بعد انهيار حليفه السوفياتي الاستراتيجي، اعتاد الرئيس الراحل حافظ الأسد خلال لقاءاته مع المسؤولين الفرنسيين على طرح سؤال مثير: "تتحدثون دائماً عن علاقات خاصة مع لبنان وتقولون ان هذه العلاقات ناتجة عن حرصكم على اقامة صلة مميزة مع بلد كان مستعمراً من طرفكم. فلماذا يبدو هذا الحرص مع لبنان وحده. سورية ايضاً كانت خاضعة للاستعمار الفرنسي، فلماذا لا تحرصون على اقامة علاقات مميزة معها؟". كان السؤال يُحدث ارتباكاً في أذهان المعلقين الفرنسيين الذين ينسبون للراحل مزايا استراتيجية ويفسرون عباراته تفسيراً ينطوي على حسابات وأفخاخ ومناورات سياسية بارعة او ما شابه ذلك. الا ان الأسد كان يعني ما يقول، وقد اثبت ذلك في العام 1996 خلال القمة الاولى التي جمعته مع الرئيس الفرنسي جاك شيراك والتي شكلت منعطفاً حقيقياً في العلاقات السورية - الفرنسية، فقد تم الاتفاق على قواعد ثابتة للتعاون بين البلدين في العديد من الملفات، لبنان، العراق، ايران، تركيا، ازمة الشرق الاوسط، العلاقات الثقافية والاصلاحات الاقتصادية. ولم يبق خارج هذه الملفات سوى قضايا التسلح والصناعات الحربية، وهو مجال مرتبط بروسيا والدول السوفياتية السابقة المصنعة للسلاح الشرقي الذي يطغى على التسلح السوري. وإذا كان الرئيس الراحل قد رغب في حينه بشريك استراتيجي دولي يعوضه انهيار حليفه السوفياتي، فإن اختياره فرنسا لم يكن اعتباطياً، فهي الدولة الغربية الوحيدة العضو في مجلس الامن الدولي، والتي تملك سياسة خارجية عربية حقيقية، وهي مؤثرة بقوة في لبنان، وكانت على الدوام، خصوصاً بعد حرب العام 1967، تنتهج سياسة متقاربة مع السياسة العربية في الصراع العربي - الاسرائيلي، فلماذا لا تكون شريكاً لسورية بدلاً من ان تكون خصماً لها؟ ولم تتأخر بوادر الشراكة في الظهور إلى العلن بين الجانبين، فقد اصرت سورية على اشراك عملية "عناقيد الغضب" الاسرائيلية، وفتحت ابوابها امام التعاون الاقتصادي والثقافي مع فرنسا. فبعد القمة المذكورة اشترت سورية طائرات ايرباص لتحديث اسطولها الجوي المدني ووقعت عقداً مع شركة آلستوم لتجديد قاطرات السكك الحديد السورية، وأثمر التعاون في المجال الثقافي عن ارتفاع عدد الطلاب المتخصصين في الجامعات الفرنسية من 100 طالب قبل العام 1996 إلى 3 آلاف طالب اليوم بينهم اكثر من 600 ممنوح يجري اعدادهم ليصبحوا اساتذة في الجامعات السورية المختلفة. وصارت سورية تضم مراكز ثقافية فرنسية عدة من بينها المركز الفرنسي للدراسات العربية في دمشق والمركز الفرنسي للاركيولوجيا في الشرق الاوسط والمركز التربوي الفرنسي لاعداد الاساتذة والمدرسين السوريين والمركز الثقافي الفرنسي فضلاً عن مدرستين فرنسيتين في دمشق وحلب ومدرسة ثالثة قيد الاعداد في العاصمة السورية. ويستعجل السوريون مساعدة الفرنسيين في تطبيق مبدأ الزامية تدريس اللغة الفرنسية ابتداء من الصف الرابع الاعدادي. وفي السياق نفسه يقوم التلفزيون الفرنسي الرسمي بإعداد وتأهيل كوادر سورية وتشرف وكالة الصحافة الفرنسية على اعداد وتأهيل كوادر في وكالة "سانا" الرسمية للانباء. وقد اتسعت العلاقات في هذا المجال لتشمل توأمة المدن، فقد زار مصطفى ميرو محافظ حلب رئيس الوزراء الحالي مدينة ليون عام 1999 ووقع مع رئيس بلديتها ريمون بار اتفاق توأمة حلب وليون، الأمر الذي استدرج زيارة بار لحلب في الخريف الماضي. وفي اطار الرهان السوري على شراكة استراتيجية مع فرنسا، بادرت دمشق إلى الاستعانة بالخبرات الفرنسية في الاصلاح الاداري والمصرفي، حيث يساهم خبير من مصرف فرنسا الوطني في وضع خطط اصلاح القطاع المصرفي السوري. وتقوم مدرسة الادارة الوطنية ENA بمساعدة السوريين في قضايا الاصلاح الاداري واعداد الكوادر اللازمة في هذا المجال. ولوضع هذه المشاركة الفرنسية في اطار منهجي شكل الطرفان منذ قمة العام 1996 اللجنة الفرنسية - السورية المشتركة للتعاون الثقافي والعلمي والتقني التي تشرف على برامج التعاون في المجالات المذكورة، وعقدت هذه اللجنة اجتماعاً تمهيدياً لزيارة الرئيس بشار الأسد لباريس في 27 نيسان ابريل الماضي ووقعت اتفاقاً شاملاً ينتظر ان يعمق عبر برتوكولات يوقعها الطرفان خلال الزيارة. وبموازاة الشراكة الثنائية الاستراتيجية التي تطمح سورية إلى بلوغها، والتي تمثلت باندفاعة كبيرة في التبادل التجاري تجاوزت 5 مليارات فرنك 800 مليون دولار في العام 1999، وبدخول شركة "توتال فينا" مجال الانتاج النفطي واشراك فرنسا في عروض استثمارات الغاز والمعادن والتنقيب عن الآثار وغيرها، تسعى دمشق للافادة من وزن فرنسا في الاتحاد الاوروبي لمساندتها في مفاوضات تخوضها منذ سنوات مع بروكسيل لعقد اتفاق شراكة مع السوق المشتركة، ما يفصح عن عمق الرهان السوري على فرنسا. والراجح ان باريس تبادل دمشق الرهانات نفسها، فهي تدرك أهميتها كلاعب حاسم في ازمة الشرق الاوسط وكطرف شديد التأثير في لبنان، وكطرف مهم في الملف العراقي وكحليف قوي لايران وكطرف اساسي سيكون على حدود الاتحاد الاوروبي مباشرة عندما تنخرط تركيا في هذا الاتحاد ناهيك عن التأثير السوري الاساسي في العالم العربي. وانطلاقاً من هذا التقدير الفرنسي لأهمية سورية، اتخذت فرنسا مواقف متطابقة مع الرغبات السورية في الشأن الداخلي السوري، ففي تشرين الثاني نوفمبر عام 1999 استقبل الرئيس شيراك بشار الأسد في قصر الإليزيه وكان لا يزال مرشحاً لخلافة والده، الأمر الذي فسر في حينه بأنه مباركة فرنسية صريحة لخيار رئاسي سوري. وكان شيراك الزعيم الغربي الأبرز والوحيد خلال تشييع الرئيس الراحل حافظ الأسد في حزيران يونيو عام 2000 على رغم الحملات التي تعرض لها داخلياً بسبب تلك الزيارة والتي شكلت دعماً للرئيس الجديد الذي لم يكن قد تسلم منصبه رسمياً بعد، اضف إلى ذلك ان شيراك كان الزعيم الغربي الاول الذي بارك انتخاب بشار الاسد غداة ادائه القسم الدستوري. وفي هذا السياق من العلاقات ذات المنحى الاستراتيجي، تتم اليوم زيارة الرئيس بشار لباريس والتي يرافقه خلالها وفد رسمي كبير معني بالملفات المذكورة، فبالإضافة إلى نائب الرئيس عبدالحليم خدام، يرافق الأسد وزير الخارجية فاروق الشرع ووزير الاقتصاد محمد العمادي ووزير التعليم العالي ومسؤولة اوروبا في الخارجية السورية صبا ناصر فضلاً عن وفد اعلامي ووفد من رجال الأعمال. وترى مصادر مطلعة في باريس ان السلطات السورية اتخذت عدداً من الاجراءات التمهيدية البارزة لضمان اتمام الزيارة في ظروف مثالية، فقد اعادت سورية نشر قواتها في لبنان عشية الزيارة، ولعل الموقف الاكبر بروزاً تمثل في استجابة الرئيس السوري لمساع فرنسية قام بها وزير الخارجية هوبير فيدرين غداة القصف الاسرائيلي للرادار السوري في لبنان وتجنب التصعيد، ولعلها نصحت حلفاءها في لبنان بممارسة ضبط النفس، الأمر الذي اثار ارتياحاً فرنسيا ملحوظاً. وفي هذا السياق نفسه يلاحظ ان سورية شاركت في القمة الفرنكوفونية في بيروت والتي تعقد بمباركة سورية، وللمرة الأولى في العالم العربي الذي يضم تيارات مناهضة للفرنكوفونية، ناهيك عن استقبال الرئيس الأسد اخيراً شخصيات لبنانية بارزة كالرئيس رفيق الحريري والزعيم الدرزي وليد جنبلاط اللذين يتمتعان بعلاقات متينة مع بعض الجهات الفرنسية النافذة، في حين ان الاوساط الكاثوليكية والمسيحية الفرنسية عبرت عن ارتياحها لزيارة البابا يوحنا بولس الثاني لدمشق، الأمر الذي ساهم في إحداث صدمة ايجابية لربما ساهمت في ضمان استقبال ايجابي للرئيس السوري لدى الرأي العام الفرنسي. وتلاحظ مصادر مطلعة في باريس ان الخارجية السورية اتخذت اخيراً مواقف ايجابية من ملفات عدة ستترك تأثيراً ايجابياً على القمة الفرنسية - السورية. فدمشق عدلت موقفها المتشدد من تقرير ميتشل، وغيرت نظرتها السلبية تجاه المبادرة الاردنية - المصرية واعتبرت ان الهدف الاساسي هو تطبيق قرارات مجلس الامن الدولي حول النزاع العربي - الاسرائيلي واعتماد مرجعية مدريد وان المبادرة لا تتعارض مع ذلك. ولعل سورية تدرك ان فرنسا تنظر بارتياح إلى الانفراج في العلاقات السورية مع الرئيس ياسر عرفات. خلاصة القول ان القمة السورية - الفرنسية تتم في اجواء انفراجية بعيداً عن الضغط الذي كانت تتعرض له سورية في مجالات حقوق الانسان وفي الملف اللبناني وقضية الشرق الاوسط، الأمر الذي يساهم في انجاح القمة. فعلى رغم الحملة التي قامت بها شخصيات يهودية مؤيدة لاسرائيل وحاولت خلالها الحديث عن محاكمة سورية بموازاة الحملة المتصاعدة لمحاكمة شارون في بروكسيل بسبب مجزرة صبرا وشاتيلا، يلاحظ ان الأصداء المناهضة لزيارة الأسد لباريس ظلت محدودة وانحصرت بالحديث عن عداء الرئيس السوري للسامية، الأمر الذي لم يستدرج مؤيدين وأصواتاً بارزة، خصوصاً بعد التوضيح لما أراد الاسد قوله في تصريحاته اثناء زيارة البابا لدمشق، وفي ظل سياسة القمع الاسرائيلية في الاراضي المحتلة، وإزاء الانفراج في الملف اللبناني وفي العلاقات السورية - الفرنسية. وتفيد المصادر نفسها ان القمة الفرنسية - السورية ستؤدي إلى توقيع عدد من الاتفاقات في المجال الاقتصادي والى توقيع بروتوكولات في المجال الثقافي والتقني والى تكثيف التعاون في مجالات الاصلاح الاداري والمصرفي والى تنظيم واسع للمشاركة الفرنسية في كافة المجالات الاصلاحية السورية. أما في الميدان السياسي فستشكل القمة مناسبة للتأكيد على توافق الطرفين على الخيار الاستراتيجي للسلام ومرجعية مدريد الأرض مقابل السلام والقرارات الدولية الخاصة بالصراع العربي - الاسرائيلي. وفي رفع الحصار عن العراق، وفي دعم لبنان في مواجهة اسرائيل، في حين سيحتفظ كل طرف بموقفه حيال ارسال الجيش اللبناني إلى الحدود مع الدولة العبرية مع التشديد على التزام التهدئة وعدم اللجوء إلى التصعيد، وعلى دعم مشروع الشراكة الأوروبية - السورية، ناهيك عن توقيع عدد من البروتوكولات مع غرف التجارة والصناعة، والتعاون الجامعي فضلاً عن تشجيع رجال الاعمال الفرنسيين للاستثمار في سورية من خلال اللقاء مع جمعيتهم. قصارى القول ان اختيار الرئيس بشار لفرنسا في اول زيارة رسمية يقوم بها إلى خارج العالم العربي زيارته لاسبانيا كانت من اجل تدشين معرض الاندلس ينطوي على تصميم سوري على تثبيت الشراكة الاستراتيجية مع دولة تصبح شيئاً فشيئاً بديلاً عن الخسارة السورية للحليف السوفياتي، وفي المقابل تراهن على لاعب اساسي في الملفات اللبنانيةوالعراقية والشرق أوسطية.