يبلغ عدد سكان الهند والصين مجتمعتين أكثر من ثلث عدد سكان العالم تقريباً، ومع ذلك لا تحتل الأخبار المتعلقة بالدولتين العملاقتين النوويتين أكثر من عمود أو عمودين في الصحافة العالمية اليومية، هذا إذا كان هناك خبر تعتبره الصحافة العالمية جديراً بالنشر. وكذلك الأمر مع اليابان وهي القوة الثانية مالياً واقتصادياً، ويبلغ حجم مبادلاتها التجارية 22 في المئة من مجمل المبادلات التجارية في العالم. ومع ذلك فإن الأخبار عن الأرخبيل الياباني نادرة في الصحافة اليومية، وهي إن وجدت ففي الصفحات الاقتصادية، واما اذا كانت خارجها فتكون من قبيل الخبر الغريب أو للحديث عن اختراع إلكتروني جديد. أما بالنسبة الى دول كبيرة أخرى، مثل أندونيسيا أو روسيا، فإن الأخبار عنها تأتي في حال وقوع أحداث استثنائية، مثل الهجوم الإرهابي في بالي أو عملية احتجاز الرهائن في أوبرا موسكو، أما ما خالف من أخبار فتأتي دائماً في سياق أخبار متفرقة "حول العالم" وفي مناسبات مهمة مثل انتخابات نيابية أو رئاسية ترافقها تحليلات سياسية إخبارية. لذا تغيب التحليلات الدائمة والمتواصلة المتعلقة بدول كثيرة، لتصبح محصورة في المراكز المتخصصة، ما يمنع متلقي المعلومات العادي، أي متابعي الوسائل الإعلامية الموجهة الى الرأي العام من تكوين فكرة واضحة عن أحوال هذه البلدان. أين اخبار باكستان؟ وحتى بالنسبة الى دولة تعتبر مهمة جداً في الظروف الحالية، وهي ظروف "الحرب على الإرهاب"، مثل باكستان، فإن الأخبار عنها هدأت بعد الموجة التي اجتاحت وسائل الإعلام في بداية الحرب الأفغانية ناقلة المشاهدين ومتلقي المعلومات إلى داخل البلاد تعرفهم على خبايا المناطق القبلية ودهاليز العلاقات القبلية. لقد اختفت التحليلات التي غطت صفحات الجرائد والمجلات تعالج السياسة الباكستانية وتسبر اغوار موازين العلاقات بين مختلف القوى الموجودة على الساحة وتحلل دور الجيش. لكن باكستان مثلها مثل الهند تقفز أخبارها إلى واجهة الإعلام بمجرد أن تشن قوات تحرير كشمير هجوماً على القوات الهندية، أو أن تقصف القوات الهندية فلول المتسللين من الجانب الباكستاني. أما الأخبار المتعلقة بدخول البلدين الجارين النادي النووي وسلسلة تجاربهما النووية والبالستية فاختفت من واجهة الإعلام، فهل زال الخطر النووي من شبه الجزيرة الهندية؟ وكذلك اختفاء أخبار المنطقة القبلية الباكستانية لا يعني بأي حال زوال الأهمية الاستراتيجية لباكستان في الحرب المستمرة على الإرهاب التي تشنها الولاياتالمتحدة. وفي أندونيسيا تقوم القوات النظامية بحملة منظمة على جماعة أبو سياف في أدغال جزيرة باميان ومجموعة الجزر في جنوب غربي الأرخبيل بالتعاون مع قوات أميركية يتزايد عددها باستمرار على شكل "خبراء" أو مدربين. لكن بعد الفورة الإعلامية التي رافقت الإعلان عن وصول أول دفعة من الجنود الأميركيين، تراجع الضغط الإعلامي المتعلق بالحرب على الإرهاب في جنوب غربي آسيا، حتى وقع الانفجار الكبير في الملهى الليلي في بالي وذهب ضحيته أكثر من مئتي شخص، فعادت أخبار أندونيسيا إلى صدر الوسائل الإعلامية، انما لتختفي بعد حين. وكذلك الأمر في الفيليبين حيث تظهر أخبار وتحليلات عن وصول فرقة أميركية ثم تختفي بعد أيام معدودة بانتظار حدث كبير يعيدها إلى صدارة الواجهة الإعلامية لفترة وجيزة جداً. طبقية الأخبار قد يرى بعضهم في هذا النمط طبيعة الإعلام الذي من المفترض أن "يلتصق" بالحدث الجديد ويعالجه قبل أن ينتقل إلى الحدث الأجد بانتظار حدث آخر يليه، وهكذا دواليك. لكن وجود أخبار تتعلق بمناطق ودول ومواضيع معينة بشكل دائم ومتواصل وبأخبار شبه يومية عن مواضيع ليست بأهمية مواضيع أخرى يطرح تساؤلات عن أسباب ظهور أخبار منطقة معينة وحجب اخبار منطقة اخرى. ولا يتعلق الأمر بأهمية دولة أو بخطورة نزاع أو بتراتبية الأهمية والخطورة أو بمكانة الدولة في العلاقات الدولية وتأثيرها فيه، ففي بعض الأحيان تغيب أخبار دول متوسطة الحجم عن وسائل الإعلام لفترات طويلة من دون أن يعني ذلك إنتقاصاً لدورها في العلاقات الدولية ولا تراجعاً لأهميتها الاستراتيجية أو الدولية. ويحصل هذا مع دول مثل اسبانيا التي ظلت غائبة عن الإعلام الدولي وحتى الأوروبي خارج حدودها حتى وقعت حادثة جزيرة "ليلى" والتوتر الذي رافقها. فهذا لا يعني أن وزن اسبانيا الاستراتيجي في أوروبا، خصوصاً في أميركا اللاتينية، قد اضمحل أو تراجع. أو أن قوتها الاقتصادية باتت غير مؤثرة في العلاقات مع الدول الأخرى. كذلك الأمر مع دول مثل السويد أو النروج أو البرازيل أو كندا. مع أن الدولتين الأخيرتين هما دولتا "هجرة" أي أن أخبارهما يجب أن تؤثر في العديد من الدول التي انطلق منها المهاجرون وما زالت تربطهم بها علاقات عائلية. وكذلك الأمر في أفريقيا فإن أخبار القارة السمراء المهمة جداً بالنسبة الى بعض الدول الغربية نظراً الى عدد المهاجرين المرتفع فيها من هذه الدول لا تبرز في الوسائل الإعلامية إلا في أثناء اندلاع الحروب الأهلية أو لمناسبة الحديث عن انتشار وباء أو مجاعة. لكن هذا لا يعني أن الأخبار المهمة للدول الأخرى معدومة في أفريقيا من شمالها إلى جنوبها، أو أن أهميتها تتراجع إعلامياً وسياسياً. وتنطبق ملاحظات الغياب الإعلامي عن مناطق الظهور الإعلامي لمناطق أخرى على كل الدول، فهي ليست محصورة بمنطقة جغرافية معينة، وتبين مقارنة بسيطة للصحافة الكبرى في كثير من الدول أن المواضيع المطروقة متشابهة بنسبة تتجاوز سبعين في المئة. هذا إذا وضعنا جانباً التحقيقات الخاصة بكل صحيفة والتحليلات التي يكتبها معلقون وسياسيون، وإذا استثنينا بالطبع الأخبار المحلية الخاصة بكل دولة، أما الباقي فمتشابه من ناحية المواضيع المعالجة والمناطق المغطاة. ولا يتوقف التشابه عند خيارات المواضيع وبالتالي المناطق المطروقة، بل يتعداها إلى الوزن الإعلامي للموضوع، من ناحية الموقع رقم الصفحة التي يظهر عليها الموضوع أو المقال: صفحة أولى أو في الصفحات الداخلية ومن ناحية الحجم عدد الأعمدة أو من ناحية التمييز لجهة حجم العنوان والعناوين الفرعية. وكذلك الأمر بالنسبة الى الإعلام المرئي، فإذا وضعنا جانباً المواضيع الخاصة بكل دولة ومجتمع، كما فعلنا بالنسبة الى الإعلام المكتوب، نجد أن نشرات الأخبار في كثير من قنوات التلفزيون تتطرق الى المواضيع نفسها وفي بعض الأحيان بالتسلسل نفسه، وبالطبع فإن التحقيقات المرافقة الداعمة تكون متشابهة إن لم تكن هي نفسها في حال كان مصدرها وكالات أنباء متخصصة. وزيادة في الأمر فإن المونتاج يكون في بعض الأحيان متشابهاً، بسبب نوعية الأفلام المصورة المعروضة في "بورصات" الريبورتاجات والتي تختار منها إدارات التحرير ما يناسبها. المصدر واحد وهكذا يمكن لمسافر يتكلم لغات عدة polyglot أن ينتقل بين دول عدة في قارات مختلفة من دون أن يتغير السيل الإعلامي الذي يتلقاه، اذ فقط تتغير اللغات والأخبار المحلية. فقد ظهرت صورة الرئيس جورج بوش وهو يلقي خطابه في الأممالمتحدة على الصفحات الأولى لمعظم صحف العالم، كما ظهرت صورة الحقيبة التي احتوت وثائق التسلح العراقي تنتقل من طائرة إلى أخرى في مطار لارنكا في قبرص على الصفحات الأولى لكثير من الصحف حول العالم. ولا يقتصر الأمر على الأخبار العالمية المهمة ولا على المهرجانات الدولية أو المناسبات العالمية التي تستقطب الإعلام، بل يتعداها الى أخبار النوادر والأخبار الغريبة. ففي معظم الصحف العالمية تكون الصفحة الأخيرة مخصصة لمجموعة من الأبواب الثابتة التي تتوزع بين أخبار مجتمع وتعليقات أو صورة إمرأة "جميلة" أو كاريكاتور. لكن صحفاً كثيرة "تعبئ" وسط الصفحة الأخيرة بخبر غريب من نوع: "هرب أسد من حديقة الحيوانات..." أو "عاد رجل اعتبر ميتاً إلى قريته في يوم دفنه..." أو "تزوج رجل 19 مرة قبل أن يكشف أمره" وغيرها... والغريب أنه في معظم الأحيان يكون الخبر الغريب منشوراً في عدد كبير من الصحف في الصفحة الأخيرة وفي اليوم نفسه! ويتم هذا الأمر، بالطبع، من دون أي تشاور بين إدارات التحرير أو تواطؤ بين مسؤولي الصفحة. التماثل الاعلامي فما السبب في هذا التماثل الإعلامي في صحافة اليوم التي لم تعد تتميز إلا بالتعليقات وفي بعض الأحيان بالريبورتاجات أو السبق الصحافي أو المقابلات؟ يعود هذا التماثل إلى ما يمكن تسميته "السياق الإعلامي العام"، أي مجموعة تيارات الأخبار المنهمرة على الوسائل الإعلامية والتي تنهل منها ما تعتبره مهماً للنشر الفوري وما ترى أنه يتطلب تحقيقاً معمقاً وما تهمله وتتركه جانباً. ومصادر المعلومات معدودة وكالات وناطقون رسميون. فإذا تركنا جانباً الأخبار المحلية الوكالات المحلية والإخبارات الخاصة وكذلك ميزنا المراسلين الخاصين، وأخذنا في الاعتبار فقط الأخبار الدولية نجد أن مجموعة الأخبار التي توجه الى صحافة العالم قاطبة هي نفسها وتصلها بتسلسل متشابه مع تقويم من الوكالات لأهمية الخبر خبر عاجل أو مهم أو عادي. وتتعامل الوسائل الإعلامية مع هذه الأخبار بطريقة شبه متشابهة بحكم ظروف العمل التي باتت متشابهة في مختلف أرجاء العالم، من ضغوط العمل المكثف إلى ضغوط الزمن المحدود لصناعة الخبر ومعالجته مروراً بالسرعة المطلوبة للحاق بتقنيات النشر السريع. كما أن نوعية الجسم الصحافي تغيرت كثيراً في السنوات العشرين الأخيرة، فبعدما كان الصحافي يأتي إلى المهنة من آفاق علمية متنوعة بات الصحافي المهني يأتي من معاهد الصحافة والكليات المتخصصة بالصحافة وعلومها. ولا يعني تعدد المدارس الصحافية، تعدد تقنيات الصحافة التي تدرّس في المعاهد المتخصصة. ويمكن القول أن الجامع بين تقنية الصحافة النظرية والتنفيذ الصحافي يماثل الجوامع بين التقنيات النظرية والتنفيذية في كثير من العلوم التطبيقية. فالسيارة التي يصنعها مهندس سيارات متخرج من جامعة أميركية أو هندية أو أوروبية لا يتغير جوهرها، فهي تبقى سيارة لها أربع عجلات، تختلف فيها بعض التفاصيل فقط، وكذلك الأمر في الصحافة، فتشابه التقنيات التي باتت "معولمة" لا بد وأن تكون نتيجتها تشابه قراءات السيل الإعلامي المتدفق على وسائل الإعلام، ومن ثم تشابه المعالجة وبالتالي النتيجة عند انتاج المعلومات الصحافية. وما ينطبق على الأخبار الدولية على المستوى العالمي، ينطبق على الأخبار المحلية على المستوى المحلي حيث تتشابه الأخبار المحلية في الفضاء المحلي، كما تتشابه في الفضاء الدولي. ومن هنا تشدد وسائل الإعلام على نقاط التمايزعن زميلاتها من صحف ومجلات وقنوات تلفزيون، وهي بالدرجة الأولى التحقيقات والسبق الصحافي والتعليقات السياسية والأفكار الجديدة. أما الأخبار اليومية الدولية والمحلية فهي مادة استهلاكية تشكل إطار تقديم المواضيع المميزة، تشد المتلقي، بحكم حشرية طبيعية ضرورية للاطلاع اليومي أو الاسبوعي على مجريات الأحداث، لتعود وتلاقيه في المواد التي تربطه بعلاقة متينة بها، تنتقل من الارتياد إلى التردد ومن ثم الى الادمان، لتشبك عنده خصائصها ويصبح قارئاً أو مشاهداً أميناً لها