سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
حوار غير منشور مع الشاعر المسكون بهاجس الثورة والموت . قصيدة السياب مطلبية ونازك الملائكة غارقة في الذاتية شكاني نزار إلى صدام وجمهور أدونيس من الصابرين
لم يقيض لهذه المقاطع من الحوار الطويل مع الشاعر عبدالوهاب البياتي ان ترى النور في حياته، فقد كانت جزءاً من مشروع كتاب يضم آراء الشاعر الراحل وسجالاته وخلخلته الدائمة لمعمار القصيدة العربية طوال أكثر من نصف قرن. وكان لا بد من انجاز هذا المشروع الذي كانت حماسة أبي علي له حافزاً لي على لقائه يومياً على جلسات تمتد لساعتين فأكثر في مكانه الأثير في مقهى "الفينيق" غرب العاصمة عمان، حيث كان رواد ذلك المقهى يضبطون ساعاتهم على مجيء البياتي ومغادرته المكان قرب المساء الى مكان آخر لا يبعد عن "الفينيق" أكثر من خمسين متراً. وكيما يغدو المشروع المأمول مثيراً للجدل، شاء أبو علي ان يجيب عن كل الأسئلة التي تخطر في البال، وكانت إجاباته متدفقة وذاكرته متوهجة وخياله جامحاً... ولسانه سليطاً، لكن قلبه ظل على الدوام واسعاً وأبيض. أتهم أدونيس "بتسطيح الحداثة العربية" والسياب ب "النزق الغيور" وبأن نزار قباني "استقوى بالرئيس العراقي صدام حسين عليّ بسبب نقدي المتواصل لقصائده" وسوى ذلك من آراء في الشعر والشعراء مما أكثر من خصومه الذين ظلوا على الرغم من كل شيء يعترفون له بريادته، ويعتبرونه واحداً من أقانيم الحداثة الشعرية في القرن العشرين. وكان "أبو علي" يتمنى في قرارة نفسه ألا ينشر هذا الحوار الطويل إلا بعد رحيله، لكي يكون بمثابة حديث - وصية. أنت ذاهب الى دمشق بعد إقامة في عمان دامت سبع سنوات، ما الذي يغريك بالرحيل؟ - يغريني أن أكون قريباً من وطني، وأن أتنصت الى الأمس الذي ما يزال يدور هناك. من دمشق، كما من عمان أبقى أصغي الى التأوهات وأستمع الى دقات قلوب الأصدقاء والأحبة. وهل المدن في نظرك هي مجرد محطات عابرة في حياة المرء، هل هي جغرافيا فحسب...؟ - بعض المدن لا تعدو ان تكون مدناً صناعية تشبه الكرتون، كالتي بناها السياسيون المحترفون، ولذلك فإن هذه المدن تبقى عُرضة للموت في كل الاحوال. هناك مدن شاخت وصارت الى الموت أقرب منها الى الحياة، وهناك مدن لم تولد بعد، حتى انني شبهت نفسي بأنني كنت أُولد في كل مرة تولد فيها مدينة جديدة. ولكن وأنا الآن أحمل بين يدي ما نيف على السبعين أحدق في المدن، فأرى الزمن قد جار على البشر في كل مكان، وحرمهم من السعادة، وتسلطت على مصير البشرية قوى عمياء جشعة لا تعرف رحمة، فتلوث البيئة وتقتل الفرح. وفي غمرة ذلك لا مندوحة من تراجع البهجة والشعر، رغم الرغبات الحثيثة للبحث عن كواكب أخرى من قبل القوى الدولية العظمى التي تبذل في سبيل ذلك أموالاً خرافية في حين ان ثلاثة أرباع سكان الأرض يعيشون في البؤس والجوع، ويتحولون الى قبائل رحل من جديد، كأنهم يوشكون على الانقراض. يعني ان المدينة انحسرت لصالح قوى الهيمنة والتسلط؟ - ليتها تكون في هذه الحدود، بل هي غدت مقبرة كبيرة في اطار المقبرة الكونية العظمى، والسياج الفاصل بين المقبرتين هو سياج الموت، ولذا تراني كففتُ عن معاينة المدن ذات الجدران الصماء التي لا تجيب، فلجأت الى عالم الانسان الداخلي، والى أطلال المدن التي ماتت، والى الأنهار التي جفت، والآبار التي نضبت لكي أسمع من خلالها أنّات البشر الذين ضاعوا، أو ضُيّعوا. لصوص الثورات أنت هكذا تتشبث بالزائل والمنقرض. أي نبرة يأس وجودية تتملكك؟ - ليس اليأس بالمعنى السوداوي، ولكن يقتضي القول انني لا أعرف الآن أين ولدت، لأن الانسان قد يولد احياناً في ضريح أو في عربة أو في زورق أو في عاصفة. أتذكر دائماً قول المتنبي: "وكل مكان يُنبت العزّ طيب". ولا أتذكر مكاناً ينبت العز، فكل الأماكن، وكل المدن أنبتت الشرور والأمراض والتعاسة والفاقة لملايين البشر، وحرمتهم من نعمة البصيرة والبصر. رصدت شعرك في احدى مراحلك الحياتية لمديح الثورة والعدالة وقد ترافق ذلك مع صداقتك لشعراء عالميين كبار. الآن بعدما تآكلت الثورات وغاب أو يكاد طيف العدالة... ما الذي يتبقى من تلك الاشعار؟ - لم يكن شعري مديحاً للثورات بقدر ما كان مديحاً للبشر الذين أشعلوها، حيث استفدت من عذاباتهم وتنهداتهم وطموحاتهم ووضعتها في خدمة شعري، ولم أفعل العكس، بمعنى لم أنظم قصيدة مناسبة سياسية قط في حياتي تخدم أهدافاً عاجلة أو سريعة أو ظرفية، حاولت دائماً وأبداً الربط بين فكرة الثورة والموت، والثورة والثورة المستمرة، أي انني كنت أؤمن بالثورة المستمرة، ثورة الإبداع في قاع التاريخ، وكنت لا أميل الى السياسيين الذين يزيّفون الثورات ويسرقونها، حتى أنني قلت في قصيدة لي: "ثورة الفقراء يسرقها في كل الأزمان لصوص الثورات". وقد ظهر ان انعكست هذه الظاهرة في ديواني "يوميات سياسي محترف" في نهاية الستينات، بعدما تسبب السياسيون المحترفون بشل الكثير من المشاريع الثورية العربية، وبعدما فشلت الكثير من ثورات العالم التي كانت مرتهنة بمراكز قوى كبرى. وهذا ما كنت أحس به منذ بداية الستينات، كنت أرى الشروخ والبثور والجروح في كل مكان، كما أنني رأيت الكثير من المدن التي سُميت بالفاضلة، واذ هي صورة طبق الأصل عن المدن غير الفاضلة، أو كما قلت في عنوان قصيدة لي "الليل في كل مكان" من ديوان "الذي يأتي ولا يأتي". وفي اعتقادي ان السياسة هي علم المستقبل، وعلم الجدل، وعلم الرؤية القائمة على الحدس الموضوعي الذي يقترب من العلم، ومن دون ذلك فإن الانسان يغرق في الهلوسة والعدمية والتفاهة والإفلاس المادي والروحي. وهل أفدت من علاقتك ببعض الشعراء العالميين في تنمية الشعور الثوري في قصيدتك؟ - ربما، على رغم انني لم أكن أعرف هؤلاء الشعراء سوى بالإسم في بادئ الأمر، حتى انني كنت قد ترجمت لبعضهم قبل معرفتي به مثل بابلونيرودا وناظم حكمت وأراغون، لكنهم فيما بعد احتفوا بي احتفاء كبيراً. وقد ساعدني على معرفتهم الكاتب اللبناني كريم مروة، ثم تجدد لقائي بهم وبسواهم عندما اُنتخبت لتمثيل العراق في مجلس السلم العالمي العام 1958 حيث جاء انتخابي بإجماع القوى الوطنية واليسارية العراقية لتمثيلها في ذلك اللقاء العالمي الذي ضم كبار الشعراء والأدباء والفنانين في العالم: بيكاسو، أراغون، روفائيل ألبرتي، ونيرودا. يقال انك نسبت الى نفسك كتابتك أول قصيدة تفعيلة في الشعر العربي الحديث. هل هذا صحيح؟ - لا أزعم هذا الزعم، فنازك الملائكة هي أول من كتب القصيدة التي تحررت من عروض الخليل، وتبعها السياب بعد فترة زمنية قصيرة، ويمكن ان يوضع اسمي بعدهما. وأذكر أن صديقنا الراحل بلند الحيدري كان يداعبني احياناً ويقول لي: لماذا لا تضع اسمي ولا تورده عندما تُسأل في حواراتك الصحافية عن الشعراء الرواد؟، وكنت أقول له مبتسماً بأنني سأفعل ذلك في أول حوار يجرى معي، وكنا نضحك. وللتاريخ أقول ان بلند اسهم بهذا الشكل أو ذاك في ريادة القصيدة الحديثة، وكان من فرسانها، وبخاصة في سنواته الأولى، وربما تلفت مساهماته أكثر مما تلفت مساهمات نازك بكثير، ولكن النقد لا يشير الى ذلك، ربما لجهل النقاد ولعدم معرفتهم بما كان يدور في تلك السنوات التي يمتد عمرها الى نصف قرن. كما أن أغلب النقاد العرب المعاصرين قد تكون أعمارهم أصغر من نصف قرن، أي أنهم ولدوا بعد ان قامت حركة الشعر الجديد بعشر سنوات. ولكنك رغم اعترافك بريادة الملائكة والسياب تصر على ان مساهمتهما كانت في البداية تاريخية أكثر منها ابداعية... - ليست تاريخية بالمعنى الحرفي، ولكني كنت أعني ان السياب كان مشهوراً آنذاك بقصائده السياسية وأشعاره ذات المنحى الاجتماعي والمطلبي المباشر. ولم يكن معروفاً بوصفه ذا اتجاه حداثي مجدد، في حين لم تستطع نازك الملائكة ان تنتشل ذاتها وقصيدتها من بئر ذاتيتها وأناها الغارقة التي تكاد ان تكون منفصمة الصلة بالآخرين. بدأت والسياب صديقين، ثم انتهيتما خصمين لدودين ما سبب هذا التحول؟ - تصادقت مع السياب منذ تزاملت وإياه في الدراسة العليا، وكان في ذلك الحين يبدي حماسة لقراءة قصائده عليّ، لمعرفة رأيي فيها، وكذلك كان الأمر بالنسبة لي بالرغم من أنني لا أميل الى مثل هذه الطريقة. حيث كنت أعتبر نفسي ناقد نفسي، وكنت أرى أن القراءة تضفي على الشعر احياناً محسنات ليست فيه، ويلعب الصوت دوراً في ذلك، في حين ان قراءة القصيدة بشكل صامت يتيح للمرء النفاذ الى جوهرها، والوصول الى مفاتيح أبوابها. وهل كنت تنتقد قصائد السياب، وكيف كان يتقبل ذلك؟ - كنت أبدي بعض الملاحظات في شأنها، وكان يتقبل ذلك ويشكرني وأحياناً كان يُعاند، ويصر على ان كلمته أو جملته أفضل مما اقترحته عليه، لكنني كنت أكتشف أنه كان يأخذ باقتراحي حين ينشر القصيدة! أما عن سر الخصومة والجفاء بيننا، فيعود الى تهجمه المستمر عليّ وهو تهجم يعزوه البعض الى صعود نجمي، وانحسار الاهتمام به، ولكن ربما أجد مبرراً للسياب، الذي يعد في نظري شاعراً كبيراً، حيث كان محبطاً معزولاً يعاني من المأساة الروحية والجسدية التي كان يعيش في أتونها، وربما قاده ذلك الى الغيرة، وبعض النزق. خصومات رغماً عني ولكن السياب لم يكن الوحيد الذي دخلت معه في السجال وفي الخصومة... - كانت السجالات تفرض عليّ، وكنت أخوضها رغماً عني. فهل لك ان تفسر لي كيف ان شاعراً بحجم نزار قباني أختلف معه في الرأي وانتقد شعره، يذهب فيشكوني لصدام حسين، وهذه الحادثة جرت وأنا لا أزال مقيماً في بغداد، فهل كان يرغب قباني من هذه الوشاية غير الإضرار بي، وتعريضي للأذى؟ وهل كان بينك وبين قباني ما يجعله يُقدِم على هذه الخطوة؟ - سؤالك يبدو كأنه يشكك في صحة كلامي. أنا لا أشكك بقدر ما أستبعد.، - لا يا صديقي، هذه الواقعة حدثت، وأبلغني بها صديق يعمل في رئاسة القصر الجمهوري العراقي وقد سمع شكوى قباني بأذنيه الاثنتين. وماذا كان رد فعل الرئيس؟ - لست أدري، لكن كيد قباني ارتد الى نحره. وماذا فعلت بقباني غير النقد حتى يلجأ الى شكواك للرئيس؟ - أنا ماذا فعلت أم هو ماذا فعل بي، ألا يكفي أنه طبع لي ديواناً في دار النشر التي يمتلكها من دون ان يعطيني فلساً من أتعابي؟! هاجمت الفيتوري مراراً، ووصفت تأثير أدونيس في الحداثة العربية المعاصرة ب"السطحي". فهل كنت مرغماً على ذلك ايضاً؟ - لن أتحدث عن الأول الذي أشبّهه ب".....!". أما الثاني فهو مجدد على طريقة أبي تمام، حيث ان حداثته ليست لها جذور فلسفية أو وجودية، وهي تنطلق من الكلمة الى الكلمة، وتقفز من اللفظ الى اللفظ. ولا تحدّق فيما وراء الكلمات والألفاظ. وليس في الجهد الذي يبذله أدونيس أية معاناة حقيقية، فالحداثة والتجديد ينبعان من المعاناة الروحية والمادية معاً، ويتحرران من شراك الشرط الانساني، ومن براثن الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، والثورة عليه، والانطلاق من الزماني الى اللازماني. والذي يتأمل صديقنا أدونيس يرى انه أبعد ما يكون عن كل هذا، فهو يجلس متأملاً وقارئاً، ويعيد انتاج ما قرأ، وأحياناً بالأسلوب نفسه، أو بعكسه، ولكنه لا يدرك بواطن ما يقرأ، ومعاناة الذين كتبوا ما يقرأ، وهذه حقيقة، وليست نقداً له، ولهذا فإن تأثير أدونيس يكون سطحياً ولفظياً أكثر مما هو تأثير عميق وحقيقي. ولكن لأدونيس حضوره، وله جمهور واسع من القراء والنخبة والمهتمين... - هذا الجمهور هم من الذين ينبهرون به أحياناً، وهم من المدللين أو العابرين، أو الهامشيين الذين لم يعانوا محنة الوجود، والوقوف في وجه التعاسة والموت، ولم يناضلوا في سبيل حياة أفضل، فإما هم متواطئون أو مغفلون. وهل يثير حساسيتك ان يكون محمود درويش أو سواه الشاعر الأول... - لا أؤيد مقولة الشاعر الأول، على رغم ان شعر درويش شعر حي وانساني، ولكن شعر أدونيس يبدو جيداً للقارئ الذي لا يعرف ما هو الشعر. وأنا لا أؤمن بتقسيم الشعراء الى طبقات كما كان يفعل القدماء، فكل شاعر مبدع حقيقي قمة شامخة، وشجرة باسقة في غابة الشعر. وأحمد عبدالمعطي حجازي...؟ - لا أريد أن أتكلم عن هذا الشاعر بالإسم، ولكن لكل شاعر شوطاً يقطعه، وهناك شعراء يقطعون شعرهم في سنواتهم الأولى، وهناك من يظلون يسبحون في بحر الشعر، وبعضهم يظل يبحر ويسافر في الأزمنة، وهذا ليس عيباً، فتاريخ الشعر العربي حافل بنماذج كثيرة، وأنا يهمني ما أنتج الشاعر حتى لو عاش سنة واحدة