إذا بحثنا عن كلمة "القنب الهندي" في أي قاموس أو موسوعة علمية تعرفها علميا cannabis sativaindica سنجد أن هذه النبتة الليفية التي استعملت منذ مطلع التاريخ لاستخراج الألياف والحبال يستخرج منها أيضاً العديد من أنواع المخدرات المضرة، وعلى رأسها "حشيشة الكيف". ولكننا نجد أيضاً أنه على رغم "كنيتها العلمية" الهندية، فإن من أشهر مواقع زراعتها هي "ربوع" لبنان! ويبدو أن هذه "الزهرة" ترفض الانصياع ل"حملة استئصالها" ومحو زراعتها من بقاع لبنان. والواضح أن "مميزاتها الكيفية" لا تتوقف عند حدود "متعاطيها" بل تصيب أيضاً المتعاطين بملفها و"تدوخ" رؤوس المكلفين بمحوها من لبنان. ولن نعود إلى "جذور" زراعة الحشيشة في لبنان، ولا الى الأسباب الاجتماعية - الزراعية التي تدفع المزارعين إلى "التخصص" بهذه الزراعة عوضاً عن زراعة صنف آخر. ولا ضرورة للحديث عن المستفيدين مالياً من تجارتها أو المختبئين وراء هم، يكفي الالتفات الى اللغط الدائر حول عودة زراعة الحشيش في لبنان وسبل "المعالجة" لطرح العديد من الأسئلة التي يمكن أن تكشف عقم معالجات مشاكل أخرى في لبنان، لا تقل خطورة عما يمكن أن يتأتى من زراعة حشيشة الكيف وانعكاساتها في الداخل والخارج. ازدهرت زراعة وصناعة وتجارة القنب الهندي في لبنان بعد الاستقلال مطلع الاربعينات، واستمرت في سنواتها الذهبية على رغم قوة المكتب الثاني الاستخبارات في العهد الشهابي، ثم جاءت مرحلة ما بعد الحرب الأهلية، فهبت الرياح على هذه الزراعة، بعضها أتى من جهات أجنبية ومنظمات تسعى لاستئصالها لمنع وصولها إلى أسواقها! وبعضها أتى في خضم السعي إلى محاربة أموال المخدرات. وفي الأجواء التي أعقبت توقيع اتفاق أوسلو وعلى ضوء "نور الأمل المتوقع في نهاية نفق السلام"، سعت جهات ل "تجفيف" تيار تمويل حركات سياسية لا يتوافق منظورها مع الأجواء السائدة آنذاك، وكان في تصور هؤلاء أن زراعة الحشيشة تساهم في تمويل هذه الجهات المناوئة للسلام. فصدرت قرارات منها استند على معطيات داخلية وتغيير في موازين القوى، ومنها ما الى وعود خارجية من ضمن الوعود التي أغدقت على المنطقة في أوج "فرحة أوسلو". وصبّت هذه الإجراءات التي أقرت بين 1992 في خانة "عفا الله عما سلف" ونتطلع الى "مستقبل جديد" تحل فيه "زراعة نظيفة" مكان الزراعة الآثمة. وقد انصبت الوعود المالية على الحكومة اللبنانية ضمن وعود البناء وإعادة تأهيل الدولة الخارجة من الحرب. وفيما يخص مكافحة زراعة المواد الممنوعة تقرر أن تتكفل الولاياتالمتحدة تقديم مساعدات ضمن برنامج مكافحة المخدرات في "بلاد المنشأ"، لكن يبدو أن القليل فقط من المساعدات وصل إلى الجهات المختصة، وقد ربطت واشنطن مساعداتها بمجمل المساعدات التي ربطت بدورها بتقدم عملية السلام. ووعدت منظمة الصحة العالمية بتقديم مساعدات و"نصائح زراعية" لإحلال زراعة جديدة محل زراعة الحشيش وإنتاج الأفيون. وفي الواقع وصلت من الولاياتالمتحدة وأوروبا شتلات وبذور لزراعات بديلة. غير أن هذا الحماس خف بعد "مرور الحملة الإعلامية"، وعلى رغم انه ضمن "فورة سعادة الخروج من الحرب تم حرق بعض حقول الحشيشة في البقاع تحت سمع وبصر الإعلام العالمي والمحلي، فإن "النيات الحسنة" بقيت في نطاق الوعود التي لا تُلزم إلا ... من يصدقها! وبالفعل فإن المزارعين في البقاع ومناطق أخرى في لبنان صدقوا هذه الوعود، وأقلعوا عن زراعة الحشيش والتفتوا إلى زراعات بديلة، بانتظار المساعدات التي وُعدوا بها لتعويض النقص بين مردود الحشيشة، ومردود زراعات بسيطة مثل البطاطا. لكن المساعدات لم تصل، وفي غياب نظرة شمولية لسياسة الحكومات ساهم بعض القرارات الحكومية في زيادة حدة أزمة المزارعين الذين استبدلوا زراعة الحشيشة بزراعات أخرى، ومن أبرز هذه القرارات قرار الحكومة اللبنانية عام 1996رفع الرسوم الجمركية عن البطاطا المستوردة ! فكانت النتيجة أنهيار أسعار البطاطا المحلية وإفلاس المزارع البقاعي الذي كان وما زال ينتظر المساعدات الدولية. لقد تراجعت زراعة الحشيش في لبنان في مطلع التسعينيات وحتى أواخرها. ولكن ما لا تقر به المنظمات والجهات المعنية هو أن غياب المعالجة الجذرية لأسباب زراعة الحشيش ستعيد حجم الانتاج الى مئات الأطنان التي كان لبنان ينتجها ويصدرها وتدر ما يعادل مليار دولار حسب إحصاءات منظمة الصحة العالمية. والبرهان هو أنه إلى جانب هذا التباهي بانعدام زراعة الحشيشة في لبنان والذي كان "على الموضة" حتى أيام خلت قبل أن تخرج "فضيحة امكانية شراء الدولة لمحصول الحشيشة" الى العلن، فإن التقارير الشهرية التي يصدرها مكتب مكافحة المخدرات اللبناني تشير الى "مضبوطات" تتقارب أرقامها مع أرقام "سنوات العز" أيام الحرب، ففي عام 2000 ضبط حوالي 39 طناً من الحشيشة و4،2 طن من الهيرويين ونصف طن من الكوكايين. ثم أن الحشيشة التي تتكلم عنها الصحف اللبنانية اليوم لم تنبت فجأة، فهي زرعت منذ أشهر وتم سقيها والاهتمام بها... حتى أينعت. والسؤال أين كانت الدولة؟ ولكن السؤال، مثله مثل الانتاج، موجه الى "دولة القرار" وليس "دولة الإجراء" لأنه يتبين أيضاً أن الجهات المكلفة قمع المخالفات على بينة بكل شاردة وواردة وبكل سنتيمتر مربع تتم زراعته بالحشيشة! وقد جاء على لسان احد كبار المسؤولين المعنيين بالمكافحة أن "لدى مكتب مكافحة المخدرات مسحاً شاملاً لكل قطع الأرض المزروعة وأسماء المزارعين والمستثمرين والعناوين، والكمية المزروعة بأدق تفاصيله للتحرك في الوقت المناسب". ولكن السؤال هو متى يكون الوقت مناسباً، عند الحصاد أم بعد الحصاد؟ وكيف يمكن للحكومة أن تترك حالة كهذه تتطور وتكبر تحت "أعينها الساهرة"؟ لم تتردد الحكومة اللبنانية عام 1998 بإعلان البقاع منطقة عسكرية لقمع حركة مطلبية قادها الشيخ صبحي الطفيلي باسم"ثورة الجياع"، لكن بعد "اختفاء" الشيخ الثائر ماذا فعلت الحكومات المتتالية لمكافحة الفقر والحرمان، السبب الأول لزراعة الممنوعات في المناطق المحرومة؟ ثم أن البعض يتكلم عن قرار الحكومة إتلاف المزروعات الآثمة لكن أسئلة كثيرة تحيط بحزم الحكومة هذا: هل يتم القضاء على كافة الأراضي المزروعة؟ وفي هذه الحال لماذا تم إتلاف فقط 500، 101 متر مربع من الأراضي المزروعة بالحشيش والخشخاش عام 2000 ولم يتم إتلاف كل الأراضي المزروعة بالممنوعات؟ ثم كيف يمكن تفسير زيادة عدد المدمنين في لبنان استناداً الى التوقيفات بتهم الاتجار والتعاطي بالمخدرات؟ وهل توجد علاقة مباشرة لهذه الزيادة بعودة زراعة الحشيشة"؟ يقول مراقب دولي يزور لبنان بين الفترة والأخرى لدرس "واقع الزراعة و المجتمع الريفي" لحساب منظمة عالمية، إن الأخطاء التي رافقت موافقة لبنان في مطلع التسعينات على حسم مسألة زراعة الحشيشة تعود مناصفة على الحكومات اللبنانية وعلى المنظمات العالمية، التي وعدت بشيء ولم تف به. كما أن الوضع آنذاك كان متأثراً بالنظرة الأميركية الاستهلاكية للمخدرات، والتي اقتنعت بها نتيجة فشلها بوقف سيل تهريب المخدرات الذي تصدره دول أميركا اللاتينية. ويعتمد هذا المبدأ على محاربة الانتاج في أراضي الدول المنتجة له عوضاً عن المبدأ الذي كان معتمداً سابقاً والرامي الى تجفيف الأسواق فينعدم الطلب ويختفي الانتاج لعدم وجود سوق له. غير أن تطور المفاهيم الغربية وصعوبة استئصال الإدمان من المجتمعات الغربية خصوصاً في اميركا جعلا من الاسهل توجيه الحرب الى مناطق الانتاج. ثم ان شبح الحرب الافغانية التي كانت تموّل من تجارة المخدرات كان مسيطراً في مطلع التسعينات على المسؤولين عن محاربة المخدرات في العالم. نجاح على رغم الضجيج الإعلامي الذي يرافق محاولة الحكومة "إتلاف محاصيل الحشيشة" والإعلانات المتناقضة للمسؤولين في ما يخص المساحات المزروعة، وتعالي أصوات تطالب ب"شراء" الدولة للحشيشة المنتجة، فإن موقع منظمة الصحة العالمية على شبكة الانترنت في القسم المخصص للمخدرات وقد ترجم كلمة مخدرات في موقع اللغة العربية بكلمة مهذبة تفيد الصحة - وإن لم تكن خطأ - هي عقاقير! وتحت عنوان "التقرير العالمي عن العقاقير لعام 2000" يقول بالحرف: "نجح لبنان في أوائل التسعينات في القضاء على زراعة الخشخاش والأفيون في سهل البقاع". وهذا الخبر هو بتاريخ 15/7/2001 أي في أوج معركة قرار إتلاف الحشيشة. ويمكن الاطلاع على هذا الموقع على العنوان الآتي: www.undcp.org/world-drug-report القانون والمريض من ضمن القوانين اللبنانية التي صدرت بهدف معالجة مختلف أوجه مشكلة المخدرات، صدر العام 1998 قانون المخدرات، و أبرز مواده تلك التي تعتبر المتعاطي مريضاً وتعفيه من المحاكمة في حالة قبوله المعالجة في مراكز مخصصة الى حين تعافيه. وقد يبدو هذا القانون جيداً وشبيهاً بقوانين الدول المتقدمة، ولكن كما يقول بعض المتطوعين في المنظمات الإنسانية العاملة في لبنان لمساعدة "المرضى"، فإن هذا القانون لم يأخذ في الاعتبار غياب "مراكز المعالجة" المتخصصة، ولم يأخذ في الاعتبار الانعكاسات المالية على وضع هؤلاء المرضى، فالذي ينتسب إلى مركز معالجة متخصص، عليه الاستقالة من عمله إن كان يعمل وفي غياب ضمان مالي يعوض عليه ما يفقده من مدخول، وغياب حوافز قانونية تمنع صرفه من عمله بعد هذه الفترة، فإن كثيرين يفضلون "مرض الإدمان" على فقدان وظيفة أو فقدان مدخولهم.