«هيئة الطرق»: مطبات السرعة على الطرق الرئيسية محظورة    هل اقتربت المواجهة بين روسيا و«الناتو»؟    «قبضة» الخليج إلى النهائي الآسيوي ل«اليد»    الشاعر علي عكور: مؤسف أن يتصدَّر المشهد الأدبي الأقل قيمة !    رواء الجصاني يلتقط سيرة عراقيين من ذاكرة «براغ»    «السقوط المفاجئ»    الدفاع المدني: هطول الأمطار الرعدية على معظم مناطق المملكة    ترمب يستعيد المفهوم الدبلوماسي القديم «السلام من خلال القوة»    مشاعل السعيدان سيدة أعمال تسعى إلى الطموح والتحول الرقمي في القطاع العقاري    أشهرالأشقاء في عام المستديرة    د. عبدالله الشهري: رسالة الأندية لا يجب اختزالها في الرياضة فقط واستضافة المونديال خير دليل    «استخدام النقل العام».. اقتصاد واستدامة    أرصدة مشبوهة !    حلول ذكية لأزمة المواقف    التدمير الممنهج مازال مستمراً.. وصدور مذكرتي توقيف بحق نتنياهو وغالانت    الثقافة البيئية والتنمية المستدامة    عدسة ريم الفيصل تنصت لنا    المخرجة هند الفهاد: رائدة سعودية في عالم السينما    «بازار المنجّمين»؟!    مسجد الفتح.. استحضار دخول البيت العتيق    إجراءات الحدود توتر عمل «شينغن» التنقل الحر    تصرفات تؤخر مشي الطفل يجب الحذر منها    المياه الوطنية: واحة بريدة صاحبة أول بصمة مائية في العالم    ترمب المنتصر الكبير    صرخة طفلة    محافظ عنيزة المكلف يزور الوحدة السكنية الجاهزة    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    البيع على الخارطة.. بين فرص الاستثمار وضمانات الحماية    فعل لا رد فعل    أخضرنا ضلّ الطريق    أشبال أخضر اليد يواجهون تونس في "عربية اليد"    5 مواجهات في دوري ممتاز الطائرة    لتكن لدينا وزارة للكفاءة الحكومية    إنعاش الحياة وإنعاش الموت..!    المؤتمر للتوائم الملتصقة    دوري روشن: الهلال للمحافظة على صدارة الترتيب والاتحاد يترقب بلقاء الفتح    خبر سار للهلال بشأن سالم الدوسري    حالة مطرية على مناطق المملكة اعتباراً من يوم غدٍ الجمعة    رئيس مجلس أمناء جامعة الأمير سلطان يوجه باعتماد الجامعة إجازة شهر رمضان للطلبة للثلاثة الأعوام القادمة    عسير: إحباط تهريب (26) كغم من مادة الحشيش المخدر و (29100) قرص خاضع لتنظيم التداول الطبي    الأمن العام يشارك ضمن معرض وزارة الداخلية احتفاءً باليوم العالمي للطفل    إطلاق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش في السعودية    أمير القصيم يستقبل عدد من أعضاء مجلس الشورى ومنسوبي المؤسسة الخيرية لرعاية الأيتام    مدير عام فرع وزارة الصحة بجازان يستقبل مدير مستشفى القوات المسلحة بالمنطقة    ضيوف الملك: المملكة لم تبخل يوما على المسلمين    سفارة السعودية في باكستان: المملكة تدين الهجوم على نقطة تفتيش مشتركة في مدينة "بانو"    "التعاون الإسلامي" ترحّب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة التعاون معها    «المسيار» والوجبات السريعة    أفراح آل الطلاقي وآل بخيت    رسالة إنسانية    " لعبة الضوء والظل" ب 121 مليون دولار    وزير العدل يبحث مع رئيس" مؤتمر لاهاي" تعزيز التعاون    أمير الحدود الشمالية يفتتح مركز الدعم والإسناد للدفاع المدني بمحافظة طريف    أمير الرياض يرأس اجتماع المحافظين ومسؤولي الإمارة    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    وصول الدفعة الأولى من ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة والزيارة للمدينة المنورة    سموه التقى حاكم ولاية إنديانا الأمريكية.. وزير الدفاع ووزير القوات المسلحة الفرنسية يبحثان آفاق التعاون والمستجدات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



موهبة فلاديمير بوتين الإيرانية : "خلطة" الجيوبوليتيك و"الجودو". أوراق موسكو - طهران المتغيرة واحتمالات الضربة الأميركية
نشر في الحياة يوم 29 - 09 - 2007

لا تقتصر أهمية روسيا من المنظور الإيراني على تمتع موسكو بحق النقض"الفيتو"في مجلس الأمن الدولي فقط، ولا على حقيقة أن روسيا أصبحت منذ التسعينات من القرن المنصرم هي الناقل الأساس للتقنيات الحديثة إلى إيران فحسب، بل ان روسيا هي المورد الأساس للترسانة العسكرية والنووية الإيرانية. وعلى رغم ما يبدو على السطح من تناقض أيديولوجي بين روسيا الاتحادية وريثة الاتحاد السوفياتي المنهار وبين"جمهورية إيران الإسلامية"المؤسسة على نظرية"ولاية الفقيه"، فإن تداخل المصالح الوطنية لكل من طهران وموسكو بسبب خليط من العوامل المختلفة والمتباينة، دفع شراع العلاقات الثنائية بينهما في شكل يبدو متجاوزاً للتباينات العقائدية والعداوات التاريخية. وتبلغ المفارقة ذروتها بملاحظة أن جيش"جمهورية إيران الإسلامية"هو الجيش الوحيد في العالم، خارج حدود الاتحاد السوفياتي السابق، الذي يعتمد إلى حد بعيد في بناء ترسانته وحيازة التقنيات المتطورة على روسيا. ويأتي ذلك على رغم تدهور العلاقات الثنائية بين البلدين في أكثر فترات العصر الحديث، ابتداءً من المواجهات العسكرية بين البلدين في القرن التاسع عشر وما خلّفته من استقطاع روسيا لأراض شاسعة كانت بحوزة إيران في القوقاز، ومروراً بمرحلة الهيمنة الروسية على شمال إيران في بدايات القرن العشرين، ودعم الحركات الانفصالية الكردية والأذربيجانية في إيران خلال الأربعينات من القرن نفسه.
وعلى العكس من حالة الاحتقان المسيطر على علاقات الطرفين خلال فترة الحرب الباردة، بدأت العلاقات تتغير إيجاباً مع قيام الثورة الخمينية عام 1979. والأخيرة وإن خرجت بإيران من عباءة التحالف الأميركي، إلا أنها لم تدخل بها دائرة النفوذ السوفياتي. ثم اتجهت العلاقات الروسية - الإيرانية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي إلى تحسن غير مسبوق في تاريخ البلدين، فتغير شكل منحنى العلاقات الثنائية إلى منحنى صاعد بمرور الوقت. وكان أن تطورت العلاقات بين موسكو وطهران إلى مستوى استثنائي بعد احتلال العراق عام 2003، وبروز إيران كقوة إقليمية طموحة في منطقة تشكل -بفضل احتياطها من الطاقة - إحدى أهم المناطق الجغرافية في الاستراتيجيات العالمية، لذلك تكتسب معرفة العوامل الحاكمة للسياسات الروسية في الموضوع الإيراني أهمية استثنائية، لأنها تقود في النهاية إلى تقدير اتجاهات السياسة الروسية في حال تصاعد المواجهة بين واشنطن وطهران أو في حال توصلهما الى اتفاق.
لم تتغير التصورات الجيوبوليتيكية في الكرملين خلال فترة رئاسة فلاديمير بوتين عن مثيلاتها إبان العصر السوفياتي، والمشترك الأكثر وضوحاً بين العصرين هو معارضة النظام الدولي ذي القطب الواحد. لذلك عادت السياسة الروسية في عصر بوتين لتكون محكومة بالتصورات الجيوبوليتيكية الروسية الكلاسيكية"مع اعتبار أنه لم يعد لدى الكرملين الآن الهامش والقدرات التي امتلكها سابقاً.
سعت روسيا منذ تولي فلاديمير بوتين مقاليد السلطة في موسكو عام 2000 إلى تثبيت"حلفاء استراتيجيين"في مواقع مختلفة كمناطق عازلة، أو"جدران صد"ضد النفوذ الأميركي في العالم. ووفق هذا التصور تكون الصين في شرق آسيا والهند في جنوب آسيا أهم حلفاء موسكو في العالم حالياً، وعلى النسق ذاته، تحتل إيران مكانتها لدى موسكو باعتبارها الشريك الوحيد لروسيا في منطقة الشرق الأوسط والخليج وآسيا الوسطى. وتجد التصورات الجيوبوليتيكية الروسية سياقها الأساس في الصراع الذي تعتبره حتمياً بين"التيلوروكراتيا"، أي القوى البرية، وپ"التالاسوكراتيا"، أي القوى البحرية. جسدت روسيا القيصرية القوى البرية، في حين قادت بريطانيا العظمى القوى البحرية، طوال القرن التاسع عشر وحتى الربع الأول من القرن العشرين. وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية كرست الولايات المتحدة الأميركية نفسها قائدة للمعسكر الغربي بالمعنى السياسي، ولقواه البحرية بالمعنى الجيوبوليتيكي. أما روسيا قائدة القوى البرية فقد تغطت بعباءة الاتحاد السوفياتي لمواجهة القوى البحرية وزعيمتها الولايات المتحدة الأميركية، ليخوض قطبا الجيوبوليتيك الكوني صراع القرن العشرين الذي ربحته القوى البحرية، كما ربحت صراع القرن التاسع عشر من قبله. لكن التصورات الجيوبوليتيكية الروسية تعتقد أن هزيمة القوى البرية لا تعدو أن تكون ظاهرة موقتة"تعود بعدها روسيا إلى أداء رسالتها القارية، تلك التي تأخذ في الحسبان كل العوامل الجيوبوليتيكية التي أغفلتها تجربة روسيا القيصرية والاتحاد السوفياتي السابق، لتحقق في النهاية انتصارها على القوى البحرية.
وحتى تتحقق الأفكار المؤسسة للجيوبوليتيك الروسي الجديد على أرض الواقع، يجب العمل على تكوين موسكو محاور جيوبوليتيكية جديدة، هي: المحور الغربي موسكو ? برلين، والمحور الشرقي موسكو - طوكيو، والمحور الجنوبي موسكو - طهران. ويحقق المحور الجنوبي لروسيا أكبر بلدان العالم من حيث المساحة الخروج إلى المياه الدافئة عبر الخليج العربي، وهو هدف جيوبوليتيكي ظلت موسكو قروناً طويلة تسعى إليه ولا تتمكن من تحقيقه، سواء عبر المحيط الهندي أو مضيقي البوسفور والدردنيل أو حتى عبر جبل طارق. وبعطف ذلك على أقوال الجيوبوليتيكي الروسي البارز ألكسندر دوغين"بالتحالف مع إيران يمكن روسيا أن تصل إلى الهدف الاستراتيجي الذي لم تحصل عليه طوال مئات السنين وهو الخروج إلى المياه الدافئة، وفي مقدور إيران أن تكون الحل لهذه المعضلة الجيوبوليتيكية الكبرى"، يمكننا استنباط الأهمية النظرية لإيران في الجيوبوليتيك الروسي.
التعاون في مجال التسلح
يختلف تقدير مصالح روسيا الاقتصادية في إيران عن تقديرات المصالح المعتمدة على دلالة الأرقام فقط، لأن المصالح الروسية في إيران لا تتعلق في الدرجة الأولى بحجم التجارة الثنائية، بل بهيكليتها ونوعيتها. وإذ بلغ حجم التجارة بين البلدين 2 بليون دولار فقط في عام 2005، فالنظرة المتأنية على نوعية التبادل التجاري بين البلدين لا تكشف فقط أن كفة الميزان التجاري تميل بشدة لمصلحة موسكو، بل أيضاً أن الصادرات الروسية تمثلت في مواد البنية الأساسية لإقامة المشروعات الكبيرة في إيران. يتجلى ذلك في مشروعات ذات قيمة سياسية وإستراتيجية عالية الأهمية من المنظور الإيراني مثل مفاعل بوشهر النووي، ومحطات توليد الطاقة الهيدروكهربائية والمعدّات العسكرية.
وتأتي إيران في المرتبة الثالثة عالمياً من حيث استيراد السلاح الروسي بعد الصين والهند، بحجم يبلغ 400 مليون دولار سنوياً، وعلى رغم عدم ضخامة الرقم لا يمكن إغفال المغزى السياسي لتصدير السلاح الروسي إلى طهران، خصوصاً بملاحظة أن شركة"روسبورون إكسبورت"التي تملكها الدولة الروسية هي الشريك الأساس لطهران في مجال التسلح.
توازن روسيا بين اعتبارات عدة عند تصديرها السلاح إلى إيران، فهي من جانب تقدر الفوائد المتمثلة في العائد الاقتصادي وفي تنشيط المجمع الصناعي - العسكري الروسي ذي النفوذ الواسع في مجلس الدوما والكرملين، وملء الفراغ التسليحي المتحقق في إيران بقطع العلاقات مع واشنطن منذ قيام الثورة. ولكن، على الجانب الآخر، هناك اعتباران يكبحان التوجه الروسي نحو تسليح إيران: الأول يتمثل في التوازنات الدولية التي لا تسمح لها بقلب التوازن العسكري في الشرق الأوسط، والثاني المتجسد في خشية روسيا من أن يرتد سلاحها إلى ظهرها لاعتبارات القرب الجغرافي من إيران. لذلك تحاول روسيا تركيز صادراتها إلى إيران في مجالات أخرى غير التعاون الصاروخي، مثل صادرات السلاح التقليدي العتيق والتعاون في مجالات الأقمار الاصطناعية، والتعاون النووي ضمن ضوابط لا تسمح لإيران بالتقدم كثيراً في هذا المجال، على العكس من كوريا الشمالية والصين.
ويتجلى التأرجح بين الاستجابة لطلبات إيران من السلاح واعتبارات الأمن القومي الروسي في مثال أنظمة الصواريخ من طراز"تور إم واحد"، حيث ورّدت موسكو بداية العام الحالي 30 نظاماً من هذه الصواريخ التي يبلغ مداها 12 كيلومتراً فقط، وتستطيع إصابة أهداف معادية سواء الطائرات أو حتى صواريخ كروز. ويتوقع أن تنشر إيران هذه الصواريخ حول منشآتها النووية لزيادة قدراتها الدفاعية، مع ضمان ألا تطاول تلك الصواريخ الأراضي الروسية. وترجح تقديرات عسكرية غربية أنه على رغم كفاءة أنظمة الصواريخ المذكورة، فإن عددها القليل لن يجعلها تصمد كثيراً أمام هجمات جوية مكثفة. كما زودت موسكو إيران أنظمة صواريخ من طراز"إس 200"مضادة للطائرات ذات المدى البعيد، والتي تفتقر إلى أنظمة التوجيه الحديثة، ولم تنجح إيران حتى الآن في إقناع موسكو ببيعها أنظمة أكثر تقدماً مثل"إس 300"وپ"إس 400"، ناهيك عن أنظمة الصواريخ من طراز"إس إس - 26 إسكندر"التي تستخدمها القوات المسلحة الروسية وتزودها رؤوساً نووية ويبلغ مداها 280 كيلومتراً.
تكشف النظرة المتفحصة على نوعية الصادرات الروسية من السلاح إلى إيران عن أنها عتيقة الطراز على الأغلب، والمثال هنا طائرات"ميغ 29"التي تفتقر إلى تجهيزات التوجيه ضد الأهداف الأرضية. وحتى طائرات"سوخوي 24 إم كي"التي صدّرتها موسكو إلى طهران كانت قليلة العدد، فضلاً عن أنها من طراز يعود إلى سنوات خلت، وهو عامل حاسم في تقدير كفاءة الطائرات الحربية المقاتلة. كما لم تستطع الصادرات الروسية من الدبابات إلى طهران أن تعادل حتى الآن الخسائر التي تكبدتها إيران في حربها مع العراق 1980-1988، والتي خسرت إيران فيها بين 50 و60 في المئة من ترسانتها العسكرية. وبسبب الحصار الأميركي لم تستطع طهران صيانة معدّاتها العسكرية الأميركية والموجودة لديها من زمن الشاه، على رغم أنها حصلت من روسيا على طائرات مقاتلة من طراز"سوخوي إم كي 24"وطراز"ميغ 29 إس"، فضلاً عن طائرات مروحية للنقل ومدرعات ودبابات قتالية وغواصات وأبرمت اتفاقات لتصنيع السلاح في إيران بتوكيل روسي.
وفضلاً عن ذلك وقع البلدان عقداً عام 2006 بقيمة 700 مليون دولار، تقوم موسكو بمقتضاه بتوريد قوارب خفر السواحل إلى طهران وتحديث الطائرات الإيرانية من طرازي"ميغ"وپ"سوخوي 24"فضلاً عن"سوخوي 25"، وهي الطائرات العراقية التي هربت إلى إيران قبل حرب الخليج الثانية 1991. لكن هذا المستوى العالي من التعاون العسكري لم يجعل روسيا تحل محل واشنطن كمورد للسلاح الحديث، بسبب الضغوط الدولية على موسكو في هذا الصدد.
تجسدت الضغوط الدولية على موسكو في اتفاق سري وقّعه رئيس الوزراء الروسي الأسبق تشيرنوميردين ونائب الرئيس الأميركي السابق آل غور عام 1995، وبمقتضى الاتفاق تقلص موسكو من صادرات السلاح إلى طهران مقابل مساعدة واشنطن موسكو في النفاذ إلى السوق العالمي للسلاح، وهو الاتفاق الذي أثار لوبي السلاح الروسي في الدوما. لذلك عادت موسكو وألغت الاتفاق في نهاية عام 2000 بعد تولي بوتين مقاليد الحكم في روسيا، بحجة أن واشنطن لم تلتزم السرية المتفق عليها بمقتضى الاتفاق المذكور. وتزامن الإلغاء الروسي مع الانفتاح الإيراني على العالم إبان رئاسة محمد خاتمي، مما سهل تنفيذ الرغبة الروسية بالتملص من الاتفاق.
وعلى رغم إلغاء اتفاق تشيرنوميردين- آل غور، بلغت واردات إيران من السلاح وقطع الغيار خلال الفترة 2000-2006 ما قيمته 50 مليون دولار سنوياً فقط في المتوسط. وتعاون البلدان في الفترة نفسها في مجال الأقمار الاصطناعية، إذ شيدت روسيا القمر الاصطناعي الإيراني في كراسنويارسك وأومسك، وأطلق إلى الفضاء بصواريخ روسية أيضاً. ومرد ذلك أن هدف إيران الطموح بإرسال أقمار اصطناعية إلى الفضاء قد يخفي هدف تطوير القدرات الصاروخية، التي تراها روسيا خطراً محتملاً عليها.
وتستمر روسيا حفاظاً على علاقاتها مع إيران، في إدامة البرنامج النووي الإيراني عبر تأهيل العلماء النوويين الإيرانيين في معهد كورتشاتوف للطاقة النووية ومقره موسكو، والتقنيين في موقع مفاعل نوفوفوروينش النووي. وإذ تعي موسكو أن المعارف التقنية التي استوعبها العلماء والتقنيون الإيرانيون يمكن استخدامها في الأغراض العسكرية، ولا يمكن مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية أو غيرهم فحصها أو تعقبها كما هي الحال مع أجهزة الطرد المركزي، فإنها تعود وتضبط التعاون التقني مع إيران في شكل لا يمكِّن الأخيرة من المضي أشواطاً واسعة ولا يبقيها واقفة في مكانها في الوقت نفسه.
حسابات روسيا الإيرانية
يمكن ملاحظة اختلافات بين سياسات الاتحاد السوفياتي ووريثته روسيا في الشرق الأوسط، عبر التأمل في التوازنات الدولية الحالية ومقايستها مع التصورات الجيوبوليتيكية الروسية.
تتباين السياسة الروسية الحالية عن سياسة الاتحاد السوفياتي تجاه الشرق الأوسط في ثلاثة محاور رئيسة: الأول أن روسيا لا تريد مقارعة واشنطن في الشرق الأوسط كساحة حروب بالوكالة، لكنها تريد استعادة وبناء سمعتها ومقاسمة واشنطن نفوذها وليس مواجهتها. المحور الثاني يمثله اعتبار القدرات المالية، فروسيا كبائع دائم للسلاح تبيع الآن فقط للدول القادرة على الدفع في المقام الأول مع جرعة أقل من الأيديولوجيا في توجيه صفقات البيع. ويقوم المحور الثالث على حفظ مكان لموسكو في المنطقة للحيلولة دون وصول التنظيمات والشبكات الإرهابية إلى آسيا الوسطى والقوقاز، وبالتالي إلى فضاء روسيا الاستراتيجي.
والنتيجة التي يمكن استخلاصها من استعراض الاختلاف هي أن هذه المحاور الثلاثة تنطبق تماماً على منطلقات السياسة الخارجية الروسية في التعاون الحالي مع إيران. ولأن إيران حاولت بشتى الطرق إيجاد مورد للمواد اللازمة لبرنامجها النووي، ووجدت مساعيها آذاناً صاغية في موسكو، فقد اكتشفت الأخيرة أن توريد المعدّات المطلوبة لا يعود عليها بالنفع المادي فقط، بل يتعدى ذلك إلى حد التأثير في العقيدة العسكرية للقوات المسلحة الإيرانية، ناهيك عن ربط الاحتياجات الإيرانية لسنوات مقبلة بالصادرات الروسية، وليس آخراً إمكانية مساومة روسيا الولايات المتحدة، على وتيرة مساعدتها العسكرية لإيران، بمكاسب في مناطق جغرافية أخرى مثل البلقان وغيرها.
حرصت روسيا دائماً في إدارتها العلاقات مع إيران على الموازنة بين متناقضات مختلفة تؤثر سلباً وإيجاباً في مصالحها مع طهران، والسياسة الروسية حيال إيران كانت ولا تزال محصلة للتوازن بين هذه العوامل المتناقضة.
العامل الأول يشمل اعتبارات التوجه الغربي لروسيا والذي يشدد عليه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وكذلك مسؤولية روسيا كعضو دائم في مجلس الأمن.
والعامل الثاني يتلخص في منع أخطار التهديد المحتمل لروسيا من الجنوب في حال امتلاك إيران القدرات النووية العسكرية، بالترافق مع امتلاك صواريخ بعيدة المدى تستطيع حمل الرؤوس النووية، وفي هذا العامل بالتحديد تتفق المصالح الروسية مع مثيلاتها الأميركية والأوروبية، ولكن درجة تعاون روسيا مع واشنطن في هذا المضمار تبقى محدودة لرغبة موسكو في تقليص النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط من دون مواجهته مباشرة.
ويتمثل العامل الثالث في الحيلولة دون عزل إيران دولياً وتهديد مصالح روسيا الاقتصادية والجيوبوليتيكية فيها، وهنا تظهر التناقضات الروسية - الأميركية.
ولإيجاد حل يحيد الأخطار والتناقضات ويكرس مكاسب روسيا من العلاقات مع إيران في الوقت نفسه، قام بوتين ببلورة الاقتراح الروسي الخاص بتخصيب اليورانيوم على الأراضي الروسية. وبمقتضى الاقتراح تقوم إيران بتحويل اليورانيوم إلى غاز هكسا فلوريد اليورانيوم فقط على الأراضي الإيرانية وفي منشأة أصفهان حصراً، ومن ثم، وعند هذه النقطة، تصدير الغاز إلى روسيا لتخصيبه هناك، أي تمريره في أجهزة الطرد المركزي الروسية.
وتوخى بوتين اعتبار أن إيران إذا استجابت للمقترح فستصبح روسيا بمثابة"شركة قابضة"لطموحات إيران النووية، ومن ثم استحواذ موسكو على الورقة الإيرانية كلها. أما إذا رفضت طهران - وهو ما حدث -، فستعمد موسكو إلى عدم ممانعة مبدأ العقوبات الاقتصادية على طهران ولن تستعمل حق الفيتو في مجلس الأمن وهو ما جرى بالفعل. لكن موافقة موسكو على مبدأ العقوبات لا تعني أنها ستسير مع واشنطن حتى النهاية وصولاً إلى عزل إيران دولياً، حرصاً على مصالحها المتشابكة في إيران.
تغيرت اللهجة الروسية حيال إيران منذ انتخاب أحمدي نجاد الذي يفاقم بتصريحاته النارية التناقضات التي تحكم الحسابات الروسية المتأرجحة بين اعتبار مصالحها في إيران ومخاوفها منها في مقابل مواجهتها للولايات المتحدة الأميركية، والتي لا يمكن ترك التحكم في إيقاعها لتصريحات نجاد وقدراته البلاغية. وتسببت الضغوط الأميركية على بوتين في تعديل ظاهري للسياسة الروسية تجاه إيران، فلم يبق ممكناً لبوتين الاستمرار في السياسة نفسها مع إيران مثلما كانت عليه في فترة حكم الرئيس الإيراني السابق محمد خاتمي.
والمقارنة تكشف الفارق بوضوح بين تصريح بوتين عام 2005"روسيا تساعد إيران تقنياً في ضوء التزاماتها الدولية التي لا يخل بها التعاون الروسي، ولا توجد إثباتات على طابع عسكري لبرنامج إيران النووي"، مع تصريح وزير خارجيته سيرغي لافروف بعد انتخاب نجاد وعودة إيران الى تخصيب اليورانيوم 2006:"غياب الضرورة الفعلية والعملية للمفاعلات النووية الإيرانية وافتقارها الى منطق العائد الاقتصادي يطلقان الشكوك بأن برنامج إيران النووي له أبعاد عسكرية سرية".
لكن تغير اللهجة الروسية حيال إيران لا يعني تغييراً جذرياً لمواقف موسكو، التي تحبذ صراعاً إيرانياً - أميركياً وفق إيقاع تختاره هي. وتجهد روسيا نفسها في المزج بين أهداف واعتبارات يصعب التوفيق بينها، فهي لا تريد إيران نووية على حدودها الجنوبية وتتعاون مع الغرب في ذلك، لكنها تمنع عزلة إيران الدولية وتورّد - في حدود - السلاح إليها.
تمارس روسيا ضغوطاً محتملة على طهران، وتشارك رمزياً في العقوبات، لكنها لا تريد خسارة شريكها الوحيد في المنطقة، ولا خسارة حجم التجارة الكبير المفيد لها في السلاح التقليدي وأبحاث الفضاء والمشروعات الكبرى والنووية السلمية. وتمتنع موسكو عن الانسياق خلف المواقف الأميركية والأوروبية في وصم إيران أو"حزب الله"بالإرهاب، وصولاً إلى الاعتراف بدور إيراني في تقرير مستقبل العراق، وضم إيران كعضو مراقب إلى منظمة شنغهاي ولاحقاً كعضو كامل الصلاحية. وإن كانت روسيا غير راغبة في عزل إيران ولا قطع العلاقات السياسية والعسكرية والعلمية معها، إلا أن قبول إيران بمطالب الغرب - إن حدث - سيمنع موسكو من النظر إليها بصفتها"شريكاً استراتيجياً"، كما يردد السياسيون الروس.
خيارات موسكو النظرية
تستطيع روسيا تخريب الاقتراحات وخلط الأوراق في ما يخص المبادرات الدولية تجاه إيران، إلا أن وضعها الدولي لا يؤهلها لفرض تصوراتها على الأطراف الأخرى. ويتمثل السيناريو الأفضل لتحقيق المصالح الروسية في وضع يد موسكو على الورقة الإيرانية عبر تخصيب اليورانيوم على الأراضي الروسية. أما السيناريو الأسوأ فيتحقق عند حدوث صفقة بين واشنطن وطهران، لأنها ستكون كارثة على المصالح الروسية.
وما بين هذين السيناريوين لا تعدم موسكو إمكانات تأثير واقعية في الملف الإيراني، وتذبذب مواقفها المعلنة حيال إيران هو انعكاس لتطورات الملف النووي الإيراني ومحاولتها التوفيق بين مصالحها الإيرانية والتزاماتها الدولية.
ومع التسليم بصعوبة التوفيق بين أهدافه المتضاربة، يملك الكرملين أيضاً حسابات تفترض تغيراً في الوضع الانتقالي الراهن للحالة الإيرانية"والذي يناسب السياسة الروسية أكثر من غيرها. تراهن روسيا على خيول عدة في السباق الأميركي ? الإيراني، وخياراتها النظرية أكثر تنوعاً مما يعتقد حتى الآن. ويبدو أن موسكو ترجح أن تمتلك إيران في النهاية ? على رغم الضغوط المكثفة عليها - قدرات عسكرية نووية. لذلك تتأرجح موسكو بين الضغط على طهران وتؤجل تشغيل مفاعل بوشهر،
ثم تعود لتبدأ مفاوضات من جديد معها في هذا الخصوص. وتشارك موسكو رمزياً في العقوبات الاقتصادية المفروضة على طهران بموجب القرارين 1737 و1747، لكنها لا تشارك بفعالية حرصاً على مصالحها. وتقود المراهنة الروسية تلك إلى نتيجة فائقة الأهمية وهي أن موسكو تقدر بنسبة ضئيلة إمكان توجيه ضربة عسكرية لإيران وإن كانت لا تستبعدها تماماً، وبالتالي فهي تستطيع التعايش مع إيران نووية لن تستخدم السلاح النووي ضدها. ويأتي تسريب الاستخبارات العسكرية الروسية لموعد مفترض - مطلع نيسان ابريل الماضي - توجه فيه واشنطن ضربة عسكرية ضد إيران، في سياق منع ضربة كهذه في الواقع عبر إحراج واشنطن إعلامياً.
الأرجح أن روسيا تعتقد بعدم فعالية العقوبات الاقتصادية في إجبار النظام الإيراني على الرضوخ، لذلك، ومع استبعاد موسكو ضربات عسكرية ضد إيران وعدم تقديرها فعالية العقوبات الاقتصادية، يعتقد أن السؤال: هل تستطيع إيران امتلاك السلاح النووي، تم بحثه في موسكو في فترات سابقة. ربما يكون السؤال المطروح بجدية الآن في الكرملين هو: متى تمتلك إيران السلاح النووي؟ وإذا لم يتحقق هذا الرهان الروسي، تحتفظ روسيا بأوراق أخرى غير منظورة في الملف الإيراني.
ستستفيد روسيا - يا للمفاجأة! - من حرب أميركية محتملة على إيران، لأنها أولاً ستكون المورد الأساس للطاقة إلى الصين والاتحاد الأوروبي مما يدعم وضعيتها الجيوبوليتيكية في العالم. وثانياً، ستكون روسيا هي الطرف الدولي الأقدر على ملء الفراغ في شمال إيران، منطقة نفوذها التاريخي، في حال سقوط النظام، على غرار ما قامت به إيران في جنوب العراق بعد احتلاله. ثالثاً القوة البديلة المحتملة لتولي زمام الأمور في حالة سقوط النظام هي القوات المسلحة الإيرانية، وهي التي أفلحت 28 عاماً من قطيعتها مع واشنطن في تحويل عقيدتها العسكرية إلى العقيدة الروسية. رابعاً ستصب خسائر إيران وأميركا في مصلحة روسيا، إذ ستعتمد إيران، إذا بقي نظامها بعد الضربة، أكثر فأكثر على موسكو في إعادة بنيتها التحتية ومشروعاتها الأساسية. أما اهتزاز صورة واشنطن المترتب على قيامها بحرب لا تطيح النظام الإيراني، فسيؤدي إلى مكاسب لسمعة موسكو في الشرق الأوسط.
يشتهر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بإجادته رياضة الدفاع عن النفس"الجودو"، وهو حاصل على أعلى مراتبها"الحزام الأسود"، والكتاب الوحيد الذي شارك بوتين في تأليفه كان عن رياضة"الجودو"أيضاً. شرح بوتين ? التلميذ النجيب لمدرسة الجيوبوليتيك الروسية - في كتابه كيف يمكن الرياضي وبأقل مجهود تحقيق أقصى نتيجة ميدانية ضد الخصم. ومن الطرق التي شرحها بوتين باستفاضة حركة يطلق عليها اسم"كوزوشي"، التي تعني إخلاء الطريق في آخر لحظة أمام الخصم المندفع ليسقط أرضاً. ربما يواجه بوتين غريمه بوش على الساحة الإيرانية بالانتظار حتى اللحظة الأخيرة، قبل أن يقوم بحركته المفضلة..."كوزوشي".
* كاتب مصري متخصص في الشؤون الإيرانية والتركية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.