الحيرة بالشعر، من اجل الشعر، أخذت فوزي كريم منذ عقد، حين صرخ عالياً، في سلسلة من المقالات، انه لا يفقه شيئاً من شعر الحداثيين والطليعيين العرب. وكتابه الجديد "ثياب الإمبراطور: الشعر ومرايا الحداثة الخادعة"، الصادر عن "دار المدى"، يمثل استمراراً لتلك الصرخة وتأسيساً نقدياً صبوراً لأسبابها وحججها. فظاهرة الشعر السائد اليوم، تلك التي اهتدى فوزي كريم الى علتها، تضرب بجذورها في تقاليد الشعر العربي المغرقة بتقاليد المدح والهجاء والفخر... على حساب صدق تجربة الشاعر الذاتية. لكنها ايضاً تعكس مشكلة اختلال ثقافي شامل، ناتجة عن التقليد السطحي لآخر موجات الحداثة الغربية. وارتياب فوزي كريم بقيمة الشعر الحداثي العربي هو جزء من ارتياب عام، إزاء جميع اشكال التفكير والكتابة الجديدة المتأثرة بنزعات ما بعد البنيوية. تكمن المشكلة إذاً، في نظر فوزي كريم، في التواصل المقطوع بين القصيدة والقارئ، ما يدعو الى التذكير بسؤال الكتابة الاول: لمَ نكتب؟ وكيف؟ والسؤال يقود الى فضح المشهد الشعري الخادع، المغرق ببلاغة الشعراء وألعابهم اللفظية، وبنواياهم المتصنعة والاستعراضية. بناء على ملاحظة مجردة وساذجة، أو حدس بارع وحكيم. يكتشف الكابت العراقي "عري الإمبراطور"، فيتطوع لمهمة قلب المقاييس الشعرية السائدة، ومخالفة الأحكام والأعراف الذوقية للشعراء ونقادهم. ويسدد اصبع الاتهام الى ظاهرة اللهاث وراء التجديد الشكلي في الشعر، تلك الظاهرة التي تخفي في طياتها خواء موروثاً من الماضي، او سراباً وافداً من حواضر الحداثة والتقدم. هل يمكن للتجديد ان يتحقق وفق نموذج معد مسبقاً؟ واذا جاءت الضرورة تفرض التجديد، فهل يمكن له ألا يكون متناغماً مع لحظته التاريخية الخاصة؟ ويدفعنا الكاتب أبعد من ذلك: شعرنا المحكوم بالتخلف الثقافي والتسلط الاجتماعي والسياسي، كيف ينبغي له ان يتعامل مع الحداثة الوافدة: بمنطق الاستهلاك والتبعية، ام بمنطق الحاجة والتحرر؟ ولحداثة الشعر، برأي فوزي كريم، مدلول زمني بحت لا ينطوي بذاته على قيمة جمالية ايجابية، ولا يؤهل القصيدة لأي امتياز. كما ان الانتساب الى "زمن الحداثة" لا يمنح صاحبه او مدعيه اي افضلية فنية او معرفية، ما دامت القصيدة الجيدة تنبت في كل زمان وتصلح لجميع الازمنة. ووفق معادلة ترسم خطوطاً مستقيمة لحدود الهوية والاختلاف بين الأزمنة والثقافات، يمكن ضم شعراء قدماء الى قائمة الشعراء المعاصرين، كونهم عبروا عن تجاربهم الروحية الخاصة. لا اختلاف إذاً، في نهاية المطاف، بين شاعر يمدح القبيلة وآخر يمدح الأمة او الحاكم، وبين شاعر يفاخر بنسبه وآخر بحزبه السياسي وأيديولوجيته الصحيحة. مذهب شامي وآخر بغدادي ويرسم فوزي كريم هنا خط مواجهة بين تيارين في الشعر العربي. الأول يضم النابغة الذبياني والأعشى والبحتري وأبي تمام والمتنبي الذين صنفهم النقاد ضمن "المذهب الشامي" المعروف بالمغالاة في الجدية والتكلف في المعاني والألفاظ والصياغات. ولئن كان ابو تمام رمز هذا المذهب حيث افضت ثورته التجديدية الى ربط المخيلة بالذهن لا بالعاطفة المشبوبة، فإن المتنبي، كما يعتقد فوزي كريم، مرآة لكل مساوئ المذهب المذكور، لما له من "مخيلة تعنى بالتغريب والإدهاش، قوة لفظية مصوتة ذات أسر خاص، انا متورمة، ونزعة بدوية متفردة... مأخوذة بالجاه والسلطان والقوة، مداحة هجاءة كأسوأ ما يكون المدح الكاذب والهجاء الكاذب..." ص 114. وفي المقابل يعتبر ان شعراء كعمر بن أبي ربيعة وبشار بن برد وأبي نواس وأبي العلاء المعري انتصروا للتجربة الروحية والعاطفة النبيلة، ليخلقوا تياراً هامشياً في ديوان الشعر العربي، عرف ب "المذهب البغدادي". فقد حاول هؤلاء "الإفلات من الطبيعة العربية" التي دمجت عبودية الأغراض التقليدية للشعر بعبودية الألفاظ المجلجلة، وما يلحقها من المحسنات العصبية ص 91. ولم يبحثوا عن الجمال في الصورة والشكل، بل في متاهات النفس وأسرار المعنى وتناقض الاحوال، مقتفين بذلك ومضات الرواد الأوائل لشعر الإلهام والطبع والسليقة. وعلى رغم التباين بين المذهبين الشامي والبغدادي، فإنهما لم يستقلا عن بعضهما تمام الاستقلال، وتشابكت ظلالهما وتجاورت حتى داخل الصوت الشعري الواحد. في سياق الشعر العربي المعاصر، يشير الكتاب الى أن أدونيس والسياب يمثلان هذين المذهبين الشعريين بأجلى صورهما. فالأول نموذج لشعر "الكد والتحكيك والصنعة" الذي يخرج من الذهن لا من الوجدان، وينتج بالمهارة والذكاء لا بالتجربة والمعايشة. لذلك تظهر لغته خالية من المشاعر الشخصية، يقينية ومتعالية على القارئ، مدهشة وساحرة من دون ان تخلف وراءها سوى صدى باهت وإيحاءات مجردة. أدونيس، برأي فوزي كريم، هو أبو تمام العصر، والإضافة التجديدية والحداثية التي اقترنت باسمه هي من علامات الارتداد نحو الموروث الشكلي الذي طبع الشعر والذوق الشعري العربي في كل تاريخه. اما الثاني، اي السياب، فنموذج للشعر النابع من الخبرة الروحية اذ "يكشف عن هوية الانسان الذي وراءه، بصورة تبدو احياناً طبيعية وغريزية" ص 146. شعر السياب يردم الهوة بين الذات والنص، المعنى والصنعة... وحين تناول الموت، أمسك به كفعل معاش من دون وسائط لفظية وتشبيهات. اما حين تناوله ادونيس فقد تحول بين يديه فكرة سحرية لبست قناع المحسوسات بقدرة مخيلة لفظية ماهرة. إن الكتاب يأتي باجتهادات جريئة عن ماهية الشعر وموقع الشاعر. لكن مؤلفه الذي انطلق من مقدمات مقبولة يجمع عليها الشعراء الحداثيون انفسهم، كفرادة تجربة الشاعر وحريته وبحثه المضني في عالم المعنى، انتهى الى نتائج مثيرة للجدل. فهو في تمسكه بأن الشعر تعبير عن اقصى درجات الفردية، صور الشاعر الحقيقي ككائن وحيد وغريب في عالم الجموع والسلطات القامعة والشعارات البراقة والوعود الباذخة. الشاعر عنده أشبه بالقنفذ الذي يتكور على ذاته في لحظة خطر، ليتأمل محن الوجود التي توحده ببقية البشر.