قبل نحو تسع سنين اختفت من برلين ملفات وأفلام سرية جداً سرقها جواسيس من مخابىء جهاز ال"شتازي" الألماني الشرقي، وسلموها الى وكالة الاستخبارات الأميركية في صفقة في غاية السرية لم تعرف تفاصيلها بعد. وقبل أيام قليلة أُعلن أن واشنطن سوف تسلم جهاز الاستخبارات الألمانية "بي. ان. دي" القسم الأكبر من هذه الوثائق والأفلام التي تطول هوية أكثر من ألفي عميل الماني وغربي تجسسوا لصالح المانيا الديموقراطية السابقة. ويعتقد خبراء هنا أن قسماً من هؤلاء لن يُعرف عنه شيء بعد أن تم ابتزازه وتحويله الى عميل رسمي لل"سي. آي. اي". اسكندر الديك يلقي من بون أضواء على القضية: كان نداء غير عادي هذا الذي وجهته عام 1998 مجموعة معروفة من الألمان الشرقيين الذين عارضوا النظام السابق، الى الرئيس الأميركي بيل كلينتون عن طريق السفارة الأميركية في بون. فقد طالبت هذه المجموعة من رئيس أعتى قوة في العالم اعادة المستندات والملفات والأفلام التي سرقت قبل تسع سنين تقريباً من برلين، من مخابىء ال"شتازي" الكلمة تلخيص لإسم وزارة أمن الدولة التي كانت تحتفظ بها "الإدارة الرئيسية للتجسس" في الوزارة، تحت اشراف الرجل الأسطوري في عالم الجاسوسية ماركوس فولف. وبعد مرور سنة على النداء يبدو أن المجموعة وصلت الى غايتها بعد أن كان الأميركيون قد رفضوا أكثر من مرة تلبية رغبة بون في الأعوام الماضية. ووعد كلينتون المستشار الاتحادي غيرهارد شرودر في قمة الدول الثماني التي انعقدت أخيراً في كولونيا بتسليم نسخ عن المواد التي سرقت. إلا أن الحكومة الألمانية ترفض الاستفاضة في الموضوع وتتسلح حالياً بالصمت. لذلك فإن أحداً لا يعرف بعد ما إذا كانت النسخ ستقدم الى وكالة الاستخبارات الألمانية، كما تريد واشنطن أم الى "وكالة غاوك" التي تشرف على أرشيف ال"شتازي" منذ 1989، وتعمل على تحليلها كما تريد بون حالياً. وقد أصبح واضحاً وجود صراع بين المؤسستين للحصول على هذه النسخ. وفي كل الأحوال فإن أحداً هنا لا يعرف بعد ما الذي ستحتويه النسخ التي ستقدم الى المانيا، وهي لن تكون كاملة على الأرجح، وما إذا كانت ستضم أسماء العملاء السريين الذين عملوا للألمان الشرقيين فقط أم أسماء ضحاياهم أيضاً. كما أن أحداً لا يعرف، أو لن يعرف، ما إذا كان خبراء ال"سي. آي. اي" سيرسلون كل أسماء العملاء الذين كشفوهم، وهم أكثر من ألفي شخص، أم أنهم سيشطبون أسماء الذين بدّلوا المواقع وأصبحوا يتجسسون لصالح واشنطن، بعدما تعرض كل واحد منهم للابتزاز الذي يناسبه؟!. ولا بد من الإشارة هنا الى أن بعض الضباط الذين عملوا في وزارة أمن الدولة الشرقية تمكن في اجتماعات الطاولة المستديرة التي عقدت في عهد المانيا الديموقراطية، بعد أول انتخابات حرة جرت فيها وقبل الوحدة الألمانية أي بين 1989 و1990، من إقناع الأحزاب والأطراف السياسية الأخرى بعدم فتح هذه الوثائق والملفات. والهدف: ان لا يجري تعريض الجواسيس الألمان الشرقيين أو الأميركيين العاملين في الولاياتالمتحدة لصالح "شتازي" الى عقوبة الاعدام على الكرسي الكهربائي. وأشار الضباط الى أن هناك امكانية ان يُعاد هؤلاء قبل افتضاح أمرهم. هكذا صدر قرار بنقل هذه المواد السرية جداً من المبنى المركزي لل"شتازي" الى مخبأ آخر بعدما رفضت الطاولة المستديرة طلب اتلافها. ومن الواضح أن الأميركيين اهتموا جداً للأمر، وكانوا سيكونون من الحمق بمكان في ما لو لم يبذلوا المستحيل للحصول على هذه الملفات التي قد تشكل أهم غنيمة لهم في هذا القرن. لذلك فعندما تم كشف المخبأ من جديد بعد فترة زمنية غير طويلة، تبين أنه فارغ وأن المستندات والملفات والأفلام اختفت تماماً، بينما وجدت على الأرض أغلفة أفلام عديدة، الأمر الذي ترك الانطباع بأنه تم تصويرها على ميكرو فيلم قبل سرقتها. ويقول أحد الخبراء الذين تابعوا الموضوع في تلك الفترة عن قرب، أنه اقتنع عندها بأن الوثائق كانت مهمة جداً، مشيراً الى جملة كان قد قالها له ضابط من ال"شتازي": "نحن نملك مستندات عن جميع الوزارات في بون، من المرأة العاملة في تنظيف المراحيض الى الوزير نفسه". أما كيف حدثت السرقة وكيف وصلت هذه المواد السرية جداً الى يد ال"سي. آي. اي"، فهناك تكهنات عدة وروايتان. الرواية الأولى تتحدث عن أنه مباشرة بعد نقل المستندات والأفلام الى المخبأ الجديد في برلينالشرقية، قام عميل أو أكثر من ال"شتازي"، أو عميل سري روسي، بنقلها وبيعها الى وكالة الاستخبارات الأميركية. والرواية الثانية تشير الى أن الميكرو فيلم، أو الميكرو افلام، نقلت أولاً الى جهاز الاستخبارات الروسي "كي. جي. بي" في موسكو، ومن هناك بيعت الى ال"سي. آي. اي". واستبعدت التكهنات كلها أن تكون الاستخبارات الأميركية تمكنت وحدها من اقتناص هذه الغنيمة الثمنية جداً والتي أطلقت عليها اسم "أوبريشن روزنْوود" "عملية روزنوود" أو "عملية خشب الورد" في حال ان الإسم ليس كنية. في هذا الوقت، وبعد ثماني سنين من المحاولات الحثيثة، تمكنت "وكالة غاوك" أسست عام 1989 في عهد المانياالشرقية للإشراف على "ارث" وزارة أمن الدولة وأرشيفها وتحمل اسم رئيسها الأب يواخيم غاوك المفوض من قبل الحكومة الاتحادية، من فك رموز أربعة شرائط الكترونية ممغنطة اكتشفت مبكراً وتحمل 180 ألف معلومة تجسسية بين أعوام 1969 و1987. وتمكن تقني اتصالات شرقي مطلع العام الجاري من اكتشاف مجموعة الأرقام الكود التي تفتحها، الأمر الذي جعل مجلة "دير شبيغل" تصف ذلك بأنه أشبه بفك رموز "مقبرة ماركوس فولف الفرعونية". ومعروف أن جهاز ال"شتازي" اتلف بعد انهيار النظام الشيوعي مباشرة أطناناً من الملفات والمستندات لديه. والسؤال هنا هو: كيف أن عناصر الجهاز لم تلحظ هذه الشرائط الالكترونية التابعة ل"الإدارة الرئيسية للتجسس"؟ أحد كبار المسؤولين عن التجسس في الجهاز البائد، فرنز غروسمان، ذكر حول الموضوع آخيراً أن أحداً لم يكن يعرف أن نسخة عن هذه الشرائط خبئت في نفق تابع للجيش الألماني الشرقي وبقيت سالمة. ويعمل الآن خبراء واختصاصيون على تفريغ الشرائط الأربعة التي تحتوي بشكل أساسي على الأسماء المستعارة للجواسيس وأرقامهم وتلخيصاً لكل معلومة سرية مع تاريخها ورقم تسجيلها. وبحسب معلومات "دير شبيغل"، فإن بعض القضايا السرية التي شغلت الألمان على مدى الفترة الماضية بدأ يتوضح ويظهر للعيان. من ذلك مثلاً كشف قيام أحد قادة الحزب الاشتراكي الديموقراطي السابقين، كارل فيلاند، بتسليم 393 معلومة الى الجهاز. وكان المذكور قد دين العام الماضي استناداً الى وثائق أخرى، لكنه بقي ينفي حتى النهاية أية علاقة له بالجهاز المذكور. ويتوقع البعض أن تكشف الاسطوانات مستقبلاً ما إذا كان قائد الحرس البابوي السويسري في الفاتيكان الذي قتل عام 1998، عميلاً لألمانيا الشرقية أم لا، أو الكشف عن معلومات حول مسائل لا تخطر الآن على البال وقد تكون في غاية الأهمية. وكان لهذا الأمر ان رفع درجات الانتباه في المانيا وفي الخارج لأن المسألة تتعلق بما مجموعه 4500 عميل كانوا يغذون ال"شتازي" بمعلوماتهم من مختلف أنحاء العالم. لكن الأمر غير المؤكد بعد هو ما إذا كان من الممكن، بمساعدة الأشرطة الأربعة، الكشف عن كامل عملاء الجهاز الغربيين، إذ أن الفهرست يتضمن فقط الأسماء المستعارة. صحيح ان العديد من العملاء أصبح معروفاً على مدى السنوات الأخيرة، إلا أن ما تفتش عنه الأجهزة الأمنية الألمانية موجود حالياً في الولاياتالمتحدة الأميركية حيث تحمل الملفات الأسماء الفعلية لمجمل الجواسيس ولأسمائهم المستعارة أيضاً. وترى الأوساط الأمنية والسياسية الألمانية أنه أصبح بإمكان المانيا اليوم اجراء صفقة مع واشنطن لتبادل كامل المستندات والوثائق، خصوصاً وان الشرائط الالكترونية تحمل معلومات عن قسم ال"شتازي" الذي كان مسؤولاً عن التجسس في الولاياتالمتحدة، الأمر الذي سيثير ولا شك اهتماماً كبيراً لدى وكالة الاستخبارات الأميركية كما توقعت "دير شبيغل"، مضيفة أن الوكالة أصبحت تخشى الآن فقدان احتكارها لأسماء جواسيس المانياالشرقية في مختلف أنحاء العالم.