فن الكسل محاربة التقاليع وتذوق سائر الفنون    وزير الطاقة: الربط الكهربائي مع اليونان أثمر عن تأسيس شركة ذات غرض خاص    الريال يتجاوز مايوركا ويضرب موعداً مع برشلونة في نهائي السوبر    أنشيلوتي معجب ب «جماهير الجوهرة» ويستعد لمواجهة برشلونة    «عباقرة التوحد»..    محافظ الطائف يستأنف جولاته ل«السيل والعطيف» ويطّلع على «التنموي والميقات»    أدباء ومثقفون يطالبون بعودة الأندية الأدبية    «سلام» يُخرّج الدفعة السابعة لتأهيل القيادات الشابة للتواصل العالمي    الصداع مؤشر لحالات مرضية متعددة    5 طرق سهلة لحرق دهون البطن في الشتاء    الخروج مع الأصدقاء الطريق نحو عمر أطول وصحة أفضل    وزارة الثقافة تُطلق مسابقة «عدسة وحرفة»    الحمار في السياسة والرياضة؟!    ماذا بعد دورة الخليج؟    عام مليء بالإنجازات الرياضية والاستضافات التاريخية    سوريا بعد الحرب: سبع خطوات نحو السلام والاستقرار    أسرار الجهاز الهضمي    "منزال" يعود بنسخته الجديدة في موسم الدرعية..    جودة القرارات.. سر نجاح المنظمات!    مريم بن لادن تحقق انجازاً تاريخيا وتعبر سباحة من الخبر الى البحرين    لا تحرره عقداً فيؤذيك    «سلمان للإغاثة» يوزّع مواد إغاثية متنوعة في سوريا    الضمان الاجتماعي.. 64 عاماً من التكافل    الصدمة لدى الأطفال.. الأسباب والعلاج    كيف تكسبين زوجك؟!    جانب مظلم للعمل الرقمي يربط الموظف بعمله باستمرار    «متطوعون» لحماية أحياء دمشق من السرقة    «الأوروبي» في 2025.. أمام تحديات وتوترات    حوادث طيران كارثية.. ولا أسباب مؤكدة    العقل والتاريخ في الفكر العربي المعاصر    الألعاب الشعبية.. تراث بنكهة الألفة والترفيه    المقدس البشري    سبب قيام مرتد عن الإسلام بعملية إرهابية    سالم ما سِلم    تموت الأفاعي من سموم العقارب!    نجاح المرأة في قطاع خدمة العملاء يدفع الشركات لتوسيع أقسامها النسائية    إنجازات المملكة 2024م    أفضل الوجبات الصحية في 2025    ثنائية رونالدو وماني تقود النصر للفوز على الأخدود    خادم الحرمين يتلقى رسالة خطية من رئيس السنغال    حقيقة انتقال فينيسيوس جونيور إلى دوري روشن    مركز إكثار وصون النمر العربي في العُلا يحصل على اعتماد دولي    «الجوازات»: اشتراط 30 يوماً كحد أدنى في صلاحية هوية مقيم لإصدار تأشيرة الخروج النهائي    أمانة الشرقية تكشف عن جهودها في زيادة الغطاء النباتي للعام 2024    المرور السعودي: استخدام الجوال يتصدّر مسببات الحوادث المرورية في جازان    مغادرة الطائرة الإغاثية السعودية ال8 لمساعدة الشعب السوري    إطلاق كائنات مهددة بالانقراض في محمية الإمام تركي بن عبدالله    نائب أمير تبوك يطلع على مؤشرات أداء الخدمات الصحية    من أنا ؟ سؤال مجرد    أمير القصيم يتسلم التقرير الختامي لفعالية "أطايب الرس"    ولي العهد عنوان المجد    طالبات من دول العالم يطلعن على جهود مجمع الملك فهد لطباعة المصحف    أمير المدينة يرعى المسابقة القرآنية    مجموعة (لمسة وفاء) تزور بدر العباسي للإطمئنان عليه    أسرتا الربيعان والعقيلي تزفان محمد لعش الزوجية    القيادة تعزي رئيس جمهورية الصين الشعبية في ضحايا الزلزال الذي وقع جنوب غرب بلاده    «الثقافة» تُطلق مسابقة «عدسة وحرفة»    عناية الدولة السعودية واهتمامها بالكِتاب والسُّنَّة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الروس عائدون الى الشرق الأوسط والعالم باستراتيجية جديدة
نشر في الحياة يوم 23 - 07 - 2001

عشية هزيمة "العقوبات الذكية" في مجلس الامن، كان محمد الدوري رئيس البعثة العراقية لدى الامم المتحدة واثقاً سلفاً من النتائج.
قال للصحافيين العرب والأجانب الذين تجمهروا حوله في مكتبه في نيويورك، وهو يرسم ابتسامة سريعة ذات مغزى على وجهه: "السياسة كلها مصالح ولا علاقة لها بالاخلاق. واذا ما اتخذ الفرنسيون و"الآخرون" موقفاً ايجابياً في مجلس الامن، فأنهم بالطبع سيجنون الفوائد. هذه هي السياسة العراقية".
في اليوم التالي، كان التلويح بأول فيتو روسي جدّي منذ نهاية الحرب الباردة قبل عشر سنوات، يرسم على ما يبدو نهاية ايضاً لمشروع "العقوبات الذكية" الاميركي - البريطاني، ويكرّس انتصار السياسة العراقية القائمة على استخدام المال والنفط كسلاح سياسي.
وكما هو معروف، العضلات المالية العراقية بدأت تفعل فعلها القوي منذ ان قفزت عائدات النفط العام الماضي الى 18 مليار دولار، بعدما كانت لا تتجاوز الاربعة مليارات في العام 1997. هذا اضافة الى النفط العراقي المهّرب والذي تتراوح قيمته ما بين مليارين الى ثلاثة مليارات دولار سنوياً.
وعلى سبيل المثال، ووفقا للتقارير السرية للامم المتحدة، وقعّت مصر اتفاقات مع العراق بأكثر من 740 مليون دولار خلال الشهور الستة الاولى من العام 2000، ما حوّلها الى الشريك التجاري الاول لبغداد. تليها دولة الامارات نحو 703 ملايين، ثم سوريا التي تشتري نفطاً عراقياً رخيص الثمن بنحو مليار دولار سنوياً.
هذا بدون ان ننسى بالطبع الاردن، الذي يعتمد اقتصاده بشكل كبير على العلائق التجارية والنفطية مع العراق، جنباً الى جنب مع تركيا المستفيد الاول من انابيب البترول واسواقه ودولاراته المتدفقة من بغداد.
وتقول "فايننشال تايمز" ان سياسة "العضلات المالية" نجحت الى حد بعيد في ربط دول الجوار بعجلة التوجهات العراقية، على الاقل حيال مسألة العقوبات الدولية. كما انها "فرملت" أي فرص كان يمكن ان تبرز لقيام تعاون بين هذه الدول وبين "العقوبات الذكية" الاميركية.
وما انطبق على دول الجوار، سحب نفسه ايضاً على بعض الدول الكبرى.
وهكذا فإن بغداد التي كانت حّولت فرنسا الى اكبر مستفيد في العالم من الاتجار معها قبل اربع سنوات مبيعات سنوية بقيمة 3 مليارات دولار لشركات بيجو ورينو وألكاتيل، استخدمت ضدها أخيراً سلاح النفط والمال وقلصت التجارة معها الى النصف، بسبب انحيازها الى السياسات الاميركية - البريطانية.
اما بالنسبة لروسيا فالصورة تبدو مختلفة. اذ ان موسكو في عهد فلاديمير بوتين، اثبتت انها وعلى عكس مرحلة بوريس يلتسين على استعداد لقرن القول بالفعل في ما يتعلق بالدفاع عن بغداد في المحافل الدولية.
وهذا ما دفع العراق الى فتح كل الابواب امام الشركات الروسية، خصوصاً في مجال تسويق وانتاج الغاز والنفط، والى التلويح باستعداده للوفاء بالديون العسكرية للاتحاد السوفياتي السابق والتي تناهز الثمانية مليارات دولار.
وجاء التهديد الروسي الناجح باستخدام حق النقض الفيتو في مجلس الامن، كتتويج لتحّول موسكو الى الظهير الاول لبغداد في المحافل الدولية.
هذه التطورات الدرامية فتحت هلالين كبيرين حشرت بينهما اسئلة من العيار الثقيل:
هل يمكن ان يؤدي الاغواء المالي العراقي الى اعادة روسيا مجددا الى معادلات موازين القوى في الشرق الاوسط؟.
وهل تكون هذه العودة، جزءاً من المناكفة البوتينية للولايات المتحدة في مجالات "حرب النجوم- 2"، والعلاقات الاستراتيجية مع الصين والغزل الروسي لاوروبا على حساب اميركا ومبيعات الاسلحة الى ايران وباقي دول العالم الثالث".
بكلمة: هل الروس عائدون الى الشرق الاوسط؟.
بداية جزائرية
قبل التطرق الى هذه الاسئلة، لا بد من التذكير ان تحرك "الدب القطبي الروسي" مجدداً باتجاه المياه الشرق - اوسطية الدافئة، بدأ قبل وقت قصير من شهر سلاح الفيتو في مجلس الامن.
والمناسبة هذه المرة لم تكن، كما العادة، أحاديث التعاون العسكري والنووي الروسي- الايراني الذي يثير شتى انواع القلق والتبرم في الولايات المتحدة، ولا التطويرات العسكرية التكنولوجية الروسية - الاسرائيلية التي تطلق شتى انواع الاحتجاجات في الدول العربية، بل احياء ما سمي "الشراكة الاستراتيجية" بين موسكو والجزائر.
أو هذا، على الاقل، كان الوصف الذي أطلقه بوتين على صفقة الاسلحة الضخمة التي وقعها مع الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة، والتي تقدر قيمتها بنحو مليارين ونصف المليار دولار، مضيفا ان هذا "حدث غير مسبوق في العلاقات بين موسكو والدول العربية".
لكن، وعلى رغم ان اتفاق "الشراكة الاستراتيجية" هذا اشار الى ان البلدين سيسعيان الى تحقيق تقارب سياسي، اضافة الى التعاون العسكري، من دون ان يرقى ذلك الى صيغة التحالف، كما نص الاتفاق، الا أنه كان من الواضح أن اضافة السياسة على صك الصفقة العسكرية كانت لزوم ما لا يلزم.
فموسكو ليس لديها في الواقع تقديمات سياسية يمكن ان تهديها الى الجزائر، عدا ربما بعض البيانات البلاغية الموسمية التي تهم هذه الاخيرة، كالصراع على الصحراء الغربية.
ثم أن الجزائر تقيم بالفعل علاقات استراتيجية، وان ضمنية، مع كل من فرنسا والولايات المتحدة، اللتين دعمتا بقوة ولا تزالان الدولة والجيش الجزائريين في صراعهما مع الاصوليين . وبالتالي فهي لا تحتاج الى قوة روسية توازن قوة الغرب في المنطقة.
بالطبع، هذا لا يعني أنه لن يكون للصفقة الروسية - الجزائرية مضاعفات في الشرق الاوسط. اذ هي قد تدشن عودة السلاح الروسي الى الثكنات العسكرية العربية. اضافة الى احتمال اطلاقها سباق تسلح جديداً في المنطقة، في المغرب كما المشرق. وقد سارعت دول مغربية بالفعل الى ابداء قلقها من هذه الصفقة، مشيرة الى انها تفوق بكثير حاجات الامن الداخلي الجزائري. كما ابدت دوائر اسرائيلية قلقها من احتمال عودة بعض اشكال التحالف الروسي - العربي على حسابها. بيد ان هذه ردود فعل مبالغ فيها.
فروسيا القومية العائدة الى المنطقة العربية عبر البوابة الجزائرية، هي غير روسيا السوفياتية كلياً. اذ هي لا تمتلك استراتيجية شرق اوسطية. وحتى لو وضعت مثل هذه الاستراتيجية نظريا، فهي غير قادرة على تمويلها عملياً. هذه نقطة.
وثمة نقطة أخرى لا تقل أهمية، وهي ان موسكو ليست في وارد خوض مواجهات مع الغرب، لا في الشرق الاوسط ولا في اي مكان في العالم. كل ما تريده هو محاولة احياء شيء من هيبتها الدولية الخارجية السابقة، في سبيل تحسين اوضاعها الاقتصادية الداخلية .
بكلمات أوضح: روسيا تعاند اميركا وتناكدها لأنها تريد أن تتاجر وليس العكس. اي انها لا تتاجر كما كانت تفعل خلال عزّها السوفياتي لأنها تريد أن تناكد وتعاند. والسلاح هو السلعة الوحيدة التي تمتلكها لهذا النوع من الاتجار.
ويقول اوسكانا أنتوننكو، مدير المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، انه بعد نهاية الحرب الباردة وانحلال الاتحاد السوفياتي، مر التعاون العسكري الروسي مع الدول الاقليمية الشرق أوسطية بمرحلة انتقالية مهمة ابتعدت عن مبادئ التعاون العسكري السوفياتي السابق.
فمن جهة، لم تعد روسيا في موقع يمكنها من تقديم هبات مالية كبيرة في شكل امدادات اسلحة، في مقابل نفوذ سياسي وهمي.أكثر من ذلك، لم يعد واضحاً في الآونة الاخيرة ما اذا كانت اعادة توكيد النفوذ السياسي في الشرق الاوسط من اولويات السياسة الخارجية والامنية الروسية.
ومن جهة أخرى، لم تعد روسيا مستعدة لممارسة ضبط النفس في ما يتعلق بمبيعات الاسلحة الى المنطقة، طالما ان الترتيبات المالية كانت مواتية للصناعات العسكرية الروسية التي باتت في العقد الاخير معتمدة في بقائها على صادرات السلاح.
وهكذا بات ينظر الى كل مبيعات الاسلحة من زاوية تجارية بحتة، وتنفذها غالباً شركات خاصة روسية. وهذا تجلى بوضوح في برنامج التعاون العسكري الروسي مع ايران الذي استمر برغم الانتقادات الاميركية الشديدة له.
القطاع الخاص
ولعل أهم سمة من سمات المساعدات العسكرية الخارجية الروسية في حقبة ما بعد الحرب الباردة، هي أنها تنفذ بأيدي لاعبين روس من القطاع الخاص يعملون باستقلال عن الدولة الروسية، لا بل هم في بعض الحالات يخرقون السياسات الروسية المعلنة. وأبرز مؤشر على هذا التطور هو قيام الجامعات والمؤسسات الروسية الخاصة بتدريب العلماء الايرانيين الذين يعملون في مجال تكنولوجيا الصواريخ البالستية. وهناك ثمة احتمال ايضاً بأن يكون بعض العلماء الروس قد انتقلوا الى ايران والعراق في مقابل رواتب مغرية ومجزية.
ومعروف أنه منذ الخمسينات أوفد الاتحاد السوفياتي أكثر من 80 ألف مستشار عسكري الى الشرق الاوسط، ودرب نحو 55 ألف ضابط من دول شرق أوسطية عدة في أكاديمياته العسكرية. ووفقاً لمصادر روسية، لم يعد هناك الآن سوى 360 خبيراً عسكرياً روسياً يعملون رسمياً في الشرق الاوسط، و270 ضابطاً من المنطقة يتدربون في الكليات العسكرية الروسية.
فالدول الشرق أوسطية لم تعد مستعدة، كما في السابق، لقبول الاسلحة الروسية ما لم يشمل ذلك الخدمات والتدريبات العالية المستوى. وهي تراهن في ذلك على المنافسة في هذه السوق. وقد ادى هذا الى تراجع قوي لمبيعات الاسلحة الروسية.
يضاف الى ذلك ان تركيز روسيا الشديد على علاقاتها مع الولايات المتحدة واوروبا، وانسحابها المفاجئ من الشرق الاوسط، أفقدها صدقيتها في أوساط حلفائها السابقين، الذين عمدوا الى تنويع استراتيجياتهم الحربية ومشترياتهم من الاسلحة .
وهكذا فإن محاولات روسيا الأولية لاحياء التحالفات السوفياتية السابقة في الشرق الاوسط، جوبهت بشكوك عميقة في كل انحاء المنطقة. هذا اضافة الى ان العديد من الدول، بما في ذلك سورية واليمن وليبيا بعد رفع العقوبات عنها تسعى الى استخدام شراء السلاح للتقارب مع الغرب.
سياسات خارجية
موسكو، اذاً، فقدت منذ العام 1991 اهتمامها القومي بالمنطقة، وباتت سياساتها فيها تفتقد الى استراتيجية ذات أهداف محددة.
وكما يقول أيوجين رومر، وهو باحث اميركي في الشؤون الروسية، فإن معظم علاقات روسيا النشطة في المنطقة، خصوصاً مع ايران واسرائيل، هي الى حد بعيد نتيجة المصالح الايرانية والاسرائيلية في روسيا، بدلاً من ان تكون نتيجة المصالح الاستراتيجية الروسية في هذه الدول. بكلمات اخرى، مختلف السياسات التي انتهجتها روسيا، او تلك التي فرضت عليها، قد اطلقت اشارات متناقضة الى الشرق الاوسط حيال درجة اهتمام موسكو بها.
ويضيف انه يمكن القول بشكل عام ان روسيا تفتقد الاهتمام بالمنطقة. وهذا واضح في النقاشات الاستراتيجية الروسية، وكذلك في العلاقات الثنائية الروسية مع الدول الشرق اوسطية الرئيسة - السعودية، سورية ومصر.
طوال فترة التسعينات، كانت النقاشات الروسية حول السياسة الخارجية تعكس اهتماماً قليلاً بالشرق الاوسط، وتركيزاً على المصالح الروسية مع اوروبا والولايات المتحدة. وباستثناء التجارة المتعلقة بالاسلحة والتعاون النووي مع ايران، لم تحظ المنطقة سوى باهتمام تجاري ضئيل من جانب روسيا.
ان موقع روسيا في الشرق الاوسط هو حصيلة بيئة سياسية جديدة في موسكو، برزت على اثر الاصلاحات الاقتصادية والسياسية في السنوات الاولى من عهد يلتسين. وقد ادى صعود نجم "القبائل البيروقراطية" ورجال الاعمال في اوائل التسعينات الى جعل السياستين المحلية والخارجية الروسية تحت سطوتهم. وقد اثبتت الدولة الروسية الفتية انها غير قادرة على السيطرة على هذه المجموعات الصناعية والاقليمية والبيروقراطية القوية، الامر الذي ترك هذه الاخيرة حرة في انتهاج السياسات التي ترتأيها مناسبة لمصالحها، بغض النظر عن الصالح العام وعن المصالج القومية الروسية.
ونتيجة لذلك شهدت روسيا سياسات خارجية متعددة - في الشرق الاوسط وفي اماكن اخرى - انتهجتها شركات كبرى مثل "غازبروم"، وكيانات بيروقراطية مثل وكالة الطاقة النووية "ميناتوم"، وشركات أخرى لها مصالح خاصة في العالم. وهكذا كان في وسع "غازبروم" ان تنفذ مشاريع في ايران، بغض النظر عن العلاقات الروسية - الاميركية، فيما كان في وسع "ميناتوم" ان تعرض شتى اوجه التعاون مع ايران ودول أخرى، غير عابئة بالامن الروسي أو بالعلاقات مع واشنطن، او بمخاطر إنتشار اسلحة الدمار الشامل.
وهكذا كانت روسيا طوال فترة التسعينات تبدو لا مبالية بالشرق الاوسط، ما لم تكن هناك مصلحة ما للشركات الخاصة. وفي الاحوال النادرة التي تطورت بها علاقات نشطة، فإن هذا نجم عن اهتمام دولة ما بروسيا وليس العكس. وعلى سبيل المثال، سعت اسرائيل ونجحت في اقامة علاقات وثيقة مع روسيا، لأنه يوجد فيها أكبر تجمع للناطقين باللغة الروسية في العالم. والعراق، الذي كان يتطلع الى دعم موسكو لرفع العقوبات الدولية عنه، غازلها ايضا بتصميم ونجاح.
والواقع ان العلاقات الطيبة التي تقيمها موسكو مع اسرائيل والعراق في الوقت ذاته، هي دليل على النوعية العشوائية وقصيرة النظر للسياسة الروسية في الشرق الاوسط. وهذا بدوره يعكس غياب المصالح والاولويات الاستراتيجية في هذه المنطقة، ما يبقي روسيا لاعباً هامشياً في المستقبل المنظور. وهذا يعود الى اقتصادها الهش، وفقر سكانها وتناقصهم ، وتقلص قدراتها العسكرية. كل ذلك يؤكد ان روسيا لن تعود الى الشرق الاوسط قبل عقد من الآن على الاقل. ومع ذلك، فإن اختفاء روسيا من السياسات الشرق أوسطية لا يعني أنها لن تؤثر على شؤون المنطقة، خصوصاً في مجال الصواريخ والاسلحة النووية.
التعاون - التنافس
لقد أجبر الغرب طوال نصف قرن في القرن العشرين على أعادة تعريف سياسته الخارجية في مواجهة حليفه السابق في الحرب العالمية الثانية: الاتحاد السوفياتي. وهكذا خرج ونستون تشرشل بشعار "الجدار الحديدي"، وصّكت واشنطن تعبير "سياسة الاحتواء".
وبعد عقد من الهيمنة الاميركية العالمية على اثر نهاية الحرب الباردة، قادت خلاله الولايات المتحدة النظام العالمي الجديد بطريقة تشبه طريقة الامبريالية السوفياتية السابقة على حد تعبير المحلل الاميركي روبرت مور، بدأت ملامح سياسة خارجية روسية جديدة تتضح بقيادة فلاديمير بوتين. وهذه الملامح تحمل شعارات الحرب الباردة نفسها: أي الجدار الحديدي والاحتواء ولكن بشكل معكوس هذه المرة: فروسيا هي التي تستخدمها الآن وليس اميركا.
لكن هذا لا يعني البتة ان روسيا قررت العودة الى الحرب الباردة. فلا هي قادرة اقتصاديا على ذلك، كما اشرنا في البداية، وليس في الوارد أن تصل الى حد المجابهة الشاملة مع الولايات المتحدة.
الاستراتيجية الجديدة التي يطبقها بوتين الآن ، بدلاً من ذلك، هي مزيج من التنافس والتعاون مع الولايات المتحدة.وهو دشنها بزيارة كوبا،اكثر المواقع السوفياتية السابقة قرباً من الشواطئ الاميركية، ليعلن من هناك انه لا ينوي احياء التحالف الروسي - الكوبي ضد الولايات المتحدة، لكنه لا ينوي ايضاً التخلي عن النفوذ الروسي وعن اصدقاء موسكو.
وقد طبق بوتين النهج ذاته في اوروبا. فهو دعم المشروع الاوروبي لاقامة قوة عسكرية أوروبية مستقلة، وحّرك في الوقت ذاته الصواريخ النووية التكتيكية الروسية الى مدينة كالينغراد المطلة على بحر البلطيق كتحذير من مغبة توسيع الحلف الاطلسي.
وفي الشرق الاوسط، قام بوتين بنسف اتفاق غور - تشيرنوميردين الذي وقعّ العام 1995 وتضمن تعهداً من روسيا بعدم بيع ايران اسلحة متطورة، في مقابل حصولها على مساعدات مالية وتكنولوجية اميركية، لكنه في الوقت ذاته تعهد بالعمل لوقف انتشار اسلحة الدمار الشامل في الشرق الاوسط.
أخيراً، وفي أواخر العام الماضي قامت روسيا بعرض عضلاتها العسكرية خلال قمة "آبيك"، فأرسلت طائرات "سوخوي" لتحلق بشكل غير مرئي على شاشات الرادار فوق حاملة الطائرات الاميركية "كيتي هوك"، مؤكدة بذلك الانباء عن امتلاكها تكنولوجيا "الطائرات الخفية" ستيلث. وفي الوقت ذاته، بثت موسكو اشارات الى واشنطن بأنها مستعدة للوصول الى حل وسط معها بشأن برنامجها للدفاع ضد الصواريخ.
تحدي أميركا
هل تنجح سياسة التعاون - التنافس الروسية هذه في تحقيق أهدافها؟.
يبدو ذلك ممكناً، حتى الآن على الاقل. فروسيا توسع نفوذها على حساب اميركا أو بالاحرى توسع تحديها للزعامة الاميركية في العالم من دون أن توفر لهذه الاخيرة فرصة شن مواجهة شاملة معها.
لكن حبل مثل هذه السياسة قد لا يكون طويلاً. اذ في لحظة ما قد تقرر واشنطن بأنها لم تعد تتحمل "تذاكي" بوتين عليها. وحينها ربما تفتح أبواب جهنم عليه: بدءا من جرّه الى سباق تسلح كارثي بالنسبة له عبر "حرب النجوم"، مروراً بإغراقه في حروب جديدة في اراضي الاتحاد السوفياتي السابق، خصوصاً الحوض الاسلامي الجنوبي الذي يضم 450 مليون نسمة، وانتهاء بالطبع بقطع روابطه مع حبال الحياة المالية الدولية.
واذا ما حدث هذا، سيجد بوتين نفسه مجبراً على التراجع عن جبهات السياسة الخارجية لمعالجة ازمات روسيا الداخلية مجدداً.
ومع ذلك، تستحق سياسة بوتين المغامرة.
لماذا؟
لأن روسيا قد تجد قريباً الكثير من الحلفاء في العالم في لعبة المواجهة مع واشنطن، اذا ما واصلت هذه الاخيرة نهجها الراهن في استعداء الجميع ضدها.
ونحن هنا لا نتحدث عن الصين فحسب، بل ايضاً عن اوروبا التي بدأت تشعر بأنها تسير في علاقاتها مع الادارة الجمهورية الاميركية الجديدة نحو خطوط تماس على مختلف الأصعدة.
وهنا ربما لم يكن المبعوث العراقي محمد الدوري مخطئاً كثيراً. فالسياسات بعد نهاية الحرب الباردة لم تعد مرتبطة لا بالاخلاق ولا بالطبع بالايديولوجيات. المصالح النقية باتت لها الآن اليد العليا.
وبوتين لا يفعل شيئاً الآن سوى الرقص وان بجرأة افتقدها يلتسين على ايقاع هذه المصالح


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.