اهتزت أساسات العلاقات الالمانية - الايرانية مع إصدار المدعي العام الاتحادي في المانيا مذكرة اعتقال بحق وزير الاستخبارات الايراني علي فلاحيان بتهمة التخطيط والاشراف على قتل أربعة أكراد ايرانيين. ولفت في المذكرة ان الادعاء العام تجاهل الموقع البارز الذي يحتله المسؤول الايراني في بلاده، من خلال الاشارة إليه على أنه "مجهول الاقامة وتاريخ الولادة". وتعود خيوط الحادث الى يوم 17/9/1992 عندما اضطر اصحاب مطعم ميكونوس اليوناني في برلين الى اغلاق أبواب مطعمهم تحت تأثير روائح الدم التي خلفها قتل الزبائن الاكراد الأربعة وإصابة خامس بجروح خطيرة. وحصل يومها نوع من اللفلفة للقضية، من دون معرفة ان كان ذلك مرتبطاً بتورط دولة اخرى، كما يصر القضاء الالماني وبعد مضي زهاء أربع سنوات على تنفيذ الجريمة، أو بسبب فقدان الخيوط اللازمة لملاحقة الجناة. وبعد مضي حوالي عام حدث لغط مصحوب بهمس عن "دور ايراني رسمي ومباشر في اغتيال المعارضين الاكراد" ما لبث ان تراجع تدريجياً ثم اختفى. من الطبيعي الاشارة في هذا الصدد الى ان علاقات ايران بألمانيا ومؤسساتها الاقتصادية العملاقة، كانت حتى وقت قريب تحظى برعاية رسمية استثنائية حتى انها تحولت الى شبه مؤسسة ثابتة، وفوق "الشبهات". ولم تكن الزيارة التي قام بها وزير الاستخبارات الايراني نفسه الى بون في تشرين الأول اكتوبر 1993 مدعواً من أعلى المراكز الالمانية الفاعلة، سوى دليل على "الاهتمام الاستثنائي" من المانيا بازدهار مضطرد في علاقات البلدين. آنذاك تناول المسؤول القادم من طهران العشاء في "دائرة" المستشار، بدعوة من شميد باور المنسق العام بين اجهزة الأمن والمخابرات والمرتبط بصورة مباشرة بالمستشار هيلموت كول، الأمر الذي يعكس بوضوح أهمية المركز السياسي والاستخباراتي لفلاحيان. وقدم الضيف شكر مؤسسته على الهدية التي تلقاها من مضيفيه، وهي عبارة عن مختبر تصوير وعدد من اجهزة الكومبيوتر. والواقع ان الاجهزة الالمانية التي توسطت لتسليم هذه الهدايا، لعبت دوراً واضح الازدواج مع حكومة طهران، فهي من ناحية تقبل بقيام تعاون وثيق مع الاجهزة الايرانية، ومن الناحية الاخرى تذيع على الدوام معلومات بيانية في شأن الشبهة المنسوبة الى تلك الاجهزة، ودورها غير المثبت في تصفية معارضي النظام الايراني. وليس سراً الحديث عن دور الاجهزة السرية الالمانية في تدريب عناصر في جهاز الاستخبارات الايراني، وهو دور كانت استخبارات المانياالشرقية ستازي تمارسه مع الاستخبارات العراقية. ويفيد تقرير أصدرته دائرة التحريات الجنائية الاتحادية أن "الفترة بين 1980 و1995 شهدت تصفية 33 ايرانياً، معظمهم من السياسيين والفنانين والكتاب المقيمين في المنفى بصورة دائمة". ويبدو ان الاستخبارات الالمانية B.N.D التي اكدت في الماضي تحويل السفارة الايرانية في بون الى مركز أوروبي للاستخبارات الايرانية، فضلت الصمت على نشاط الاستخبارات الايرانية بعدما عقدت اتفاقاً معها يتضمن في جملة ما يتضمن، ايفاد ضابطين ألمان الى طهران للتنسيق في الشؤون المخابراتية مع الوزير فلاحيان، وتأكد حالياً ان بون، احترازاً لما قد يحدث للعلاقات بين البلدين في مستقبل قريب، استدعت "على عجل" الضابطين للبقاء في المانيا "حتى اشعار آخر". استمرار الوضع الشائك وتؤكد المصادر الأمنية ان أسباب هذا "الوضع الشائك" تعود الى إصرار مسؤولين بارزين في بون على استمرار التعاون الوثيق مع ايران، ويعتبر وزير الخارجية كلاوس كينكل أبرز الداعمين لهذا الاتجاه، من منطلق استمرار سياسة "الحوار النقدي" التي تؤيدها ايضاً دول الاتحاد الأوروبي حتى ان وزارة الخارجية الالمانية كانت شديدة الوضوح ذات مرة في التعبير عن وجهة نظر الوزير كينكل، عندما حذرت من احتمال الحاق ضرر في العلاقات بين البلدين، وربما تعريض حياة المواطنين الالمان الى الخطر. وينبغي التسليم بأن ملف العلاقات الايرانية - الالمانية لم يكن فتحه ممكناً بهذه الطريقة، وبمثل هذا الاسلوب الصارم لولا التفجيرات الأخيرة في اسرائيل وموقف ايران منها. حيث يؤخذ على الايرانيين عدم وقوفهم الى جانب الاسرائيليين. حتى ان كينكل شخصياً اضطر الى تبني دور السياسي الحازم ازاء ايران بالذات، والطلب من قادتها "التنصل بوضوح من الارهاب، وإدانة التفجيرات التي نفذتها منظمة حماس". وتقف ايران حالياً أمام مفترق طرق ازاء علاقاتها مع حكومة بون، والعكس صحيح ايضاً، اذ ان البلدين يجدان ان عليهما التصرف بحذر إزاء الطريقة التي يمكن للعلاقات من خلالها الاستمرار من دون التعرض الى مخاطر يصعب معها اصلاحها بسهولة. كما يبدو ان الحملات الاعلامية المعادية لايران بدأت تركز على اقتناص أي واقعة يمكنها تشويه العلاقات الايرانية - الالمانية وتحويلها الى قطيعة تامة، وقد يبدو الحادث الذي جرت فصوله بين ميناءي انتغيربين في بلجيكا، وهامبورغ في شمال المانيا ابلغ دليل على التداخل السياسي والأمني الذي وصلت اليه هذه العلاقات، فالدوائر الاعلامية تركز على ان "الايرانيين هربوا ثلاثة صناديق من المتفجرات على متن سفينة شحن ايرانية غادرت ميناء بندر عباس، لترسو بحمولتها في الميناء الالماني، وتنقل المتفجرات فيما بعد الى عنوان في مدينة ميونيخ"، كما تلفت الى "شخص غامض"، وصفته الدوائر الاعلامية بالجاني المحتمل، المرافق للمتفجرات ومرتب عملية التفجير، القى نفسه في مياه الألب ليلقى حتفه غرقاً. ولا يبدو، الآن على الأقل، ان الايرانيين مقتنعون بموقف سياسي الماني رسمي ضدهم، أدى الى اعادة فتح ملف العلاقات بين البلدين بأسلوب مرتبك، بعد ان فشل حتى سحب معظم الدول الاعضاء في الاتحاد الأوروبي لسفرائها من طهران، في ثني الجمهورية الاسلامية عن أهدافها، وهناك من يذكر باستمرار فتوى قتل الكاتب سلمان رشدي، التي صدرت عن الأمام الخميني، ما استدعى عقد قمة دولية، الا انه أفاد الايرانيين بأن أوروبا ومعها الولاياتالمتحدة تغلّب في الدرجة الأولى مصالح الاقتصاد على حقوق الانسان، والدفاع عنها. وكشف النقاب، قبل فترة عن أن الحكومة في بون، لم تكن راضية "بالفعل عن صدور مذكرة الاعتقال بحق فلاحيان عن دائرة المدعي العام"، وتأكيدها من أعلى سلطة قضائية في المانيا هي المحكمة الاتحادية العليا، لكن "تداخلات معقدة" أثنت بون في النتيجة عن استخدام "حق الدولة في وقف القضاء، اذا كان يمس بسلوكه المصالح العليا للبلاد". سر التظاهرة ويبدو ان الايرانيين مطلّعون على بعض تفاصيل هذه "التعقيدات" الأمر الذي انعكس بشكل كامل على الرد الايراني، وتعامله السياسي والديبلوماسي مع القضية التي اسماها مرشد الجمهورية الاسلامية علي خامنئي بپ"الحدث المفاجئ". وتظاهرة الاسبوع الماضي، أمام السفارة الالمانية في طهران خير دليل على التميز في الرد الايراني. فالمشاركون في التظاهرة لم يهاجموا المانيا في هتافاتهم كما فعلوا مع الولاياتالمتحدة واسرائيل، ولم يحرقوا العلم الالماني، كما هو الامر مع العلمين الاميركي والاسرائيلي، وقد يكونون أرادوا من هذا الموقف اظهار المانيا ايضاً بالبلد "المستضعف" الذي يمارس دوراً تنفيذياً مُكرهاً عليه. وليس خافياً ان الردود التحذيرية التي صدرت عن السفير الايراني في بون سيد حسين موسويان او عن وزارة الخارجية في طهران، ثم تحذير الرئيس الاعلى للقضاء الايراني السيد محمد يزدي وحتى موقف المرشد خامنئي تميزت كلها بالضرب على وتر ان "السبب في ما يحصل الآن هو وقوف ايران مع حقوق الشعب الفلسطيني، ومعاداتها للحركة الصهيونية" وهو أمر محرج ويعتقد زعماء ايران انهم سيحققون "اختراقاً" في الاوساط الغربية. لكن سياسة التصعيد الاعلامي في بون ضد ايران لم تخف حدة بسبب الردود الايرانية المحذرة بل على العكس، هناك ابراز متعمد لاحداث لم تكن في السابق تشغل بال احد، من مثل ان الطابق الثالث في السفارة الايرانية في بون مركز لتنسيق العمليات التي يقوم بها جهاز الاستخبارات الايراني وعملاؤه في المانيا واوروبا الغربية، او اعتقاد اجهزة حماية الدستور الالمانية ان الدائرة الثقافية في السفارة تحصر نشاطها في كسب الجواسيس الجدد. ولعل الحدث الاكثر دلالة من حيث الابعاد السياسية هو الاعلان الجديد عن احباط اجهزة الجمارك الالمانية في ميناء هامبورغ اجراءات ارسال شحنة مواد الى ايران "يمكن" استخدامها في تنفيذ عمليات ارهابية. وقد تقدم المانيا في النتيجة على الخطوة التي طال انتظارها في واشنطن وتل ابيب، وتقرر بعد الانتهاء من المرافعات القضائية في مقتل المعارضين الاكراد الاربعة، سحب سفيرها من طهران. لكن الالمان، في كل الاحوال، لن يقدموا على اجراء مع ايران منفصل عن بقية شركائهم الاوروبيين.