كانت قرية هاوورث ستظل قرية صغيرة محاطة بمئات الآلاف من الخراف التي تعتاش من أعشاب مراعيها المترامية الاطراف، والمفتوحة امام الضباب والرياح والعواصف الثلجية. لا تذكر إلا حين ترد الانباء التي تتحدث عن موت العشرات من اطفالها ضحايا لمرض السل. كانت ستظل مجهولة مثل باقي قرى مقاطعة يوركشير الواقعة في شمال انكلترا، لولا قدوم الساكن الجديد، ذلك الرجل الهادئ والخجول المولود في ايرلندا العام 1777، في كوخ مكون من غرفتين ضيقتين. اسمه السيد برونتي. حين وصل باتريك برونتي الى القرية، في احد أيام فبراير شباط 1820، يقتاد زوجته واطفاله الستة، لاحظ ان معظم القرويين كانوا في طريقهم الى المقبرة أو عائدين منها، من دون ان يعرف انه، هو نفسه، وهو القسيس الجديد لكنيسة القرية سيكون احد أهم زوار المقبرة، وانه سيدفن زوجته واطفاله الستة، من دون ان يتركن له شيئاً، سوى ثمانية كتب ألّفتها ثلاث من بناته: شارلوت وأيميلي وآن، وان اثنين منهما ستطبع من كل منهما مئات الملايين من النسخ، وبكل لغات الأرض: "جين اير" و"مرتفعات وذرينغ". في نيسان ابريل الماضي، زرت قرية هاوورث، فوجدت ازقتها تضج بالسياح من مختلف البشر، وعندما اقتربت من "متحف برونتي" لاحظت ان اليابانيين هم غالبية السياح المنتشرين في الحديقة والمكتبة وحتى سلالم المتحف وغرفه الصغيرة. الاضواء الصادرة عن آلات التصوير تشع من بين الاشجار واحجار القبور الخضراء، مثلما تشع الذكريات التراجيدية من المكان كله. فالمنزل الذي وقفت امامه، وسرت في اروقته الضيقة، اتلمس جدران غرفه، واحياناً بعض محتوياته، كالبيانو الذي كانت تعزف عليه ايميلي، أو قبعة آن، أو اقلام شارلوت، هذا المنزل الذي كان يختلط فيه سعال ساكنيه بأصوات احتراق الحطب وصفير الرياح وثغاء الخراف، هذا المنزل الذي فتك السل بساكنيه واحداً تلو الآخر من دون رحمة، ألّفت تحت سقفه بضعة كتب ستظل البشرية تطالعها جيلاً بعد جيل. كانت زيارتي مصادفة. كنت اتفقد واجهات المكتبات اللندنية، فلفتت انتباهي طبعات جديدة وشعبية لأعمال الاخوات برونتي، خصوصاً "جين اير" و"مرتفعات وذرينغ". اقتنيت رواية "مرتفعات وذرينغ"، ورحت اطالع صفحاتها، وأنا في قطار الأنفاق. رويداً رويداً بدأت اتذكر فيلم "مرتفعات وذرينغ" الذي شاهدته قبل اكثر من ثلاثين عاماً. اتذكر جيداً، عبارة بالخط العريض كتبت على واجهة سينما "غرناطة" في بغداد، تقول: "اعظم قصة عاطفية سالت من اجلها انهار من الدموع". والفيلم الانكليزي - الاميركي الذي مثله لورانس اوليفييه وميرل اوبرون وديفيد نيفين، اقتبسته السينما المصرية لاحقاً، وقام ببطولته الممثل يحيى شاهين. ومن الجدير بالذكر ان الفيلمين الاميركي والمصري ساهما بشكل فعّال في زيادة شهرة رواية "مرتفعات وذرينغ" عند القراء العرب، بينما تحتل رواية "جين اير" مكانة اكبر لدى القرّاء في بريطانيا. وبمساعدة تفاصيل الرواية، التي تدور احداثها في مقاطعة يوركشير، قررت التوجه الى برادفورد ومن هناك الى قرية هاوورث تبعد عن لندن 200 ميل. وفي هاوورث علمت، مصادفة ايضاً، ان "جمعية برونتي"، التي أسست في 1893، ويحتفل اصدقاؤها المنتشرون في العالم هذه السنة بمرور 150 عاماً على صدور روايات الاخوات برونتي الثلاث التي تعتبر من أشهر الروايات الانكليزية الكلاسيكية في العالم: "جين اير" لشارلوت برونتي صدرت في تشرين الأول اكتوبر، "مرتفعات وذرينغ" لاميلي برونتي، و"اغنس غراي" لآن برونتي وصدرتا في كانون الأول ديسمبر 1847. ومثلما كانت المصادفة وراء زيارتي الى هاوورث، فهي التي حولت الاخوات برونتي من معلمات الى اديبات، مثلما ستكون الصدفة من أهم محاور اعمالهن الروائية، ان لم تكن الأهم. فبعد أقل من عام من قدوم السيد برونتي الى هاوورث، مرضت زوجته ماريا برانويل ماتت بعد سبعة أشهر بداء السل وهي في الثامنة والثلاثين. وتركت وراءها ستة اطفال. وجاء الأب بمربية لاطفاله شقيقة زوجته، ولكن وصلته رسالة من المدرسة تعلمه بمرض طفلته ماريا التي لم تنقطع عن السعال حتى ماتت مسلولة في 6 ايار مايو 1825 ولم تتجاوز الحادية عشرة من عمرها. وقالت وهي على سرير الموت: "لا تحزن يا أبي، سألتحق بأمي، سأكون سعيدة". وكان الأب يرقب ملامح وجهها الصغير الأبيض، وعينيها الغائرتين. وبعد اقل من 40 يوماً من وفاة ماريا، اشتد سعال اليزابيث لتموت هي الأخرى في العاشرة من عمرها. قرر السيد برونتي ان يعلم بناته في المنزل، بدلاً من ارسالهن الى المدارس التي كانت تعاني اوضاعاً بائسة. ألم تصور شارلوت في ما بعد، في روايتها "جين اير" الشروط القاسية التي كان يعيشها الاطفال في المدارس: من قسوة المربين الى رداءة التدفئة والطعام، اضافة الى شحّ المياه... "كان الاطفال يغسلون وجوههم بالمياه المتجمدة كل صباح"... وأظهرت السنوات اللاحقة صواب القرار الذي اتخذه السيد برونتي، اذ ارتفعت نسبة وفيات الاطفال في المدارس، في الوقت الذي كان اطفاله يتابعون تعليمهم في المنزل بكل هدوء. وذات يوم دخل السيد برونتي احد دكاكين القرية، ليشتري لعبة لأطفاله. وقعت عيناه على صندوق يحتوي على جنود من الخشب. لكن لم يدر بخلده ان ذلك الصندوق سيخمد ضجيج بُنيّاته ويجرهن الى عالم الخيال. حين وضع الصندوق أمامهن صرخت شارلوت وهي تحمل أحد الجنود الخشبيين: "انه دوق ويلينغتون، انه لي" هتفت أخرى: "هذا نابليون بونابرت". لم تقل اميلي شيئاً وهي تداعب صندوق الألعاب. جاء موزع البريد ذات يوم، حاملا طرداً الى السيد كورير بيل، فاعتذر السيد برونتي لموزع البريد، اذ لا يوجد شخص بهذا الاسم في منزله. وبعد اسابيع، جاء موزع البريد مرة اخرى يحمل ذات الطرد، فاعتذر برونتي مرة اخرى. وفي آب اغسطس 1846 اشتدت الاوجاع في عيني السيد برونتي، فأخذته شارلوت الى مانشستر لاجراء عملية جراحية. واثناء وجوده في العيادة، رأى موزع البريد يعطي ابنته الطرد المعنون الى السيد كورير بيل. ولما ابدى استغرابه، اجابته شارلوت "انه يخص صديقاً لي، يا ابي. سأعيده له لاحقاً". وبعد فترة دخلت شارلوت الى ابيها وفجأته: "هل تريد ان تقرأ كتابي". "لا استطيع ان اقرأ كتابة اليد"، أجاب الأب. ولما قالت له إنه مطبوع، اندهش الأب وسألها: "من اين لك النقود"؟ فضحكت وأضافت بفخر: "انه مطبوع في دار نشر كبيرة، وعاد عليّ ببعض النقود، وان اكبر مجلة ادبية كتبت عنه". وحين بدأ برونتي يطالع الكتاب رواية "جين اير" بقلم كورير بيل، شرحت له انها وضعت اسم رجل على الكتاب. الحرف الأول من اسم شارلوت باللاتينية يبدأ بحرف C وكذلك اسم كورير، وبيل يبدأ بحرف B مثل برونتي. وكذلك فعلت ايميلي، اذ وقعت "مرتفعات وذرينغ" باسم ايليس بيل E.B، ووقعت آن روايتها "آغنس راي" باسم اكتون بيل A.B. قال الأب في معرض حديثه عن تلك الفترة ان شارلوت كتبت رواية بعنوان "البروفيسور"، ولكنها لم تلق قبول الناشرين، واثناء وجودها معه في مانشستر، جاءتها فكرة رواية "جين اير" فكتبتها في شهر، وارسلتها الى الناشرين، لتصدر بعد خمسة اشهر فقط. وكتبت شارلوت "جين اير" وفي ذهنها مأساة اختيها ماريا واليزابيث. في هذا الوقت كانت ايميلي وآن تنجزان روايتيهما: "مرتفعات وذرينغ" و"آغنس غراي". وقبل صدور هذه الروايات كان الاخوة الأربعة قد نشروا كراساً شعرياً صغيراً لم تبع منه سوى نسختين فقط. وعندما قرأ السيد برونتي رواية "مرتفعات وذرينغ" في ليلة واحدة وجده "قصة رائعة، هناك حب وكراهية وحقد، وهناك رجل اسمه هيثكليف قوي ومتوحش مثل الشيطان نفسه. قرأت الكتاب في ليلة واحدة. في ليلة كانت الثلوج والريح تعصف بالمنزل من كل الجهات. كنت خائفاً. عندما صعدتُ الى الطابق العلوي رأيت ايميلي ترسم كلبها. كانت لطيفة وطويلة، وعندما نظرت اليّ، كان هناك شيء مختلف فيها، شيء غريب وقوي، شيء اقوى من اخوتها ومني، بل اقوى من شارلوت". في الوقت الذي كانت الاخوات الثلاث يحتفلن بنجاح رواياتهن، كان اخوهن الوحيد برانويل يتخبط في مشاكله، بعد فشله في عدد من الوظائف الادارية، والكتابة والرسم ترك بعض البورتريهات اشهرها لأبيه وآخر لأخواته الثلاث والافلاس المستمر، فبدأ يغار من اخواته، وتحول الى مدمن للكحول، واشتد سعاله يوماً بعد يوم، حتى توقف تنفسه نتيجة السل بعد عشرة اشهر فقط من صدور روايات اخواته، وهو في الحادية والثلاثين من عمره. وسبّب رحيل برانويل آلاماً شديدة للعائلة، ليس لوفاته فقط، وانما لحياته البائسة ايضاً. شعرت ايميلي بارهاق مستمر وبدأت تسعل، وتجد صعوبة في التنفس. وكانت تتحدث بجمل متقطعة: "أنا... لا... أريد... طبيباً..."، وظلت ترفض الطبيب على رغم انها كانت تسعل دماً. وعندما وافقت على استقبال الطبيب، كانت قاب قوسين أو أدنى من الموت الذي اختطفها بعد سنة فقط من صدور روايتها الوحيدة "مرتفعات وذرينغ"، وهي في عامها الثلاثين. وفي 1849 لم يبق في المنزل الا شارلوت وآن والأب الذي دخل عامه الپ70، وكأنها بدأت تشعر بالمخاطر المقبلة، بدأت آن تكتب روايتها الثانية والاخيرة "ساكن منزل التل الموحش". ألا ينطبق هذا العنوان على منزلهم؟ مع فارق بالطبع اذ ان المقصود ليس هو الأب برونتي. فالرواية تتحدث عن امرأة تتخلى عن زوجها الغريب الاطوار. وشعرت آن بسعادة وفخر من كتابها الذي صدر بعد شهر من وفاتها. وفي ايار مايو صحبتها شارلوت الى يورك، لتكتب من هناك رسالة الى والدها: "أبي لا أريد ان أموت... عندي أفكار كثيرة في رأسي. كتب كثيرة لتُكتب". لكنها ماتت في الشهر نفسه، بالداء اللعين وهي في سنتها التاسعة والعشرين. وكتبت شارلوت رواية ثالثة بعنوان "شيرلي" فوصفها الأب بأنها تتناول "امرأة قوية وشجاعة تماماً مثل ايميلي". وأتبعتها برواية رابعة "فيليت" عن قصة حب بين معلم وطالبة. ويمكن القول ان أشهر رواياتها "جين آير" نالت اعجاب الغالبية العظمى من الانكليز. وجاء الى القرية منذ بضعة سنين من ايرلندا رجل يدعى آرثر نيكولس ليعمل مساعداً للأب برونتي. وسرعان ما وقع في غرام شارلوت، من دون ان تسنح الفرصة له بالافصاح عن حبه، وهو يرى بأم عينيه المآسي المتلاحقة التي تعيشها عائلة برونتي. لكن بعد وفاة آن برونتي تقدم نيكولس ليطلب يد شارلوت، فطرده برونتي من المنزل: "لا أريد ان أرى وجهك ثانية". كما رفضته شارلوت بالقسوة نفسها. ونيكولس، مثل كل الايرلنديين، كان عاطفياً للغاية وقرر ان يهجر القرية الى استراليا بعد ان ذاعت قصته الحزينة... ولكن في النهاية رق قلب شارلوت، ووافقت على الزواج منه، ولم يستطع برونتي ان يرفض امام اصرارها. وفي حزيران يونيو 1854 تزوجت شارلوت ونيكولس، ومضت بضعة اشهر من السعادة الزوجية، مما جعلها تفكر في الانجاب. فهل من المعقول ان تنقرض سلالة السيد برونتي، هكذا، دون ان يحفظ اسمها طفل واحد؟! وفي كانون الأول ديسمبر اتخذت قرار الانجاب. في آذار مارس 1855، بدأت شارلوت تشعر بآلام الحمل، ومع اشتداد السعال أصيبت بالهذيان وهي في فراشها "لا أريد ان أموت، لا أريد ان اترك آرثر المسكين وحيداً. أريد ان أعيش لاسعده...". وفي 31 آذار اعلنت اجراس كنيسة هاوورث وفاة شارلوت برونتي، عن عمر يناهز الثامنة والثلاثين، تماماً كعمر والدتها ماريا برونتي. وبعد وفاة شارلوت بعامين، صدرت روايتها "البروفيسور" التي رفضها ناشرون كثيرون. وبعدها بثلاثة اعوام، صدرت روايتها الخامسة "ايما"، ثم نشرت بقية اعمال شارلوت. وتوفي السيد برونتي، في 1861 وهو في الپ84 فباع نيكولس المنزل وعاد الى موطنه الاصلي ايرلندا، ليموت هناك في 1906 وهو في الپ88 . وذات يوم، اشترى الصناعي الشهير سير جيمس روبرت، بيت العائلة بثلاثة آلاف جنيه استرليني، وقدمه هدية للقرية لتجعله متحفاً لكل ما تركته عائلة برونتي. تسهر على ادارته "جمعية برونتي" التي احتفلت في 1993 بمرور 100 عام على تأسيسها. ولهذه الجمعية نشاطات عدة عدا الاهتمام بالمتحف، منها ترتيب الزيارات لطلبة الجامعات، وإعداد ندوات دراسية عن اعمال الاخوات برونتي، واصدار صحيفة داخلية خاصة باعضاء الجمعية المنتشرين في مختلف انحاء العالم. كما تنظم الجمعية زيارات للأماكن التي كتبت فيها احداث الروايات خصوصاً رواية "مرتفعات وذرينغ". وسيلاحظ زائر هاوورث ان العديد من اشارات الطرق المؤدية الى "مرتفعات وذرينغ" مكتوبة بالانكليزية واليابانية. ومن الجدير بالذكر، ان "مرتفعات وذرينغ" هو اسم المنزل الواقع في اعالي السهوب المحيطة بهاوورث، حيث تدور احداث الرواية. أما التلال التي نشاهدها في الفيلم، فتسمى "بنستون كراك"، وتقع قرب شلالات صغيرة، سميت لاحقاً "شلالات برونتي" وهناك ايضاً "جسر برونتي" و"طريق برونتي"، ومن يدري، فقد تتحول قرية هاوورث ذات يوم الى "قرية برونتي".