية الدقيقة والصغيرة الحجم، والتي يمكن تركيبها في خاتم رجالي أو نسائي أو في بعض القطع النقدية المعدنية عدا عن تثبيتها ضمن الوجه الآخر من ربطات العنق الرجالية، او ربطات الزينة النسائية. وفي الاطار ذاته اتجهت المانيا منذ سنوات الى استثمار الصور التي تبثها الأقمار الاصطناعية استثماراً واسعاً في اغراض التجسس السياسي والعسكري، وكان هذا الاستثمار اكثر وضوحاً حتى نهاية العام 1989 عندما مهّدت اطاحة الدولة الالمانية الشرقية الى سقوط الشيوعية وتفكك الاتحاد السوفياتي وانتهاء دور حلفائه الاوروبيين، عدا عن اطلاق رصاصة الرحمة على حلف وارسو العسكري.
ويركز الالمان حالياً على تقنيات جديدة عالية الجودة في مراقبة المكالمات الهاتفية التي كانت قبل التعديلات الاخيرة محظورة ولم يكن القضاء يسمح بها الا بعد وجود "شبهات قوية" يرافقها عجز رجال الأمن عن تسريب شخص للتعامل مع المشتبه بهم.
وينسب الى رئيس وكالة الاستخبارات الالمانية BND اوغوست هاننغ تأكيده ان الوكالة التي انشئت في العام 1955 رداً على إنشاء جهاز الاستخبارات في المانيا الديموقراطية الملغاة "جهاز مكافحة التجسس" كانت تلزم بدقة كل "المقاييس" التي وضعتها الدولة وحددت قوانينها، وان مهمات جهازه ما زالت تنحصر اساساً في تهيئة المعلومات من الخارج المتعلقة بالمجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية والعلمية والتقنية.
لقد اتاحت التعديلات اشراف أجهزة الأمن على عملية فتح بعض الارساليات البريدية ومراقبة هواتف المشتبه بهم واجهزة الفاكس العائدة لهم، ثم متابعة بعض الرسائل الالكترونية التي ترسل عبر شبكة الانترنت. ومن المفارقات اللافتة في هذا الاطار انه ما زال محظوراً على رب العمل، مثلاً، التنصت على مكالمات العاملين تحت ادارته، بل لا يحق له التنصت حتى على المكالمات الهاتفية المتعلقة بالعمل ذاته من دون علم اصحابها.
ومن الواضح هنا ارتباط الاستخبارات الالمانية اكثر من غيرها من المؤسسات الامنية بدائرة المستشار، اعلى موقع سياسي في المانيا ما يجعلها مؤهلة لمضايقة الخصوم السياسيين والتأثير على معنوياتهم.
ويؤكد مسؤول استخباراتي الماني ان مشاريع الاستطلاع التي تنفذها الوكالة تتضمن ثلاثة اطر يتعلق الاول بمجمل السياسة الخارجية ويُعنى الثاني برعاية الوسائل التكتيكية المراوغة، التي تمكن في اغلب الحالات من تسهيل الوصول الى الهدف، كما ان الوكالة تعدّ الجهة الوحيدة ذات الصلاحية بإبرام الاتفاقات السرية ومتابعة نشاطات العاملين في وزارة الخارجية. كما ان لها دوراً لا يستهان به في المجال العسكري، إذ تقوم بتحليل قوة الجيوش وخططها وعناصرها القيادية ثم توزيعها وتسليحها، وتدريبها وقدراتها القتالية عدا عن تحالفاتها الدولية ومبيعات الاسلحة او مشترياتها وتحليل الوضع في قواعدها خارج بلدانها ومراكز الامداد التابعة لها. وتشير معلومات مثيرة الى ان الاستخبارات الالمانية لم تكن تعتمد في توفير معلوماتها الا على حوالي 20 في المئة من المصادر السرية التابعة له، وتتشكل في الاغلب من العملاء المباشرين أو غير المباشرين، ومن وسائل التجسس الالكتروني، بينما تغطي مصادر غير محظورة نسبة 25 في المئة من حاجتها المعلوماتية مثل أجهزة الراديو والتلفزيون، في حين تشكل تقارير المؤسسات الحكومية الالمانية نسبة مماثلة، وتغطي تقارير الملحقين العسكريين ودوائرهم في السفارات نسبة الثلاثين في المئة المتبقية.
ويرسم مسؤول سابق في الجهاز صورة لمدى الدقة المعتمدة عبر طرح مثال يتعلق برئيس الولايات المتحدة مثلاً، فعندما يكون هذا قد امر بترحيل بعض الوثائق من البيت الابيض لا تعتبر الوكالة الالمانية الخبر صحيحاً ما لم يتولَ ثلاثة من مساعدي الرئاسة التأكيد، أو يعلن رئيس الاستخبارات المركزية "سي. اي. ايه." بنفسه ان الوثائق المرحلة صحيحة.
وفي اطار مساعي اجهزة الاستخبارات الاجنبية المختلفة التأثير على سياسات الدولة الالمانية، او على اجوائها السياسية الداخلية، هناك عملية مثيرة جرت احداثها في بعض المدن الالمانية خلال الفترة بين كانون الاول ديسمبر العام 1957 وحتى شباط فبراير 1960. آنذاك تعرضت غالبية المقابر اليهودية الى الاعتداء عبر رسم شارة الصليب المعقوف عليها، ما اعتبر في حينه تنافياً للمشاعر المعادية للسامية، وأدى الى اثارة حملة واسعة ضد الالمان. ثم حدث ان افاد احد المنشقين التشيك اللاجئين الى المانيا بأن وكالة الاستخبارات السوفياتية كي. جي. بي. كانت العقل المخطط والمنفذ للعملية، بهدف بلورة الانطباع عن استمرار انتشار الافكار النازية داخل المانيا، وانها ما زالت تجد الارضية والنفوذ الواسعين حتى في ظل دولة ما بعد الحرب "الغربية".
التسلل الى دائرة برانت
ولعل قصة التسلل المثير لأحد عملاء الاستخبارات الالمان الشرقيين الى اهم دائرة في تسيير امور الدولة الالمانية "دائرة المستشار الاسبق فيلي براندت" تكشف بوضوح عن شراسة "حرب الاستخبارات" بين الدولتين الالمانيتين، وتعقيدات المسار في الحرب الباردة بين موسكو وواشنطن يومها.
فالرجل غونتر غولاومه كان لجأ عام 1956 الى المانيا الاتحادية وأوهم السلطات في العاصمة بون في حينه بتحمسه لخدمة "الدولة النموذج". وعبر هذا الإيهام نجح في الوصول الى عقل المستشار فيلي برانت، الذي كان يخوض المعركة الانتخابية الحاسمة للوصول الى منصب المستشار. وما ان فاز الاشتراكيون فيها حتى بادر الى مكافأة غولاومه على مساعيه وعينه سكرتيراً شخصياً ليكون قريباً منه، ما جعله يتصرف بحرية في المهمة التي لجأ من أجلها الى المانيا، وهي جمع المعلومات وإفشاء أخطر اسرار الدولة الى الجهاز الألماني الشرقي. ولم يكشف أمر غولاومه الا قبل عام من اعتقاله، الذي تم في نيسان ابريل عام 1975. كانت الاستخبارات الالمانية الوحيدة التي تعرف خلال ذلك العام كل تحركات الجاسوس الشرقي، وحاولت، بنفس طويل، كسب بعض الخيوط، التي قد تقود الى تحقيقها بعض المكاسب. ولم يكن حتى برانت على علم بما كان يدور خلال ذلك العام. واطلع على بعض التفاصيل عندما قرر الجهاز وضع حدّ لمراقبته واقتياد الجاسوس مع زوجته الى السجن. حدث ذلك قبل يوم واحد من عملية اعتقاله. كان المستشار برانت آنذاك يقوم بزيارة لدولتين عربيتين هما الجزائر ومصر. وعندما كان يستعد في 24 نيسان ابريل 1975 للعودة من القاهرة الى بون، بدت عواطف أحد رجال الاستخبارات الالمانية جياشة في رسم المشهد المثير حيث يقول: "لم تبارحنا صورة المستشار المخدوع برانت، وكانت تتراقص في المخيلة الى جانب صور ثورات القصور، والانقلابات التي تتم، ما ان يبارح الزعيم أو القائد أو المسؤول الأول بلاده". ولم يقطع تلك الافكار سوى عودة المستشار وهبوط طائرته في مطار كولونيا مساء ذلك اليوم، عندما توجه اليه بعض مساعديه، وهو يقطع المسافة من مدرج المطار الى صالة كبار الزوار، ليخبروه ببعض تفاصيل الحدث الذي صعقه، وجعله يؤكد انه "محبط انسانياً لما فعلته الاستخبارات في المانيا الشرقية".
بعد بضعة أيام، كتب برانت تلك الرسالة الشهيرة الى رئيس الدولة في حينه فالتر شيل يعلمه فيها تحمله المسؤولية عن "الإهمال" الذي حصل في دائرته، وليفسح المجال لرفيقه في الحزب وزير المال آنذاك هيلموت شميدت، كي يتولى موقتاً منصب المستشار. ولم تنته قصة هذا الجاسوس الخطر، الذي مات قبل عامين عن 68 عاماً، حتى بعد الانتهاء من محاكمته، والحكم بسجنه 13 عاماً. اذ حدث بعد ثمانية اعوام من وجوده في المعتقل ان تقرر تسليمه وزوجته المتهمة معه الى برلين الشرقية ليحظى باستقبال مثير على أعلى المستويات في الدولة الشيوعية، أريش هونيكر.
وتعد المديرية العامة للأمن الاتحادي أقدم المؤسسات الأمنية في المانيا الشرقية، حيث انشئت، نهاية ايلول سبتمبر من العام 1950، نتيجة مباشرة لتأسيس وزارة لأمن الدولة في المانيا الشرقية، في شباط فبراير من العام نفسه، والتي حقق اسمها "شتازي" شهرة واسعة فيما بعد، ودخل التاريخ كمؤشر على واحدة من اسوأ الفترات في حياة الألمان الشرقيين. فقد أعلن في حينه ان هذا الجهاز "ما زال يمارس اعماله انطلاقاً من مدينة كولونيا" ويتحمل مسؤولية جمع المعلومات عن الاعمال الهدامة المعادية للدستور، ويقتصر دوره على مواجهة التجسس من داخل المانيا.
ويعدّ الحادث الشهير المرتبط بهروب أول رئيس للجهاز الى المانيا الشرقية، من المؤشرات الأخرى الأكثر بروزاً على حجم الصراع بين الدولتين الفتيتين. فقد كان اوتو جون في ذلك اليوم من تموز يوليو العام 1954 يشارك في احتفال واسع لتكريم ذكرى المشاركين في محاولة اغتيال أدولف هتلر، قبل هذا التاريخ بتسعة اعوام، عندما اختفى فجأة، ولم يعد أحد يعرف عنه أو عن مكان وجوده شيئاً. لكن الاشاعات سرت فوراً عن قيام جهاز "شتازي" الشيوعي باختطافه. وبعد ثلاثة أيام من الحادث اضطرت الحكومة الى اصدار بيان تشير فيه الى "مشاكل عقلية وضغط نفسي كانا وراء انتقاله الى برلين الشرقية". ويبدو ان هذا التفسير "الساذج" لما حدث كان وراء توجه المسؤول الهارب للأمن الالماني الغربي الى احدى الاذاعات الشرقية، واعلانه منها انه "اتجه بمحض ارادته واختياره لأن بقايا النازيين كانوا من النفوذ بحيث لم يدعوا له مجالاً لأداء مسؤولياته الوظيفية". وأصدر وزير الداخلية الغربي بياناً لافتاً اتهم فيه أحد الاطباء من أصدقاء المسؤول الأمني الأول باستخدام وسائل طبية ونفسية معقدة للتمكن من نقله بسيارته الى المانيا الشرقية.
ومع ان بون حاولت في حينه التقليل، ما استطاعت، من شأن أهم فضيحة سياسية واستخبارية يشهدها الغرب والشرق على حد سواء إلا انها بقيت شاهداً حتى اليوم على اسوأ تعامل مع مثل هذا الحدث، اذ كان المستشار آنذاك مونراد اديناور قد "تصرف بسذاجة" مفرطة عندما أدلى بتصريحات، على هامش القضية، أكد فيها "عدم وجود أي اتفاقات سرية ذات صلة بقضايا الدفاع الأوروبي" حتى قبل ان يتناول جون مثل هذا الموضوع الحساس، ما أدى الى اثارة الرأي العام في الدولة الغربية وسخطه، لأنه كان يظن ان المسؤول الهارب، أفشى كل الأسرار التي بحوزته، لكن تصريحاته في شأن النفوذ النازي ألحقت أذى كبيراً بسمعة الدولة الغربية، خصوصاً اشارته الى اسم أحد وزرائها ثيودور اورليندر، وتأكيده انه كان يمارس، خلال الاحتلال الالماني، لبولندا، سياسة تحويل المناطق البولندية الى المانية.
واللافت ان هذا المنطق كان بين اساليب التشهير التي لجأت اليها الاجهزة الأمنية السوفياتية، عبر الاستخبارات الالمانية الشرقية، للتأثير في معنويات الدولة الالمانية الغربية، فقد حدث بين عامي 1966 و1968 ان تعرض الرئيس الالماني الغربي هاينريش لوبكه لاتهامات عجيبة في شأن معسكرات الاعتقال خلال الحرب العالمية الثانية، ثم اتضح بعد سنوات، عبر افادة لأحد المنشقين، أن جهاز "شتازي" كان يقف وراء الحملة، اذ كان المسؤولون الالمان الشيوعيون طلبوا خلال اجتماع زملائهم في الاستخبارات التشيكية البحث في ارشيفهم عن أي أدلة ضد الرئيس لوبكه، وعندما لم يعثروا على شيء طالبوهم بتزوير أدلة بهذا المعنى.
كما أن من اللافت أيضاً في قضية هرب رئيس الأمن الاتحادي العام أوتو جون، عودته المثيرة إلى بلاده بعد 17 شهراً من ظهوره في المانيا الشرقية، وبالغموض ذاته، إذ كان وصل إلى مدينة برلين الغربية في سيارة مراسل لصحيفة دنماركية، زاعماً أنه كان "تحت التخدير" عندما نقل إلى الدولة الشيوعية، إلا أن هذه الافادة لم تكن حائلاً دون ادخاله السجن أربع سنوات.
جرائم المتعاونين
وتعتمد أجهزة الأمن والاستخبارات الألمانية في أداء مهماتها في المتابعة وجمع المعلومات على الجانب الأكثر شهرة في العالم، وهم العناصر المؤتمنون، وتولى وزير الداخلية أوتو ستيلي قبل أيام التأكيد على أن مبدأ "المؤتمنين" في التعامل يعد فرضية لا غنى عنها، ومن دونه "لا تستطيع الأجهزة أداء مهماتها"، وربما يكون هذا صحيحاً تماماً، ولكن كيف؟
من حيث المبدأ، كان تعديل قانون الأمن الاتحادي الألماني في العام 1987 أباح للعاملين استخدام وسائل عدة من بينها اعتماد العناصر المؤتمنة، بل وسمح لهم باستخدام وثائق ورموز لا أساس لها. وهؤلاء لا صلة لهم مباشرة بالجهاز الأمني، ويتقاضون أجوراً لقاء الخدمات التي يقدمونها.
ومع أن هذا النوع من المتعاملين يتلقون تعهداً بالمحافظة على سرية نشاطاتهم، إلا أن التعهد يصبح لاغياً إذا قدموا معلومات غير متأنية، أو لا تتسم بالدقة، أو قاموا بخيانة الثقة، أو حتى تصرفوا بطريقة غير لائقة، فعندها "يقدمون إلى القضاء" لمحاكمتهم.
ولم يتسنَ حتى الآن ملاحظة حالات احالة لبعض هؤلاء المتعاونين "المؤتمنين" على القضاء، على رغم "ثبوت" الكثير من التجني ذهب ضحيته ابرياء، حسب تأكيدات خبير في شؤون الأجهزة الأمنية، أكد احتفاظه بمعلومات يقدمها عند الطلب، عن تفاصيل بعض الاساءات التي لحقت بأبرياء، أما بسبب جهل هؤلاء المتعاونين، أو عدم التزامهم بالأمانة، أو تصورهم بأن الضمانات التي تلقوها بالمحافظة على السرية ستبقيهم إلى الأبد في منأى عن ملاحقة العدالة الألمانية التي لا ترحم لدى ثبوت التجاوز.
لكن للتجاوز أكثر من صورة في الكثير من الأحداث التي وقعت فأدت إلى بعض الضجيج، والكثير من الانفعال، منها تلك الوثيقة التي كشف عنها في حزيران يونيو 1976 وزعم أنها صادرة من مدير الاستخبارات المركزية الأميركية وموجهة كرسالة منه إلى وزير الدفاع الألماني السابق فرانس جوزيف شتراوس، وتتضمن ما تردد عن مساعدات مالية أميركية تقدم إلى السياسي الألماني عن "دوره في تسهيل ابرام عقود المانية مع شركة صناعة الطائرات الأميركية لوكهيد"، لكن الأميركيين ردوا في النتيجة مؤكدين أن الرسالة لم تصدر منهم! طبعاً "بعد خراب البصرة". ومنها أيضاً ما نشرته مجلة "دير شبيغل" في آب اغسطس 1986 في شأن تهريب الاستخبارات الأميركية أسلحة المانية شرقية عبر السفينة الدنماركية "بيافيستا" إلى الثوار في بيرو، ثم تبين أن ما نشر لم يتعد فبركة كان الأميركيون وراءها بهدف الاساءة إلى الثوار ورفاقهم الساندينيين في نيكاراغوا.
ومن القضايا المعضلة التي تواجه العاملين في هيئة التحريات الجنائية ومكافحة الجريمة تلك المرتبطة بقضايا اللجوء السياسي، فالألمان يؤكدون تعذر سيطرتهم على كل أنواع الجريمة المتعلقة باستغلال قوانين اللجوء السياسي التي كانت قبل تحديدها تتميز بالمرونة. ويشير أحد العاملين في الهيئة إلى القصة التي كانت مدينة هامبورغ مسرحاً لها، إذ كانت الشكوك تحوم حول 112 شخصاً زعم كلهم الانتماء دفعة واحدة إلى جمهورية ساحل العاج، فما كان من الجانب الألماني إلا أن استدعى مبعوثاً من هذه الدولة أكد في النتيجة أن 71 منهم لا صلة لهم اطلاقاً ببلاده. وهناك قصة أخرى لا تخلو من طرافة، وتتعلق بأحد طالبي اللجوء السياسي ممن زعموا أنهم من مواطني ليبيريا، وذكر لسلطات اللجوء أنه من سكان العاصمة منروفيا ويقع منزله في شارع الملكة فيكتوريا، لكن لدى عرضه على أحد المسؤولين في سفارة بلاده في بون آنذاك، تبين لسوء حظه أن مثل هذا الشارع موجود في غالبية العواصم الافريقية التي كانت خاضعة للاحتلال البريطاني إلا في منروفيا، وعندها اتضح ان الشكوك الالمانية كانت في محلها. وهناك الكثير من الحالات المماثلة حصلت مع أشخاص من جنسيات عربية زعموا أنهم عراقيون للاستفادة من التعاطف الذي كان سائداً في حينه مع العراقيين والحصول عبر هذا الطريق على لجوء سهل!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.