لم تمر معركة انتخابات واحدة في اسرائيل، من دون ان يثير اليمين اليهودي المتطرف قضية الوجود العربي في مؤسسات الدولة العبرية المنتخبة، محاولاً منع الأحزاب العربية او شخصيات عربية مرشحة على القوائم المختلفة. وفي الانتخابات، المقرر اجراؤها في 28 من الشهر المقبل، يحاول اليمن نفسه إلغاء شرعية أربعة أعضاء في الكنيست هم الدكتور عزمي بشارة والدكتور أحمد الطيبي ومحمد بركة وعبدالمالك دهامشة، مع القوائم الانتخابية التي يقودونها: التجمع الوطني، تحالف الجبهة الديموقراطية للسلام والمساواة والقائمة العربية الموحدة. إلا أن احتمالات نجاح اليمين ضعيفة، كما يبدو الأمر حالياً، على رغم نجاح المتطرفين في تمرير قوانين عنصرية تدعم موقفهم، ولكن، بغض النظر عن نتائج البحث، فإن مجرد هذا الطرح يعمق الأجواء المعادية للعرب في اسرائيل، ويؤجج اللهيب العنصري فيها كدولة "أبرتهايد". ومن الغريب أن هذا الطابع الذي يتأصل في اسرائيل ضد مواطنيها العرب فلسطينيو 1948 وحتى ضد مواطنيها اليهود من أصل عربي اليهود الشرقيون، لا يلقى اي اعتراض او انتقاد جدي من الديموقراطيات الغربية. بل ان هذه الديموقراطيات، وعلى رأسها الولاياتالمتحدة، ما زالت تنظر الى اسرائيل ك"واحة للديموقراطية في الصحراء العربية الديكتاتورية في الشرق الاوسط". في حين يساور القلق سكان هذه الدولة، وليس فقط العرب منهم. بل ان بعض القوى اليهودية بات يطالب دول أوروبا ان تفرض المقاطعة والحرمان على اسرائيل بسبب سياستها العنصرية عموماً وضد مواطنيها العرب خصوصاً. الجذور التاريخية من المعروف ان هناك مجموعة كبيرة من العرب الفلسطينيين الذين لم يرحلوا عن فلسطين في نكبة 1948، وبقوا في تخوم الدولة العبرية الجديدة. بعضهم قاوم وصمد. وبعضهم راوغ وتشبث بأرضه. وبعضهم تعاون مع السلطات الاسرائيلية، وبعضهم هرب ثم عاد متسللاً، وبعضهم اصبح مواطناً بموجب اتفاقية رودس الدولية. هذه الشريحة من الفلسطينيين تشكل اليوم حوالي مليون نسمة، وتعرف في العالم العربي باسم "فلسطينيي 1948" باعتبار انهم بقوا في الوطن فوقعوا تحت الحكم الاسرائيلي منذ سنة 1948، وهم بغالبيتهم الساحقة جداً وطنيون. يعتزون بانتمائهم الوطني ويحاربون من أجله. وفي الوقت نفسه يؤيدون التسوية بين اسرائيل وشعبهم وأمتهم العربية على أساس اقامة الدولة الفلسطينية المستقلة في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية، وهم يدركون تماماً ان هذا الحل يعني بقاءهم في ظل الحكم الاسرائيلي، ولا يدركون فحسب، بل انهم بغالبيتهم الساحقة معنيون بالبقاء. ويربطون مصيرهم بمصير اسرائيل، ويكافحون من أجل الفوز بحقوقهم كاملة داخلها، فيرفعون شعار "المساواة ولا أقل من المساواة"، وبينهم من يطرح مطلب "حقنا ان نكون شركاء في ادارة شؤون الدولة" طرحه للمرة الأولى الشاعر توفيق زياد، عندما كان عضواً في الكنيست ورئيساً لبلدية الناصرة. ويوجد بينهم من يطرح مطلب "إسرائيل دولة لكل مواطنيها" طرحه عزمي بشارة، رئيس التجمع الوطني الديموقراطي. في البداية لم تسمح اسرائيل لحزب عربي ان يتأسس وينشط فيها. وفي سنة 1958، عندما قامت "حركة الارض"، اصدرت أمراً عسكرياً بحلها بحجة انها "حركة سياسية معادية لإسرائيل ومناصرة لاعدائها". واعتقلت جميع قادتها. ولهذا، لم يكن امام الوطنيين العرب فيها، إلا أن ينضموا الى الحزب الشيوعي الاسرائيلي الذي عرف في ما بعد باسم "راكاع" ويعملوا من خلاله، إذ كانت طروحاته ملائمة لأهدافهم الوطنية حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، المساواة، العدل، السلام… وحاولت الحكومة إقامة أحزاب عربية تابعة لها ففشلت. إذ كانت تلك مجرد حركات انتخابية، تخبو فور انتهاء الانتخابات. فقط في سنة 1978 تأسست حركة سياسة عربية كحزب، هي "الحركة التقدمية للسلام". إلا أن الحكومة الإسرائيلية حاولت مع قوى اليمين التي تقودها إلغاء هذه الحركة أيضاً، لكنها فشلت. فقد تصدى لها الجهاز القضائي الاسرائيلي بقوة. وأجاز للحركة ان تعمل. فتمكنت من الوصول الى الكنيست بقيادة المحامي محمد ميعاري، الذي كان من نشطاء حركة الأرض. ومن بعدها تأسست أحزاب عربية اخرى أبرزها الحزب العربي الديموقراطي بقيادة النائب عبدالوهاب دراوشة الذي كان نائباً في حزب العمل الاسرائيلي لكنه انشق عنه، والحركة الاسلامية وهذه انقسمت الى قسمين احدهما يشارك في انتخابات الكنيست والثاني يدعو الى مقاطعتها، والتجمع الوطني بقيادة عزمي بشارة، والحركة العربية للتغيير بقيادة أحمد الطيبي والحزب العربي القومي بقيادة محمد حسن كنعان والجبهة الوطنية بقيادة هاشم محاميد. وتتخذ الأحزاب العربية مواقف متشابهة في القضايا الكبرى، مثل قضية السلام والمساواة. لكنها تختلف في المنطلقات والطروحات، وفي بعض الاحيان في الايديولوجيا. لكنها مقسمة الى ثلاثة تيارات سياسية هي: 1- التيار اليساري الماركسي، ويقوده الحزب الشيوعي الذي اقام منذ سنة 1977 جبهة وطنية يهودية - عربية، لكن هذه الجبهة ضعفت كثيراً. وهذا التيار ما زال قوياً في صفوف العرب. وهو ممثل حالياً في الكنيست بثلاثة نواب، بينهم عربيان محمد بركة وعصام مخول والثالث يهودي هو السيدة تمار غوجانسكي، والتي تخوض المعركة الانتخابية الحالية بتحالف مع الحركة العربية للتغيير بقيادة النائب أحمد الطيبي. هذا التيار يؤيد السلام الاسرائيلي - العربي والعلاقات اليهودية - العربية ويؤمن بالتعايش. 2- التيار الاسلامي، وهو يمثل الحركة الاسلامية. لكنه يخوض المعركة الانتخابية ضمن سياسة تحالفات. وهو مقسم الى حركتين. القسم الأول هو شمالي بقيادة الشيخ رائد صلاح وهو الذي يخوض الانتخابات البلدية فقط، وينشط سياسياً من خلال الصحافة وإثارة قضايا تتعلق بالمسجد الأقصى والأماكن المقدسة المهملة في اسرائيل. ويرفض مبدئياً خوض انتخابات الكنيست، لأنه لا يريد ان يكون شريكاً في ادارة الدولة العبرية. والقسم الثاني هو الحركة الاسلامية في الجنوب بقيادة الشيخ عبدالله نمر دوريش الذي أسس الحركة وقادها حتى انقسامها والشيخ ابراهيم صرصور الذي يقودها اليوم. وفي انتخابات الكنيست الأخيرة خاضت الحركة الاسلامية المعركة سوية مع الحزب الديموقراطي العربي والجبهة الوطنية. وحصلت على 5 مقاعد فيها، شغلها كل من عبدالمالك دهامشة وتوفيق الخطيب من الاسلامية، وطلب الصانع ومحمد حسن كنعان من الديموقراطي العربي وهاشم محاميد من الجبهة الوطنية. لكن محمد كنعان وتوفيق الخطيب انسحبا منها ومن حزبيها وأقاما حزباً مشتركاً باسم "الحزب العربي القومي"، ثم لم يتفقا على رأي، فبقي كنعان في الحزب القومي، وأقام الخطيب حزباً آخر يدعى حزب "الاصلاح"، لكنه قرر ألا يخوض المعركة الانتخابية الحالية، وأعلن تأييده لحزب "ميرتس" اليساري. وتخوض الحركة الاسلامية الانتخابات المقبلة بتحالف مع الديموقراطي العربي ومع القومي العربي. واختلف مع الجبهة الوطنية برئاسة هاشم محاميد، الذي قرر خوض المعركة المقبلة على قائمة منفردة. ويطرح التيار الاسلامي في اسرائيل برنامجاً سلامياً ويتحدث عن التعايش، ولكن من خلال تأكيد الجانب الاسلامي. وبرنامجه في القائمة الموحدة شبيه ببرنامج الحزب الشيوعي. 3- التيار القومي، هذا التيار مشرذم وتآكله الصراعات. ويضم كلاً من التجمع الوطني بقيادة عزمي بشارة، والحزب الديموقراطي العربي والحزب القومي العربي والحركة العربية للتغيير والجبهة الوطنية. وكما نلاحظ فإن كل حزب يخوض المعركة الانتخابية في إطار تنظيم أو حركة خاصة به. والطروحات هنا أيضاً متشابهة، باستثناء التجمع الوطني الذي يشدد على ضرورة ان يحظى العرب في اسرائيل بالاعتراف كاقلية قومية وان تحظى بالعيش في استقلالية ثقافية. وهناك تيار رابع في الحركة السياسية العربية هو تيار النشطاء في الأحزاب الصهيونية. وكان هؤلاء أعواناً تابعين أو انتهازيين ذوي مصلحة في أحسن الاحوال. ولكن في السنوات الاخيرة، يلاحظ ان بعض هؤلاء خصوصاً في حزبي "ميرتس" و"العمل" يتخذون مواقف وطنية مستقلة ويشاركون في الهيئات القيادية الوطنية للعرب في اسرائيل. ويتبنون مطلب السلام العادل والمساواة. اليمين الاسرائيلي لقد دأب اليمين الاسرائيلي على التعامل العنصري مع المواطنين العرب في اسرائيل والتشكيك في اخلاصهم للدولة العبرية. ورأى في كل مظهر وطني لهم عداء لإسرائيل. ومع ان القائد الاول للتيار اليميني في الحركة الصهيوينة، زئيف جابوتنسكي، كان يدعو إلى التعامل بمساواة مع العرب وبجيرة حسنة ورأى في هذا التعامل امتحاناً لنجاح الحركة الصهيونية في جعل اليهود جزءاً من عائلة الشعوب، فإن احفاده ناصبوا العرب العداء. وحاولوا بناء رصيدهم السياسي على أساس هذا العداء. ولم تكن هذه السياسة، سياسة حزب وتيار فحسب، بل ان قادته عملوا بشكل فردي في هذا الاتجاه. وبات كل من يريد البروز منهم يخرج باقتراح عنصري. فيتصدر اسمه عناوين الصحف. ويصبح معروفاً ومعترفاً به. وهكذا رأينا نواب اليمين يطرحون عشرة اقتراحات على لجنة الانتخابات المركزية كي تلغي الأحزاب المذكورة. لكن اليمين لم يعد مؤلفاً من أحزاب ونواب وحسب، إنما تغلغل في مؤسسات الدولة المختلفة، مثل مؤسسة المستشار القضائي للحكومة الذي يعتبر أعلى هيئة في النيابة، وفي الوزارات والدوائر الحكومية ذات العلاقة مع العرب. لذلك بادر المستشار المذكور الى تقديم أربعة نواب عرب الى المحاكمة عزمي بشارة وأحمد الطيبي ومحمد بركة وعبدالمالك دهامشة بحجة أنهم اطلقوا تصريحات سياسية مخالفة للقوانين، وبادر إلى دعوة لجنة الانتخابات لإلغاء قائمة التجمع بسبب تصريحات سياسية للنائب عزمي بشارة. وبدوره قرر وزير الداخلية ايلي يشاي اغلاق صحيفة الحركة الاسلامية - القسم الشمالي "صوت الحق والحرية"، وتدخلت الاستخبارات العامة شاباك وقدمت "المعلومات" التي تضع هذه القوى في قفص الشبهات والاتهام، لدرجة الادعاء أن "سياسة حزب التجمع الوطني تقود الى قيام اعضائها بتنفيذ عمليات ارهابية داخل اسرائيل". بالطبع، لا يوجد ضمان في أن تقرر لجنة الانتخابات المركزية قبول هذه الاقتراحات. وان أقدمت على خطوة كهذه، فمن غير المضمون ان تقبل المحكمة العليا في اسرائيل تمرير قرار كهذا، مع ان الخطر قائم. بطالة وتمييز إلا أن مجرد طرح الموضوع ومناقشته بهذا الشكل، يدفعان إلى الأمام بالأفكار العنصرية واللاديموقراطية. واذا لم تتدخل الديموقراطية الغربية لمواجهة اسرائيل بحقيقتها في هذا المجال، كدولة يسمح فيها بنمو العنصرية والابرتهايد، فإن الأمور ستتدهور اكثر. لأن الوضع أصلاً مشحون وخطير. فاستطلاعات الرأي تشير الى ان 73 في المئة من اليهود في إسرائيل يعتبرون المواطنين العرب خطراً على أمن الدولة، و31 في المئة منهم يؤيدون طرد العرب من البلاد. والتمييز العنصري يظهر في كل مجال من حياة العرب. فقط في الأسبوع الماضي كشف مجلس سلامة الطفل في اسرائيل ان نصف الأطفال العرب يعيشون تحت خط الفقر النسبة بين الأطفال اليهود هي 3.19 في المئة. وقبل شهر كشف ان معدل رواتب الموظفين والعمال العرب لا يتعدى 5-6 في المئة من رواتب اليهود. والبطالة بين العمال العرب تساوي ضعفي نسبة البطالة بين العمال اليهود. وهذه الأوضاع تؤدي إلى مرارة شديدة وضائقة خانقة بين العرب، لا بد وأنها ستنفجر بشكل ما في أعمال احتجاج وربما في اعمال يأس عنيفة. في مثل هذه الأجواء اليمينية العنصرية المترافقة مع التدهور والتوتر الأمني في المناطق الفلسطينيةالمحتلة، يعتبر وضع العرب في اسرائيل قنبلة موقوتة. وبدلاً من قيام الحكومة بمعالجة جذرية لهذا الوضع، فإن اليمين يزيده تعقيداً بواسطة هجومه على الأحزاب العربية، الأمر الذي يجعل هذه الهجوم أعمق وأخطر بكثير مما يظهر من الصراع على القوائم الانتخابية