شارلوت واميلي برونتي... قد لا يقرع الاسم أي جرس في ذاكرة القارئ. فمَن ذا يتذكر فتاة سقيمة من القرن التاسع عشر، فتك بصدرها مرض السّل، وفتكت بفؤادها حمى الأدب. فتاة انتحلت اسم رجل لتقتحم عالم الكتابة والكتب والمحرّم دخوله - آنذاك - على غير الرجال؟ لكن جرس الذاكرة قد لا يتوقف عن الرنين حين نردف الاسم بالمسمى: "جين إِر" أو "مرتفعات وذرنج"، تلك الآثار الأدبية الخالدة التي أغنت المكتبة وترجمت لأكثر من لغة وتحولت أفلاماً ومسرحيات وكتباً يعاد طبعها كلما جدّ جديد في الأدب. تساءلتُ ودليل الرحلات أمامي: من يتحمل وطأة السفر - في عربة مقفلة أبوابها والنوافذ - لسبع ساعات، ليرى ماذا؟ مقبرة دارسة، وبيتاً مهجوراً ودواة جف منها الحبر وأسلاب ثياب لامرأة كان اسمها شارلوت أو اميلي برونتي؟ لكن عرض المعرفة لا يمكن مقاومته، فالسفر مع خليط من سكان الأرض من الصين واليابان ونيوزيلندا وايطاليا وفرنسا، بحد ذاته علم وثقافة وفيض تجارب. حين اقترب منها طائر الموت، نقلت السيدة ماريا برانويل المصابة بالسرطان طرفاً محزوناً بين أطفالها الستة المتحلقين حولها دامعي العيون، وهتفت بضراعة: أواه يا الهي، يا لأولادي المساكين، يا للأولاد المساكين. اسلمت بعدها الروح. لم يكن أكبر الأبناء - آنذاك - قد تجاوز السابعة، وكان تسلسل شارلوت الثالث، بين ذاك الحشد من الأطفال. عرفت شارلوت الأحزان مبكراً. ولم يعتقها الحزن من أساره قط، فقد فتك المرض باختيها الكبيرتين وهي بنت التاسعة. أي حرمان؟ أية تجربة أن تمتحن طفولتها بالموت؟ وكان عليها أن تتسلم مسؤولية أكبر من عمرها وطاقتها. وان تصير أماً لأختين صغيرتين وأخ فنان عرف طريق الكأس مبكراً، ثم عرّج على طريق الأفيون نزوعاً منه للخلاص من الواقع المرير، وأب لم يكن يشاركهم حياتهم إلا ساعة الجلوس على مائدة الافطار. كانت الطبيعة مدرسة شارلوت واختيها، اميلي وآن، وملاذهن الحاني. كانت تهرب إلى السهول والوديان في الأيام التي يخفّ فيها البرد ويتوقف نزول الثلج. أما في ليالي الشتاء الطويلة، فكنّ يجتمعن حول النار ليؤلفن قصصاً ويخترعن مدناً ويخلقن أبطالاً. كان قدرهن واختيهما الوحدة، وحتى حينما التحقن بالمدرسة، كن ينزعن إلى العزلة، حريزات عند التعارف قليلات الأصدقاء. لم تكن للاخوات حياة اجتماعية خارج نطاق البيت. كان الخجل والانطواء على النفس صفة واضحة على الاخوات الثلاث، ربما كان الشعور بقلة الحظ من الجمال وفقدان الوسامة أو الجاذبية سبباً جوهرياً لذاك الخجل والانطواء. لكن رداء الخجل كان يخفي طموحاً ونفوساً وثابة، وتوقاً إلى الخلاص. بعد مرحلة سرد القصص والحواديت شفاهاً، واختراع مدن وأناس وأحداث بدأت عند الاخوات مرحلة الكتابة. كان لا بد لذاك السيل من جرفٍ، فبدأن يقرأن بشغف ويكتبن بشغف أكبر. وقد تركن أكداساً من الأوراق والدفاتر، بكتابات دقيقة، حتى بلغ عدد الكلمات في صفحة واحدة 1500 كلمة، ربما كان بداعي الاقتصاد بالورق. كان معظم القصص والحكايات يدور في مدينة مختلقة الاسم أطلقن عليها اسم "انغريا"، فيما اختلقت اميلي قرية تنافس بها قرية اختها، وكان سكان القريتين أو المدينتين، يتقابلون، ويعقدون صداقات ويتعارفون، يبيعون ويشترون، يتخاصمون ويتراضون، يحبون ويكرهون. كانت الحوادث التي تسرد متخمة بفيض المشاعر من قسوة ولين، غدر واخلاص، قوة وضعف، حياة وموت، فراق ولقاء، لم تكن قصصهن أعمال أطفال قط، وكنّ أسرى عالمين: عالم تعيشانه وتتقاسمان مرارته، مسكون بالوحشة والوحدة والشقاء، وعالم تخلقانه خلقاً: فسيحاً، متفرجاً فيه من الأمل بقدر ما فيه من المسرّة. أمام الطموح الجموح النبيل، والحاجة لمشاركة الآخرين واقتسام المعارف فكرت شارلوت واختاها بفتح مدرسة على حسابهن الخاص لتعليم بنات المنطقة القراءة والكتابة. ولهذا الغرض سافرتا إلى بلجيكا لتقويم اللغة ولتعلم لغة أخرى. لكن الاحباط كان واقفاً بالمرصاد. فحين تهيأت للمدرسة سبلها ومستلزماتها وأعلن عن بداية التسجيل فيها، أعرض عنها سكان المنطقة اعراضاً مخزياً كلف الاختين أحزاناً مضافة. ما من أحد من العوائل والأسر القريبة والبعيدة جازف بارسال أولاده إلى هذا البيت المسكون بالموت المؤثث بالفواجع، على رغم نبل الهدف ونزاهة المقصد. في المدرسة التي انتظمت فيها شارلوت في بلجيكا لتقويم اللغة، رفّ قلبها لأحد الأساتذة، ربما لأنه شجعها أكثر من غيره. ربما رأت في حنانه واهتمامه ما لم تجده عند الأب أو الاخ. وإليه كتبت أحلى رسائلها وأعمقها وأشجاها. وكان يبادلها الرسائل المفعمة بالود والعاطفة. لكن شارلوت قطعت الخيط من منتصفه، حين أحسّت أنها طعنت بكرامتها وحبيبها يطلب إليها ألا تراسله على عنوان المدرسة حفاظاً على سمعته! ويبعث إليها بعنوان آخر تكاتبه عبره. وباسم مستعار. بترت شارلوت عاطفتها من عقدتها الأولى، ولم تكتب لأستاذها بعد ذلك قط. إلا أن آثار تعلقها بذاك الحب ظلت تلوح في كثير من كتاباتها في ما بعد. ذات مساء قررت الاختان أمراً سيختم ببصمته مصيرهما إلى الأبد. جمعتا خير ما كتبتا وأرسلتاه إلى ناشر معروف تحت اسماء مستعارة لرجال، مكتفيتان بالحرف الأول من كل اسم: شارلوت صار اسمها "كلير" وأميلي "آليس". وظهر الكتاب تحت اسماء الرجال المستعارة، فما بيع منه غير نسختين وهجوم كاسح ولعنة من النقاد. كان ذلك كافياً لطموح الاخوات أن يدفعن بكتاب آخر. ارسلت شارلوت كتابها "جين إير" وأعقبتها اختها ب"مرتفعات وذرنج" وبدأت أرقام الكتابين تأخذ حظها في الصعود. فلم يكن مألوفاً أن يضم كتاب كل تلك العواطف الصادقة المتأججة لامرأة على لسان رجل وبقلم رجل. لم يعرف الناشران أنهما دخلا لعبة طريفة، وأنهما نشرا لفتاتين تدعيان شارلوت واميلي برونتي، إلا بعد أن زارت شارلوت لندن - في ما بعد - وكشفت سر الاسماء. لم يكتب لاميلي أن تنعم بالشهرة أو المجد ابان حياتها. فقد خطفها الموت مبكراً بعدما فتك السلّ بالصغيرة آن، ولم يبق في البيت سوى شارلوت والأب العجوز الذي شهد زواج ابنته القصير العمر وتنهيدة احتضارها وهي تهتف اثر تعسر الولادة: يا إلهي. هل سأموت؟! لقد اوشكت أن أنعم بالسعادة. 200 الف سائح سنوياً البيت مفتوحة أبوابه في فصول معينة من السنة. الزوار يتقاطرون من كل أنحاء الأرض، بلغ مجموع الزوار في السنوات الخمس الأخيرة أكثر من 200 ألف زائر لكل سنة. تلج عبر الباب المفتوح. ها هي الساعة الكبيرة، لكأن عقاربها تختلج من دون أن تتحرك كلما عبر زائر العتبة، وكأنها تهتف: مرحباً. ها هي غرفة شارلوت. ها هي الأريكة التي أسلمت عليها الروح. ها هو كرسيها ومنضدتها وكتبها وكوب قهوتها. ها هي غرفة اميلي، مرتفعات وذرنج مرتفعاتها، ها هو البيانو، جائع لأنامل غابت وأنغام خفتت. بعد أن تحول سكان الدار إلى المقبرة في الفناء. بيع أثاث البيت بالمزاد العلني، واشتراه الناس بثمن بخسٍ. فمن ذا الذي يحتفظ بأسلاب موتى رافقتهم الفواجع أحياء؟ يقول الدليل، كادت آثار الاخوات برونتي تختفي إلى الأبد، لولا أن تنبه بعض سكان المقاطعة للاجحاف الذي لقينه أحياء، فقرروا انشاء جمعية تحت اسم "أصدقاء برونتي" اجتمعت وازداد عدد أعضائها، ووجهت نداء إلى سكان المنطقة الذين اشتروا الأسلاب، وأعيد جل الأثاث إلى مكانه والثياب إلى الخزانات ووضع الفحم في المواقد واناء الشاي على النار، ولم يبق إلا أن يدق أصحاب الدار الباب ويدخلون. أشياء صغيرة قد لا تستهوي أحداً غير عشاق الأدب: زهور ذابلة فُرش حائلة اللون، شمعة سال دمعها ثم جف، صور مبثوثة للعذراء، قفاز لأصابع نحيلة، خف لقدم صغيرة، ثوب لخصر ناحل، علب السعوط، رسائل، أوراق، مفكرات البنات، كسّارة البندق، بقايا جوز محمص، ريشة طائر، محبرة جفّ حبرها، ونظارة سميكة لم تعد صالحة إلا لعيون التاريخ