سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
جائزتها تحية إلى مالك حداد "شهيد اللغة الذي مات بسرطان الصمت" . أحلام مستغانمي : الفضيحة وحدها تبيع في العالم العربي وأنا امرأة كسولة تأتيني الأشياء جاهزة
"إذا كنت تريد أن تنتحر، فاكتُب باللغة العربية خصوصاً في الجزائر"، أحلام مستغانمي كاتبة، وجزائريّة، وهي لا تعرف أنصاف الحلول، ولا الاعتدال في المشاعر، ولهذا ربّما كرهها كثيرون، ويحبّها كثيرون، ويقبل القرّاء على كتاباتها، صاحبة "فوضى الحواس" التي تصف نفسها بأنّها "أديبة بكتابين وستة محامين"، تبلّ يراعتها في جراح اللغة والهويّة والذات. وتقول إنها كتبت روايتها الأولى، التي تعتبر حتّى اليوم بين الأكثر مبيعاً في السنوات الأخيرة، وهي تلهو وتتسلّى. وإذا كانت هذه الكاتبة متّهمة بأنوثتها، وقد أعيتها كثرة المعارك، فحماسها لم يفتر في مواجهة أعدائها، بل ازدادت كلماتها حدّة وعنفاً ونزفاً. وتأسف لكون "الفضيحة وحدها تبيع اليوم في العالم العربي". عندما هبطت أحلام مستغانمي درج الطائرة، للقاء مدينتها قسنطينة بعد غياب زاد على ربع قرن، فوجئت بحشد المستقبلين بالورود والحفاوة. فكّرت في سرّها أن المهاجرين يعودن إلى مسقط رأسهم في الأفراح والجنازات. كل هذه الحفاوة، وهي جاءت تلتقي الكاتب الجزائري الكبير مالك حدّاد، سنوات بعد رحيله. مالك حدّاد ابن قسنطينة مثلها، والمثال الذي حضّها على مغامرة الابداع، لم تلتقِ به في حياته. "الكتّاب لا يلتقون إلا فوق صفحات الكتب" تقول، وعيناها تحدّقان في نقطة بعيدة خارج المقهى البيروتي الذي التقينا فيه. دخلت من الأبواب الشرقيّة، هذه الكاتبة الجزائريّة المشاكسة التي عاشت بين باريسوبيروت، بين كان وبرمانا. عادت على خطى مراهقتها الأولى، كان في ذمّتها دين يجب أن تردّه، لصاحب "سأهديك غزالاً". هكذا أسست أحلام مستغانمي "جائزة مالك حداد" للكتّاب الجزائريين الشباب باللغة العربيّة، رافضة كلّ دعم من خارج بلادها. كان الناس يستوقفونها في شوارع قسنطينة، وهم لم يقرأوا حرفاً واحداً من كتاباتها. غنّى الفرقان، نجم المالوف الشهير، احتفاءً بها، وهو لا يدري أنّها انتقدته بشكل لاذع في روايتها. وحدها السيّدة البكماء التي طلبت توقيعاً، قرأت روايتيها. بحثت عن "ملاية" تقليديّة ترتديها كالتي كان يلبسها أهل المدينة حداداً على صالح بيه الذي قتله الفرنسيّون فلم تجد: "كلّما ماتت عجوز، تموت معها ملاية. المدينة تبدّلت كلياً". لكن الهاجس الذي يعود دائماً في حديثها هو هاجس اللغة. اللغة العربيّة المهدّدة التي أرادت أن تعيد إليها الاعتبار من خلال "جائزة مالك حدّاد للرواية الجزائريّة". تعتبرين أن اللغة العربيّة تعاني من الانحسار في الجزائر، فهل ان "جائزة مالك حدّاد للرواية" بإمكانها أن تلعب دوراً في ردّ الاعتبار إليها؟ - وُلِدَت فكرة جائزة مالك حداد العام 1988، وكنت أُعِدّ أطروحة في جامعة السوربون عن الأدب الجزائري. وقتها اكتشفت مالك حداد ودُهِشت باختلافه عن الكُتّاب الآخرين. وفتنت ليس فقط بكتاباته، فحياته هي نصفه الأجمل. إنّه رجل يشبه كتاباته، وقد كتبت ذلك في "ذاكرة الجسد". إنّه شهيد اللغة العربية. قام بعمليّة إستشهادية لم يسبقه إليها أحد، إذ قرّر أن يتوقّف عن الكتابة، لأنه لا يملك إلا الفرنسية، لغة المستعمر. لقد أخذ هذا القرار العام 1965، أي ثلاث سنوات بعد الاستقلال، وظلّ وَفيّاً لقراره حتى مماته العام 1978. لقد مات بسرطان الصمت، والصمت أكبر ظلم يمكن أن يلحق بكاتب. منذ ذلك الوقت وأنا أريد تكريم مالك حدّاد. وجهت إليه تحيّة في "ذاكرة الجسد". أنا واثقة من أنني كتبت الرواية من أجل هذا الرجل. كتبتها بهاجس أنّ في حياتنا تأثرات غير مباشرة، وتداخلات غامضة. أردت أن أعبّر عن وفائي، ومع الشعراء الوفاء للحظة أجمل من الوفاء لِعشرَة : اللحظة العابرة التي تقاطعت فيها تجربتانا. عايش حداد تأسيس "اتحاد الكُتّاب الجزائريين"، كان الناس يُمجّدون الثورة ومعظمهم يكتب باللغة العربية وبلغة انحطاط جوفاء بلا روح. فجاء هذا الكاتب الموهوب ليعلن استقالته. أحببته من دون أن أكون قرأته، ثم عرفته حقاً عندما قرأته، وكان وقتها قد مات. وعشت سنوات مع عقدة ذنب، لأنني مَرَرت بمحاذاة هذا الرجل من دون أن أقول له كم أنت رائع، وكم أنت مظلوم. ما يجمعك بمالك حدّاد إذاً هو اللغة العربيّة التي لم يحسن الكتابة فيها؟ - النقطة المشتركة بيننا هي قُسَنطينة. فلو لم يكن من قُسَنطينة لما أخذ هذا الموقف أبداً. لأن قُسَنطينة مدينة عريقة لغوياً. لديها رصيد في العروبة، مُتَديِّنة ولا تُشبه المدن الأخرى. شخص من غرب الجزائر، أو من العاصمة، أو من جبال القبائل، لن يموت عشقاً باللُغة العربية. وأنا أفهم هذا تماماً، لأن أبي من جيل مالك حداد، وكان يعيش معاناة هائلة لأنّه لا يتقن اللغة العربيّة. أراد أن يكون فصيحاً، أن يقرأ اللغة العربية. أن تتقن العربية كان يعني أنّك مُقاوم أوّلاً، وأنّك من وُجَهاء قسنطينة. لذلك أجبرني والدي أن أتعلَّم بالعربية، مع العلم أنّه لم يكن يعاني من عقدة لغوية تجاه فرنسا، ففي المنزل كنا نتكلّم بالفرنسية مع أبي. فهو كان مدرِّس اللغة الفرنسيّة. أنا من بين أوّل دفعة خرّيجين تعلّموا باللغة العربية من الابتدائي الى الجامعة، على أيّام بومدين العام 1972. كنّا ندرس في مدرسة صغيرة، هي مدرسة سيدي عبدالرحمن، وتُشبِه التُحفة، كُلها منقوشة، صغيرة ولم نكن أكثر من مئة فتاة وكانت العربيّة شيئاً نادراً في الجزائر وَقتها. ثم تخرَّجت من هناك ودرست في ثانوية عائشة أُم المؤمنين التي هي أوّل ثانوية باللغة العربية. ثم كنت من أول فَوج لغة عربية في كليّة الآداب في الجامعة. ومع هذا الرصيد أفهم وَجَع مالك حداد، وَجع لا يُمكِن أن يشعر به إلاّ القُسنطيني. العربيّة وخطر العولمة ولكن ما أهداف الجائزة؟ - هدفها مساندة كُتّاب اللغة العربية. فهم يعيشون مأساة كبيرة. فرنسا تساعد الكُتَّاب باللغة الفرنسية ولم تعُد لديهم مشكلة نشر، كما أنها تُقدِّم لهم الدعم على جميع المستويات. أما إذا كنت تريد أن تنتحر، فاكتُب باللغة العربية خصوصاً في الجزائر. فليس لديك أي أمل بأي كسب مادي، ولا في أن تُعرَف أو تُنشَر. وهؤلاء الشباب الذين يقاومون إغراءات الفرنكوفونية، لا بُدَّ من مساعدتهم، خصوصاً في الظروف السياسية الجديدة. فالحرب في العالم انتهت على المستوى العسكري وأصبحت الحروب السياسية تُدار ثقافياً ولُغوياً. هناك 25 لغة تموت سنويّاً في العالم، وهذا هو خطر العولمة. خمس لغات تسيطر على عشرات آلاف اللغات الحيّة الأخرى، من مكتوبة ومَحكيّة. هناك تطهير لغويّ. اللغة العربية تتعرَّض لهجمة كبيرة خصوصاً في الجزائر. صدر في العام الماضي قانون عن وزير التربية والتعليم في فرنسا، ولم يتحدَّث عنه أحد. قانون يسمح بتعلُّم اللغة العربية في صفوف البكالوريا بالحروف اللاتينية. وهذا أمر رهيب كان يحصل أيام الاستعمار، وقاومه الناس بعدما فهموا أن اللغة جزء من مقوّماتهم. وقد برّر الوزير قراره بكون اللغة العربية لغة ميّتة، والطَلبة المهاجرون يتكلّمون لهجات بلدهم فبينهم سوريون ومغاربة وتوانسة، وبالتالي فاللغة العربية لا تُشبههم، بل وليدة ظرف سياسي! وهذا القانون ما زال يُطبَّق حالياً. إنه اغتيال للحرف العربي. نحن نعود إلى زمن الاستعمار. مع العلم أن الفرنسية غير قادرة على مواجهة الإنكليزية. وماذا عن الجزائر؟ - نعيش كارثة على هذا الصعيد. فالرئيس بوتفليقة الذي هو صديق وانسان وَطني وأعرف نواياه، سدّد ضربة قاصمة إلى اللغة العربية في عهده. إنّه أوّل رئيس جزائري يسمح لنفسه أن يخطب بالفرنسية، عندما يزور مؤسسات وطنيّة وعسكرية، أو يُدَشِّن مؤسسة ويدلي بأحاديث للتلفزيون. شاهدت في التلفزيون جلسة مجلس النواب، تكلّم خلالها أحد النواب بالفرنسية، فراح زملاؤه يضربون على الطاولات اعتراضاً، لأن اللغة الرسميّة المتداولة في مجلس النواب هي اللغة العربية. لكن النائب ضَحِك وأكمل حديثه بالفرنسية من دون أن يكترث لهم. ما السّر في أنّ اللغة ما زالت، كلّ هذه السنوات بعد الاستقلال، الجرح الأكبر في الجزائر؟ هذا يدفعنا إلى التساؤل عن الهوية الوطنية الجزائرية، هل هذه المعضلة من صميم الجرح الجزائري أم انّها مفروضة من الخارج؟ - الاثنان معاً. هذا التنوّع كان بوسعه أن يكون مصدر ثراء للجزائريين. لدينا كُتّاب رائعون، ونحن على بُعد ساعة بالطائرة من فرنسا، من البلاد العربية القليلة التي تعيش مباشرة بمحاذاة الغرب. ولكن النعرات تثار من الخارج، علماً أن هناك مسائل جوهريّة لم تحسم منذ الاستقلال. لاحظ ما يجري الآن مع اللغة الأمازيغيّة. إنّها لغة ميّتة لم تتحرّك منذ قرون، وها هي تُبعث حيّة، وتُؤسَس لها مراكز الدراسات في أوروبا. واصبح للبربر نشيد وطني خاص واستعادوا حروفهم. إنّها لغة عريقة، وثقافة عريقة طبعاً، أنا لا أقول العكس. فهي لغة تملك تاريخها، لكنها ميتة منذ زمن طويل، في حين أنّ اللغة العربية تُغتال رسميّاً. هناك مكان لكلّ اللغات من دون شكّ، ولكن المشكلة أن الغرب يستعمل كل هذه التناقضات لاضعاف الشخصيّة الوطنيّة. دخل إلينا الغرب. ليست لدينا طوائف في الجزائر، فمن أين للغرب أن يدخل علينا؟ من اللغة ومن القضايا العرقية. أنا أُدافع عن اللغة العربية، لكنني لا أطالب بأن نأخذ شيئاً على حساب كُتّاب اللغة الفرنسية. أُطالب فقط بأن نكون متساوين معهم. والآن أصبحت الأمازيغيّة "بُعبُعاً". كلّما قلت أمراً تعتبر عنصرياً وضدّ البربر. إسرائيل والكوكا كولا هل تعتقدين أنّ بالامكان ايجاد هويّة وطنيّة حديثة في الجزائر تتّسِع لكل الأقليّات، من دون أن تكون الوحدة على حساب أحد؟ - طبعاً، طبعاً. أهل القبائل حاصلون أساساً على حقوق لم يحصل عليها سواهم في المغرب العربي. نحن مشكلتنا دائماً مع إسرائيل. طالما ليست لدينا علاقة رسميّة مع إسرائيل ستبحث عن أي مدخل لتدميرنا. يجب أن يبحثوا عن طريقة ليُفرِّقوا بيننا. الأمازيغيون حاصلون على حقوقهم، عندهم نشرات تلفزيونية بالبربرية ومدارس، وعندهم دعم خارجي جعلهم بسرعة مُنظَّمين. لا يُمكن لأي جزائري أن يَدَّعي بأن عرقه صاف. أنا نصفي بربري، شاوي وليس قبائلي، ولكن ذلك لا يعني شيئاً. الهوية العربية أمر آخر. وبالمناسبة كثيرون من البربر هم من دعاة العروبة والإسلام وحتى إبراهيم سعدي الذي ربح "جائزة مالك حدّاد"، بربري قبائلي، وهذا أمر جميل. أنظر إلى سويسرا كم هي صغيرة، هي واحد على خمسين من الجزائر. وهي مقسومة إلى أربع لغات، ولا تعاني من مشاكل. لديها علم واحد وكلّما انتقل المرء من منطقة إلى أُخرى، ينتقل من لغة إلى لغة. ولكن القضية أنّ هذا التنوّع عندنا هو مدخل لتفتيت الوطن، لخلق نعرة جديدة. نحن حاربنا لكي نوحِّد الجزائر، وترانا نمُّر الآن بضربة هي أخطر من انتفاضة أكتوبر 1988. ذلك الوقت كانت الحرب واضحة، والناس في الشارع صفوفهم موحّدة، يطالبون بالعدالة. أمّا الآن فالقضية أكبر. الناس يُطالبون بالتقسيم رسمياً. سياسيون بربر يطالبون باستقلال سياسي وإداري. قبل أيّام صرّحت أخت لوناس معطوب، المغنّي الأمازيغي الذي اغتيل قبل سنوات في الجزائر، أن البربر لا يبحثون أبداً عن التقسيم، بل يطالبون بحقوقهم، وأنّهم يعتبرون أنفسهم جزائريين أولاً وأخيراً. - ولكن هناك جهات أخرى تعمل في اتجاه آخر. وجزء كبير من الصحافة الأجنبيّة، لا سيّما الصحافة الفرنسية، يلعب على نعرة التقسيم، ويثير هذا الحسّ لدى البربر. يؤلمني أن ألتقي مع جزائري في الغربة ويقول لي أنه قبائلي. حتى كلمة قُسنطينة أنا لا أقولها لأنني لا أريد أن تبدو جُهوية. أنا أتكلّم عن حنين لمدينة وهذا من حقي كأديبة، ولكن وطني أنا الجزائر، وأرفض أن يتصرّف مواطن لي كأن العربية شُبهة يتبرأ منها. كلاعب كرة القدم زين الدين زيدان الذي يقول إنه قبائلي. فرنسا تُدير حرباً ضدّ أميركا على ساحة المغرب العربي. وحتى إذا كان المغرب العربي سيتوحَّد فبفَضْل كوكا كولا... لأن الشركات الأميركية التي ستبتلع العالم من مصلحتها أن يتوحَّد المغرب العربي لأجل أن تتوحَّد السوق. عشتِ في فرنسا وفي لبنان، على مُفترق طرق انتماءات ولغات. كيف أثّر كل ذلك على شخصيّتك؟ كيف حَدَّد هويتك وأغنى تجربتك؟ - لا أدري. نحن لا نختار أقدارنا، وأنا لم أختر هذا القدر من البداية. ولكن من المؤكد أنه كان لي مسار جميل، وَجدتُ نفسي مسكونة بهاجس العروبة. قالت لي صديقة: أنتِ الكاتبة العربية الوحيدة التي لا تزال تتّخذ مواقف سياسية، في مقالاتها. أنا أكتب مقالات سياسية ألتزم بها. ليس هناك كاتبة عندها الهواجس السياسية التي أملكها كجزائرية. لا أستطيع أن أُشفى من العروبة. كيف أُشفى. ربّما كان علينا أن نُشفى من أوهامنا، لكنني لا أستطيع. وأظن أنّ الكاتب لا يُشفى. أنا كلّ خلاصتي موجودة في أعمالي الأولى الصغيرة على بساطتها. لم أتغيّر، في مساري السياسي، ولا في مساري الأدبي. كلّما توقّفت عند محطّة أكتسِب شيئاً جديداً. فرنسا أفادتني، أقمت فيها 17 سنة، كنت منشغلة بأولادي الثلاثة ولكني تَغَذّيت. عندما انتقلت إلى لبنان كانت عندي رغبة العيش في بلد عربي. عندما جئت إلى هنا ذهبت تلك الرغبة، ووجدت أنني كنت أقرب إلى ثقافتي وديني في فرنسا. فهمت أن المجتمعات العربيّة تغيّرت ولم تعد هي. عندما كنت مُغتربة، كنت مُقاومة وكان عندي ذلك الحنين. كنت أسكن حَيّاً راقياً في فرنسا، لكنني كنت مُسلمة وأُشهِر إسلامي. كان هناك تحدٍّ. هنا بدأت الصدمات: لا أحد معني العروبة. أصبح الألم تافهاً، وكلّ شيء خطأ. ولا بدّ أن تتأقلم فتصبح إنسان مظاهر ومجاملات. هناك حرب دائمة داخلية. في فرنسا ليس هناك كل تلك الحفلات لتكريم الكتّاب. يوجد معارض للكتاب، وكفى. أنا غير قادرة على استيعاب المظاهر الإحتفالية التي يُكرّم فيها المُضيف وليس الضيف! عندما وصلت إلى الجزائر واستُقبِلت بباقة ورد كبيرة على مدرج الطائرة، بكيت لأنني غير معتادة على التكريم. لم يعُد يُبكينا الأذى، بل يُبكينا التكريم، لأننا غير معتادين عليه. فعندما يأتي الوطن ويربت على كتفيك، ويقول لك "يعطيك الصحة، فرْحتينا"، تبكي لأنك غير معتاد. كل ترسّبات التاريخ متداخلة فيّ. وأحياناً أشعر بإغراء الكتابة بالفرنسية. أنا أدفع ثمن عروبتي كلّ يوم. لو كتبت "ذاكرة الجسد" بالفرنسية، لما حدث ما حدث. لكن هناك وصفة سحرية لتنجح. هناك ما يجب أن تقوله وما يجب أن تتفادى قوله. عمل مبني على العروبة وعلى عبدالناصر وتمجيد الوحدة مثلاً، لن يكون له أي حظ في الرواج. يجب أن تنهَش المجتمع العربي وتظهر سلبياته لتنجح. هل أنا كاتبة فعلاً؟ أنت نجحتِ في الرواج من خلال اللغة العربية. ألا تهمّك ترجمة أعمالك إلى لغات أجنبيّة؟ - اللغة العربية هي المجد الكبير، أنه مقروء في 14 دولة عربية، وكتابي هو الأكثر مبيعاً منذ سنوات. مجدٌ لا يمكن أن تحصل عليه لا بالمال ولا بالترجمة ولا بشيء. صدّقني اتّصلت بي فتاة تريد أن تترجم كتابي إلى الكُردية، ففرحت أكثر مما لو نُشِر كتابي بالإنكليزية. القارئ الكردي مَعني بقضيتي وعنده قضية تُشبهني. إنّما القارئ الإنكليزي والأميركي ماذا تعني له "ذاكرة الجسد"؟ أصلاً عندما يُترجَم العمل يضيع نفسه. عملي شعري وهو مبني على اللغة الشعرية. والشعر يضيع في الترجمة. ما سرّ رواج كتبك؟ قيل الكثير حول الموضوع، لكن أنتِ كيف تنظرين إلى نجاحك؟ - صدّقني أُقسم بالله أنني لا أفهم شيئاً. أصلاً عليّ أن أعود إلى "ذاكرة الجسد" لأنني أنا ضيَّعت خيوط المعادلة التي قام عليها النصّ. نسيت ما كتبت. لا أعرف. لكن الشهرة كما قال لي الدكتور غازي القصيبي تُشبه الكلبة، عندما تركض وراءها تهرب وعندما تجري بعيداً عنها، تركض هي وراءك. أنا حياتي كلّها أجري بعيداً عن كلّ شيء. أنا امرأة لا تبحث عن شيء. أنا امرأة كسولة. لا أركض وراء شيء، وتأتيني الأشياء جاهزة. أتوقف فتأتيني الأشياء. لست معنية بهذه الضجة كلها. إننا نحتاج إلى موتنا لنعرف إذا كُنّا كتّاباً مهمّين. حتى الآن لا أعرف إذا كنت كاتبة أو لا. أن أبيع هذا لا يعني أنني كاتبة. سُئلت في مقابلة تلفزيونية عن سرّ تفوّق روايتي "ذاكرة الجسد"، و"فوضى الحواس" على كتاب لجبران خليل جبران جاء في المرتبة الثالثة خلال أحد معارض الكتب في بيروت. ما شعورك أنت الجزائرية حين تبيعين أكثر من جبران في لبنان؟ فقلت هذه نكتة، لأن جبران ما زال موجوداً بعد مضيّ أكثر من نصف قرن على رحيله. ما معنى أن يبيع مغنٍّ من آخر زمن أكثر من عبدالوهاب خلال موسم معيّن؟ عبدالوهاب قيمة ثابتة وسيظل يبيع حتى نهاية العالم. وبالتالي هذا لا يعني النجاح. ولكن نجاحك أثار الأقاويل، ونسجت حوله "الفضائح"... - هذه مسألة أخرى. بعض الكُتّاب الذين حاربوني، لديه حوالي 20 عملاً و20 قارئاً. لا شكّ في أن الكتّاب المميزين وقفوا إلى جانبي لأنهم غير محتاجين. الفاشل يشعر أنني سرقت منه شيئاً، ولا يسعه سوى التدمير. هؤلاء الذين هاجموني ظواهر لفظيّة جوفاء. حتّى الجرأة والصدق أصبحا سِلَعاً إعلاميّة. فالعالم العربي متعطِّش للصدق! واسمح لي أن أقول إنني لست مدينة للنُقّاد بأي نجاح، فليذهب كلّ النقّاد إلى الجحيم. بل بالعكس، بعضهم مدين لي بنجاحه. فاليوم من يريد أن يبيع يخصص غلافاً لأحلام مستغانمي! إننا نعيش حالة من الخواء النقدي. لا أحد يشتري كتاباً بسبب مقالة نقديّة. القارئ بنفسه يروِّج للكتاب الآن. ومعظم قرّائي يعطون كتابي لأصدقائهم.أما الناقد فلم يعد يصنع نجاح أي كتاب، بل صار ينتظر أن ينجح الكاتب كي يكتب عنه. ألهذا الحدّ بات بينك وبين أهل النقد حدّ السيف؟ - ما آلمني بالنسبة إلى النقّاد، وطبعاً بينهم جامعيون، هو هذه الخفّة في التعاطي مع الأشياء، وهذه السهولة في التجريح. حتّى النقاد الكبار ليسوا جديّين. "ذاكرة الجسد" مزحة، هذا الكتاب الذي اتّهم بكلّ الاتهامات، كتبته وأنا ألهو، ولم أقم بجهد. والآن أنا أضحك، ولست أفهم ما حدث. عندما يقول أحدهم أنه عمل خرافي أضحك، إذ ليس فيه شيء من الخرافة. ثم يشتمني آخر، فأضحك أيضاً، لأن كلامه غير صحيح. نحن بحاجة إلى ناقد جدّي يكتب عن العمل بطريقة موضوعيّة، فلا يمجّده ولا يحطّمه. أنا أبحث عن ناقد يفتّح عيني على أخطائي، لا إلى ناقد يحمّلني عبء أخطائه. أبحث عن ناقد يُعلِّمني وهو يتعلّم مني. ما سبب نجاحي؟ إسألوا القرّاء عن سبب نجاحي. أظن أن القارئ يحب الكتاب عندما يجد نفسه فيه، عندما يقول أشياء مهمّة لا يجرؤ، أو لا يحسن، هو أن يقولها، أو لم يفطن إلى قولها. الكاتب الناجح يذهب بالفطرة إلى أماكن أراد القارئ أن يزورها، ويستعمل لغة مسروقة من لغته. أنا أقول إنّ الروائي سارق، لأنه يسرق حياة الآخرين ويسرق كلامهم. أما عندما يتّهمونني بأني سرقت كتابي من حيدر حيدر، فأموت من الضحك. ما خلفيات هذه المسألة التي أثارها الناقد المصري رجاء النقّاش؟ - لا يهمّني الأمر. أنا سرقت كتابي من قرّائي كلّهم، لا من حيدر حيدر. الروائي يتغذّى من الناس. قرّائي هم الذين يزوّدونني بمادة كتبي، لا حيدر حيدر أو سعدي يوسف الذي قيل في السابق إنّه كاتب رواية "ذاكرة الجسد". بعد الضجّة التي أثيرت حول "الوليمة" رواية حيدر حيدر في مصر، لم أكن قد قرأت الكتاب. وأذكر أن الأديب والسفير غازي القصيبي قال لي حينذاك: "لا أنصحَك بقراءة هذا الكتاب. لم أقرأ مرّة كتاباً ممنوعاً إلاّ وندمت". وكنت أصلاً مسافرة إلى "كان". فلم أبحث عن الكتاب. وعندما وصلت إلى "كان" وفي عزّ الحملة ضدّي بحجة أن سعدي يوسف هو كاتب روايتي، وجدت مجلّة عربية معروضة في أحد الأكشاك: وعلى غلافها: "من السارق أحلام مستغانمي أم حيدر حيدر؟". خمس حلقات خصصت لي، ضمن منطق تسويقي سافر: من كتب "ذاكرة الجسد"، أحلام مستغانمي أم سعدي يوسف؟ أحلام مستغانمي أم نزار قباني؟ هل ثمة شيء رجالي في "ذاكرة الجسد"؟... أتعتبر ذلك نقداً؟ الفضيحة وحدها هي التي تبيع اليوم في العالم العربي! الأستاذ النقّاش اكتشف كتابي في الصيف الماضي، والقرائن التي يستند إليها لتأكيد نظريّته، هي وجود عناصر مشتركة بين الروايتين: فالبطل اسمه حيدر والبنت إبنة شهيد. والأحداث تدور في الجزائر! وحيدر كتب عن مالك حداد وأنا تكلّمت عنه أيضاً. هذه إهانة لي: تريدني أن أسرق قصة حياتي، قصة وجع بلدي من كاتب غريب عن الجزائر؟ إن قصص الجزائر مرميّة في الطريق، وهناك مليون ونصف مليون ابنة شهيد، ومليون خالد... وقسنطينة مدينة معروفة، مدينتي، وعنابة مدينة معروفة. هل وصل بي الإفلاس إلى هذا الحد؟ هل يُمكن لناقد أن يبني مقولة نقديّة على عناصر كهذه؟ كم كان كبيراً رجاء نقاش، وكم صَغُر في عيني! كان الأجدر به كناقد أن يبحث في ظروف ولادة هذا العمل. هذا الرجل لم يقرأ "فوضى الحواس" التي يعتبرها بعضهم أهم من "ذاكرة الجسد". ولو قرأها لفَهِم تجربتي. ولكن أن يكتب المرء أي شيء ليُحدِث فضيحة، فهذا مؤلم لأنه يُظهر البؤس الذي وَصل إليه النقد. إنه يبيع على حساب شرف الناس. لو كنت بَشِعة كونك امرأة في العالم العربي، هل تعتبرينه حظاً أم لعنة؟ - قد يكون حظاً في البداية. أكيد فيها شيء من الحظ. لو كنت رجلاً لما كان عندي الحضور نفسه. فظهوري في الجزائر في السبعينات كان حدثاً. أنا أول فتاة تكتب من جيلي، وأول بنت تتجرأ وتعمل في الإذاعة، وتُلقي قصائد عاطفية. ولكنها في الوقت نفسه لعنة، لأنك تُحاسَب على كلّ شيء. أنا أُحاسَب على جمالي. لو كنت بَشِعة لكان الأمر أفضل. عندما تقرأ مقال رجاء النقاش، تفهم أنّ هذه المرأة جميلة ومقتحِمة. أحياناً شكلي يُشكل شُبهة. هذا عيب. قال رجاء النقاش إنني نجحت لأنني امرأة تطارد الإعلام وتقول كلاماً سياسياً في المؤتمرات. واعتبر أنّ نزار قبّاني كتب بحماسة عن أدبي لأنني جميلة، فهل هناك أزمة جمال في المدينة؟ كيف كتب عنك نزار إذاً؟ - أنا لم أطلب شيئاً. أوّل مرّة عاد نزار إلى بيروت العام 1993، سألني: ماذا فعلت، لأنه لم يرني منذ العام 1976. فأجابه الدكتور سُهيل إدريس: أصدرتْ كتاباً وعليك أن تقرأه. بعدها طلب منّي سهيل إدريس ثلاث مرات أن أُهدي كتابي لنزار، ولم أفعل، خوفاً من أن يأخذ الكتاب ويضعه في الحقيبة. هناك حياء الكتابة. وأنا لا أُهدي كتبي إلاّ للفقراء، وأتحدّى أي ثري أو مسؤول أن يقول أنني أهديته كتاباً. فإذا كان يريده، فلمَ لا يشتريه؟ هذه المعارك التي تقودينها منذ سنة ونصف سنة، هل تؤثّر على حياتك الادبيّة؟ - كم أنا موجوعة. أرغب في البكاء. عام ونصف من عمري. أنا كاتبة بكتابين وستة محامين. رفعت دعوى على وكالة الأنباء الفرنسية، وعلى مؤسسة إعلامية في لندن وربحتها. وأتمنى أن تكتب هذا. لم تنشر الصحافة الخبر، لأن الصحافيين متضامنون. عندما تُنهَش يَنهشونك كلّهم، وعندما ترفع دعوى وتدفع المال لتغسل شرفك يتجاهلك الجميع. كلّفني المحامي 150.000 دولار. وبالمناسبة طلبت أقلّ تعويض ممكن، وبالمبلغ الذي حصّلته أنشأت جائزتي. أنا لا أُدافع عن كتاب، بل أُدافع عن شرف الكتابة. نحن لا نؤلّف الكُتب لنقضي حياتنا في الدفاع عنها، بل لتدافع هي عنّا بعد موتنا. إن قسنطينة تسكن "ذاكرة الجسد"، الرواية كلّها معجونة بلحم قسنطينة. ولولا ذلك لما تمكّنت أن أثبت أنّني صاحبة هذا الكتاب. هذا عمل جزائري عن الجزائر، فيه رائحة قسنطينة وشوارعها ولباسها. كأنّك تضعين الحقّ كلّه على الاعلام! - ما حدث لي دليل إفلاس القضايا العربية الكبرى. وهذا الأمر ما كان ليحدث قبل 20 سنة، لأن المجلات كانت قليلة وتحترم نفسها، فلا تنشر خبراً إلاّ إذا كانت متأكدة منه. وما كان ممكناً لصحافي نكرة أن يعلو ويصبح كبيراً فجأة، لأنّه أحدث فضيحة لكاتبة مرموقة. أنا أريد أن أفلت من هذا الأخطبوط الإعلامي. لا أريد أن أكون على أغلفة المجلات. ككاتبة مكاني بين غلافَين. أرفض أن أصبح سِلعة وأنا مستعدّة لدفع الثمن. أنا أبحث عن أعداء شرفاء، عن قضايا حقيقية. نُهِشتُ لأنني أدافع عن العروبة. وكانت لمعركتي أبعاد سياسية. الآن كلّ قومي يُخوّن ويحقّر، مثلما فعلوا مع مارسيل خليفة، وكما ابتدعوا قضية لدُريد لحام. شخص غيري كان لعن ساعة العربية. ماذا أكسب من هذه اللغة، غير المزوّرين الذين يعيشون مني؟ أنت ضحيّة التزوير أيضاً... - نعم. عملي الجديد جاهز، لكني لا أنشره لأن المزوّرين ينتظروني على الباب. فروايتي تقريباً مُنتهية، وعندي مجموعتان لأجمل مقالاتي خلال 15 سنة. أنا أكثر كاتبة تُزوَّر حالياً. أُزوَّر في سورية، وفي اليمن وحتّى في فلسطين المحتلّة قبل العام 1968. رأيت كتابي مُزوَّراً في جنيف يُباع ب38 فرنكاً سويسرياً وفي أميركا يُباع كتابي مزوّراً ب22 دولاراً. لقد أقمت دعوى في جنيف، على "دار الكنوز الأدبية" وذهبت إلى سورية لأحاول أن أفعل شيئاً، لكن ماذا أفعل في مواجهة عصابات الكتاب، وهي اكبر عصابة في العالم؟ لديّ قائمة ب30 مزوِّراً أعطاني إيّاها أنطوان نوفل، وفيها أسماء المطابع والموزعين ودور النشر. هل تعلم أنهم اخترعوا جزءاً تاسعاً من الأعمال الكاملة لنزار قباني بعد موته؟ وكذلك باعوا كتاب ماغي فرح جملة وتفصيلاً. قد تقول إنّ هذا دليل النجاح. وأُمنيتي الأولى والأخيرة هي أن يُقرأ الكتاب. لكنّني لا أقبل أن يقرأني الانسان على حساب لقمته، فلديّ قراء في سورية يشترون كتابي بالتقسيط. الكاتب العربي لم يعُد يحلم أن يعيش ممّا يكتب، بل يحلم فقط ألاّ يموت بسبب ما يكتب. وإلاّ، هل من كاتب يصدر 17 طبعة من روايته الأولى و11 طبعة من روايته الثانية، ويضطر أن يكتب في الصحافة ليعيش؟ ومع ذلك، أقمت جائزة للأدب الجزائري. مَنْ مِنَ الكتّاب الجزائريين الذين عاشوا ونجحوا في الخارج، كان ليفعل ذلك؟ نجوم الأدب الجزائري لا يتحمّلون أن ينجح أحد غيرهم!.