يشكل المطرب الجزائري رشيد طه المقيم في فرنسا ظاهرة فنية لافتة، فهو عرف منذ بداية فترة التسعينات كيف ينطلق وحده على الساحة الدولية بعدما اشتهر سابقا في اطار الفرقة التي كونها مع اثنين من اصدقائه تحت اسم "كارت دي سيجور" Carte de Sejour بطاقة اقامة. وفي اسطوانته "ديوان" يردد طه مجموعة من الاغنيات الشعبية القديمة المنتمية الى المغرب العربي، مقدماً الدليل على كفاءته الفنية على رغم ارتباطه الجذري باللون الغنائي الذي صنع شهرته وهو "الراي". وقبل وقوفه فوق خشبة مسرح "زينيث" الباريسي بصحبة فرقة موسيقية افريقية ليردد أحدث اغنياته، منح المطرب هذا الحديث الى "الوسط" متحدثاً فيه عن جذوره وفنه. حدثنا عن أصلك؟ - ولدت في وهران في الجزائر في العام 1958 وكبرت في هذه المنطقة التي تعتبر مهد موسيقى "الراي"، قبل أن آتي الى فرنسا وأنا في العاشرة من عمري. كان والدي في ذلك الحين قد عثر على وظيفة في مصنع للنسيج قرب مدينة ليون. أما انا فاضطررت للعمل مبكراً لكسب ما قد يرفع بعض الشيء من المستوى المادي للعائلة، فرحت استخدم موهبتي التجارية كي أبيع قواميس في الأسواق الشعبية ثم مضخات ضد الحريق واجهزة لتدفئة البيوت والمكاتب. ماذا عن موهبة الموسيقى اذن؟ - تأثرت منذ صباي بحب والدي للموسيقى، اذ كان أبي يعمل نهاراً في مصنع ثم يدندن فوق العود في الليل في المقاهي الشعبية في وهران قائلا "المصنع لتربية اولادي، والموسيقى لنفسي". وكان اللون الذي يفضله الوالد هو "الراي" الشعبي، وهو موسيقى المحرومين والفقراء، وحاولت شخصيا في ما بعد، حينما أنشأت فرقتي "كارت دي سيجور" في فرنسا، ان أركز على "الروك اند رول" مع ادخال نبرات عربية اليه مبتعدا تماما عن "الراي"، فأعدت صياغة اغنية "دوس فرانس" Douce Franceفرنسا الرقيقة المعروفة عالميا والتي يغنيها اصلا الفرنسي الراحل شارل ترينيه، ووضبتها على الطريقة العربية الممزوجة بالروك اند رول محققاً لنفسي ولفرقتي شعبية لدى المغتربين وعداوات بين الفرنسيين الذين اعتبروا الاغنية استفزازاً لهم واهانة لتراثهم الغنائي. ولقد انجذبت الى لون "الراي" في ما بعد، بشكل لاشعوري ووجدت نفسي أؤلفه وألحنه وأغنيه بنجاح فقررت العمل بمفردي واعتزال الفرقة. انت متخصص في "الراي" الذي يحكي مشاكل المغتربين أليس كذلك؟ - نعم ،وذلك على عكس زميلي الشاب خالد مثلا، صحيح انني معتاد على الغناء لحل المشاكل الاجتماعية والسياسية والحكايات الصعبة التي تمس العربي في الغربة بشكل عام، وأرفض ان أغني للمرأة والحب فقط، فهناك من فعلوا ذلك من قبلي وبكفاءة يصعب علي منافستها، وعلى سبيل المثال ام كلثوم التي "استعمرت" الموجات الاذاعية العربية من المشرق الى المغرب من دون أن يفهم الشعب الجزائري مثلا كلمة واحدة مما كانت تردده، مما لم يمنعها من التمتع بشعبية تعدت كل ما عرفه أي فنان من قبلها او من بعدها حتى يومنا هذا. هل عانيت انت شخصيا من المشاكل التي تمس المغتربين؟ - طبعا، فأنا أقيم منذ وصولي الى فرنسا في العاصمة باريس، وبالتالي اشارك كل مغترب معاناته في المهجر. ومن ناحية ثانية صحيح أنني كثيراً ما أسافر الى المنطقة العربية، خصوصاً الى لبنان لإحياء حفلات غنائية مما يفرج عن صدري ويعيد الى وجداني الدفء العربي الذي أفتقده. في اسطوانة "ديوان" مثلا أردد اغنية باللغة الفرنسية تحية للبلد الذي يؤويني وان كنت قد عرفت فيه، خصوصاً في الماضي، المشاكل نفسها التي تعترض العدد الاكبر من المغتربين، خصوصاً القادمين من المغرب العربي. والشهرة أزالت من أمامي الكثير من العقبات من هذه الناحية، وان لم يكن بشكل كلي. ما هي طموحاتك الآن بعدما وصلت الى هذه المرحلة من النجاح؟ - أتمنى ان أشارك صديقي الحميم الشاب مامي بطولة فيلم سينمائي في المستقبل القريب، ذلك ان مامي يرغب جدياً في شق طريقه أمام الكاميرا ونجح في اقناعي بخوض هذه التجربة معه مؤكداً لي مدى تمتعي بموهبة تمثيلية لابد من أن تكون على مستوى توقعات جمهوري الذي يقدرني كمغن. وذلك مثلا على عكس خالد الذي يظهر في بعض الافلام مستخدما اسمه كعنصر دعائي جيد لا علاقة له بقدراته الدرامية، علماً انني اعمل اساساً في السينما لا سيما الفرنسية، ولكن عن طريق تأليف موسيقى الافلام. ألا تشعر بقيد ما وأنت تؤلف موسيقى الافلام السينمائية، نظراً الى كون عملك يسخّر لخدمة سيناريو محدد لا علاقة لك به في الأساس؟ - هذا سؤال في محله، خصوصاً انني من انصار الحرية التامة في التأليف، والواقع انني أعمل بطريقة مختلفة تماماً عن غيري من المؤلفين الموسيقيين في مجال السينما، فأنا على عكس هؤلاء لا أشهد اللقطات حتى أتأثر بها واستوحي منها، بل اكتفي بقراءة السيناريو واخرج فيلمي الشخصي في ذهني وألحن على أساس هذا الفيلم بالذات. ثم اقدم عملي الى المخرج الذي يختار منه ما يناسبه لكل موقف، بمعني انني انجز عملا اطول بكثير من المطلوب في أول الأمر ليتمتع المخرج بحرية الاختيار في النهاية. وامتنع عن التعاون مع كل من لا يشاركني وجهة نظري هذه وبالتالي أرفض الكثير من العروض المطروحة علّي في ميدان السينما. أي لون موسيقي تفضل عامة؟ - أنا كبرت على أنغام موسيقى "الراي" وبفضل والدي مثلما ذكرته سالفا، وغير هذه الموسيقى اعشق الاغنيات المصرية القديمة من عبدالوهاب الى أم كلثوم مروراً بأسمهان وليلى مراد، ولدى الفرنسيين الفنان شارل ترينيه الذي غنى "دوس فرانس" اصلا وهي الاغنية التي جلبت لي بعض المتاعب عندما رددتها مع فرقتي مثلما رويته سالفا. وثم احب الموسيقى الكلاسيكية فهي اجمل ما في الوجود، ولا بأس بمادونا وستينغ وديفيد بوي طبعا. أنت تغني الآن مع فرقة افريقية سوداء، فما هي تفاصيل هذه التجربة؟ - أنا سافرت مرات عدة الى افريقيا السوداء وتعلمت متابعة الفنون الشعبية هناك خصوصاً الموسيقى الفوكلورية التي تثير اعجابي الشديد. واستنادا الى ذلك قررت مشاركة احدى الفرق المتخصصة في التراث الموسيقي الشعبي هي فرقة "بيلينغز"، فنها والمزج بين موسيقاها وكلماتي بالمشاركة مع الفنان فيمي كوتي الذي سيقف الى جواري فوق المسرح ويرافقني في العزف والغناء، والنتيجة مثيرة للغاية ومرضية الى ابعد حد. وأتلهف لاكتشاف رد فعل الجماهير في قاعة مسرح "زينيث" اولا ثم في مدن وبلدان أخرى ستشهد تجربتنا في المستقبل القريب