في 27 تشرين الثاني نوفمبر 1984 كان الرئيس الراحل فرانسوا ميتران يمضي ليلته الثانية في دمشق خلال زيارة رسمية هي الاولى لرئيس فرنسي الى هذا البلد منذ استقلاله. في تلك الليلة وبعد حوار دام ساعات طويلة بين الرئيس حافظ الأسد وضيفه، روى شاهد عيان ان الرئيس السوري خاطب ميتران بهذه العبارات: أريد ان اقول لك اننا لسنا مسؤولين عن بعض حالات سوء التفاهم التي حصلت في الماضي. أشياء كثيرة قيلت عن سورية في هذا المجال، لكنها خاطئة، ولو كانت بالفعل صحيحة، لكنت رددتها الآن على مسمعك لأننا نبدأ عهداً جديداً في علاقاتنا. لكنني أقول لك ان ما قيل ليس صحيحاً. وردّ ميتران على كلام الأسد الودي بعبارة مقتضبة قائلاً: "طرحت على نفسي بالفعل هذا السؤال عن مسؤولية سورية عن بعض الاشياء، قبل ان آتي الى بلدكم، وجمعت معلومات عن الموضوع، والجواب على ذلك كله هو أنني جئت لأراكم هنا". وفي ختام حوار طويل بدا ان الرجلين لا يرغبان بفتح ملفات الماضي الشائكة بل يريدان التطلّع نحو المستقبل، خصوصاً ان فرنسا كانت تعيش في ذلك الحين كابوساً يوميا، من جراء اختطاف عدد من مواطنيها في بيروت وكانت تخشى من تطورات الحرب الايرانية - العراقية وما يمكن ان تتركه من آثار سلبية على التوازن في الشرق الاوسط، وكانت تدرك ان دمشق لاعب اساسي في هذين الملفين وفي ملفات اخرى وان الطريق الى كل هذه الملفات يمر في العاصمة السورية. من جهتها كانت سورية تعرف ان فرنسا شريك دولي لا يمكن الاستغناء عنه، وان رئيسها صديق لاسرائيل، لكنه لا يقود سياسة بلاده الخارجية وفق عواطفه تجاه الدولة العبرية، وانه اشتراكي براغماتي تماماً، كنظيره السوري. صفحة دامية في ذلك اللقاء طوى الأسد وميتران صفحة دامية في علاقاتهما، كانت باريس قد سطّرت فيها اتهامات لسورية، فاعتبرتها مسؤولة عن اغتيال السفير الفرنسي في بيروت لوي دو لامار ايلول/ سبتمبر 1981 وعن متفجرة شارع ماربوف 22 نيسان/ ابريل 1982 وطردت على أثر الملحق الثقافي السوري في باريس ميخائيل كاسوحة ومن ثم الملحق العسكري حسن علي. وكانت تعتبر ان دمشق حليفة اساسية للعقيد معمر القذافي الذي يخوض حرباً ضد الفرنسيين وحليفهم التشادي حسين حبري وحليفة اساسية لايران التي تشترك في حرب طاحنة ضد العراق صديق فرنسا الاساسي في الخليج حينذاك. وكانت خصماً عنيداً للأردن الذي يحظى بعطف فرنسي ولمنظمة التحرير التي انقذت قادتها بوارج حربية فرنسية من طرابلس 1983 خوفاً من ان تُطبق عليها قوات سورية - فلسطينية …الخ. وبعبارة اخرى لم يكن لقاء الرئيسين لقاء بروتوكولياً فالمواضيع الجوهرية التي استغرقته كانت شاملة لكل عناصر الاختلاف. واتفق البلدان على مقاربتها بطريقة ايجابية، وهو أمر سيتضح لاحقاً وسينعكس على المبادلات الاقتصادية والثقافية 2 مليار فرنك صادرات فرنسية لسورية 1984 - 1985. تدشين المركز الثقافي الفرنسي في دمشق 1983 وهو واحد من اهم ثلاثة مراكز ثقافية فرنسية في الشرق الاوسط، وتدشين المركز الثقافي السوري في باريس …الخ. واذا كانت محطة العام 1984 فاصلة في علاقات البلدين، فقد سبقتها محطة اخرى لا تقل اهمية، ففي 19 حزيران يونيو عام 1976 استقبل الرئيس الفرنسي السابق فاليري جيسكار ديستان الاسد، اول رئيس سوري يزور فرنسا منذ استقلال بلاده عنها، وبدا حينذاك ان سورية التي ارسلت الى لبنان في 1 حزيران يونيو 1976 اكثر من 30 ألف جندي في اطار "قوات الردع العربية" أثارت حليفها السوفياتي الذي رفض مثل هذه المبادرة واعتبرها ضربة لمنظمة التحرير الفلسطينية واليسار اللبناني، فجاء ردّ الأسد صاعقاً، عندما كسر للمرة الاولى حاجزاً نفسياً مهماً في الايديولوجية الرسمية السورية، وزار باريس، التي كانت تُعتبر في وسائل الدعاية السورية مسؤولة عن "خلق" لبنان وعن تقسيم بلاد الشام وحليفاً لكل خصومها وأعدائها في المنطقة. محاور متفهم ومن هذه المحطة ايضاً، ذاب قسم كبير من الجليد الذي كان يفصل بين البلدين وصارت دمشق محاوراً اساسياً لفرنسا في الشرق الاوسط، خصوصاً في لبنان، وباريس عاصمة يمكن ان تجد سورية فيها محاورين يتفهمون دورها ويساعدونها في حفظ مسافة معينة مع الحليف السوفياتي "الذي لا بد منه في صراعنا مع اسرائيل"، حسب عبارة رددها الاسد مراراً في لقاءاته مع الفرنسيين قبل انهيار المنظومة الاشتراكية. غير ان علاقات البلدين كانت سرعان ما تنحدر بعد تدخل معطيات جديدة الا انها ظلت محكومة بالطابع البراغماتي لقيادة البلدين. فبعد شهور العسل الطويلة التي استمرت خلال العامين 1984 - 1985 شهدت باريس حدثاً داخلياً هو الاول من نوعه، فقد فشل اليسار في الفوز بغالبية برلمانية في انتخابات نيسان ابريل 1986 واضطر الرئيس الاشتراكي ميتران للتعايش مع حكومة يمينية برئاسة جاك شيراك، ونشأ من هذا الصراع الداخلي الفرنسي، تسابق على "استغلال" قضية الرهائن الفرنسيين في لبنان لأغراض داخلية. ومن هذا التناقض اندلعت خلافات خارجية تزامنت مع تصاعد خطير في الحرب العراقية - الايرانية حيث عملت باريس بقوة على الحؤول دون انتصار طهران في هذه الحرب، وفي موازاة ذلك، اندلعت عمليات ارهابية في العاصمة الفرنسية، حملت بعض الجهات والاجهزة المحلية على الزجّ باسم سورية فيها واعتبار ان دمشق هي التي تحرّك جورج ابراهيم عبدالله و"شبكته" التي نسبت اليها تفجيرات ذلك العام، الامر الذي دفع بسورية الى قطع الطريق على هذه المحاولات، بعرضها التعاون بين اجهزة الامن السورية والفرنسية في هذه القضية، سيتبين لاحقاً ان المسؤولين عن التفجيرات يتأثرون بطهران وتطلب الامر شهوراً طويلة لمواجهة الانحدار في علاقات البلدين الذي وصل في العام 1987 الى نقطة خطيرة ادت الى هبوط المبادلات الاقتصادية بنسبة 45 في المئة. ولعل التطور الابرز في علاقات البلدين بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، يتصل بحرب الخليج الثانية، حيث اشترك الطرفان في التحالف الدولي لمواجهة الغزو العراقي للكويت، وتزامن ذلك مع انهيار حكومة الجنرال اللبناني ميشال عون ولجوئه الى فرنسا، وبالتالي تحوّل سورية الى لاعبٍ وحيد في لبنان. السقف الأميركي والراهن ان الرئيس الأسد يدشّن في زيارته لباريس محطة جديدة في العلاقات السورية - الفرنسية. فمن جهة غاب الاتحاد السوفاتي وباتت سورية بلا شريك دولي استراتيجي، ومن الصعب ان تجد في موازين القوى الدولية الراهنة شريكاً افضل من فرنسا. فالولاياتالمتحدة حليفة كاملة لاسرائيل، وتصوغ سياستها الخارجية وفق المصالح الاسرائيلية. وبريطانيا معروفة باندراجها في السياسة الخارجية الاميركية او على اطرافها في افضل الحالات. اما روسيا فهي منحسرة نحو اوضاعها الداخلية وغير قادرة على وراثة الدور الكامل الذي كان يلعبه الاتحاد السوفياتي من قبل في حين ان للصين اهتمامات اساسية محصورة في شبه القارة الهندية وهي بعيدة عموماً عن قضايا الشرق الاوسط اليومية. وتدرك سورية ان باريس لم تغب عن هذه المنطقة منذ الملك فرانسوا الاول وتملك خبرة كبيرة في التعامل مع قضاياها ما يعني انها المرشح الوحيد القادر على لعب دور مهم في الشرق الاوسط كما انها تدرك ان هذا الدور لا يمكن ان يخترق السقف الاعلى للمصالح الاميركية لكنه في المقابل يتيح هامشاً كبيراً للمناورة تحتاجه سورية بقوة في ظل المعطيات السياسية الراهنة وتصرّ فرنسا على ممارسته لحماية مصالحها الخاصة التي لا تتقاطع دائماً مع المصالح الاميركية. ويتيح هذا التصور فهم المساعي السورية لتلبية الرغبة الفرنسية في احتلال موقع اساسي في لجنة "تفاهم نيسان" عام 1996 ويتيح ايضاً فهم الترحيب السوري الاستثنائي بزيارة جاك شيراك الى دمشق وزياراته الثلاث الى بيروت، ولعل الاتصالات السورية - الفرنسية الكثيفة والدورية حول ازمة الشرق الاوسط والاتصالات اللبنانية - الفرنسية التي لا تخرج عنها، تتيح كلها الاستناد الى لاعب دولي مهم يمكن ان يكبح جماح مغامرات اسرائيلية عسكرية وسياسية محتملة في جنوبلبنان. الملف العربي وعلى الصعيد العربي غابت الملفات التي كانت تؤرق علاقات البلدين، او اصبحت خارجها، فالملف الفلسطيني اصبح في عهدة الولاياتالمتحدة حصراً، ومعه الملف الاردني، وعليه لم تعد سورية وفرنسا، قادرتين على التدخل في هذين الملفين بصورة حاسمة. وفي السياق نفسه، جاء التحسّن الملحوظ في العلاقات السورية - العراقية، ليصبّ الماء في طاحونة الفرنسيين الذين يعتقدون بأن التوازن السوري - العراقي يحفز مصر على العودة بقوة الى المنطقة ويكبح انحسارها نحو وادي النيل. وهنا ايضاً يمكن للملف العراقي ان يشكّل حقلاً اساسياً لنشاط مشترك فرنسي - سوري. اما الملف الليبي فقد استقر في صيغة اتفاق غير معلن بين باريسوطرابلس يقضي بمحاكمة الليبيين المتهمين بقضية "يوتا" غيابياً وتعهد ليبيا بدفع تعويضات لذوي ضحايا الطائرة وبذلك تخرج فرنسا من هذه القضية. ويبقى الملف اللبناني نموذجاً للتعاون السوري - الفرنسي حيث استطاع الطرفان الاتفاق على ثوابت مشتركة تطال القضايا الداخلية اللبنانية كما تطال قضية الصراع مع اسرائيل وضبطه في حدود القرارات الدولية. وقد استثنى البلدان اللاعبين السياسيين اللبنانيين الذين يتطلعون الى ادوار خارج الثوابت المذكورة، ما يعني ان المعارضة اللبنانية في الخارج والمتمركزة اساساً في فرنسا، باتت مضطرة للاقتراب من هذه المعادلة والانتظام في فرضيتها الفرنسية الضمنية والمؤجلة الى الولاياتالمتحدة الاميركية وبالتالي الخروج على ارادة لاعبين حاسمين في المصير اللبناني. وفي السياق نفسه اكتشف الفرنسيون من خلال نتائج الانتخابات البلدية الاخيرة معنى مطالبتهم غير العلنية بهذا النوع من الانتخابات، وحجم المعارضين والموالين فيها، والأثر الذي يمكن ان تتركه على تمثيل الطوائف، ورغم مباركتهم لها فإنهم باتوا اقرب الى التصور السوري الذي ينحو الى التحذير من اختلالات خطيرة في التوازن وترسيخ هذه الاختلالات. وعلى الصعيد الاقليمي تتزامن زيارة الاسد مع تطورات اساسية تشهدها طهران، الحليف الاقليمي والشريك الاستراتيجي الآخر لسورية، فهذه التطورات المتجهة نحو انفراج في العلاقات الايرانية - الاميركية اذا ما انتصر فيها الرئيس محمد خاتمي ستكون لها انعكاسات مباشرة على لبنان وعلى الصراع مع اسرائيل، ولا تتمنى دمشق، بأية حال من الاحوال، ان تجد نفسها مضطرة لمواجهة آثار الانفراج الاميركي - الايراني قبل الانسحاب الاسرائيلي من الجولان وجنوبلبنان، لكنها في المقابل تسعى للمشاركة مع فرنسا في لعبة القوى الايرانية ومحاولة التأثير في مجرياتها. حقوق الانسان أما القضايا الاخرى والملفات التي تحتل مرتبة ثانية في علاقات البلدين، فقد حضر بعضها وغاب البعض الآخر، فالخلافات على الديون السورية والمتأخرات المالية غابت منذ بعض الوقت، وكما غابت ايضاً قضية النازي الويس برونيير، واتخذت سورية مبادرة مهمة في ملف حقوق الانسان حيث تم الافراج عن سجناء سياسيين وفتحت الابواب امام عودة المعارضين من الخارج، وسمح بإدخال مئات المطبوعات العربية والاجنبية. ومن جهة ثانية غابت قضية الدكتور رفعت الاسد الذي زار باريس اخيراً وعاد الى دمشق. وأولت سورية عناية خاصة لبعثتها الديبلوماسية في فرنسا فعيّنت سفيراً بدلاً من القائم بالأعمال في حين ان سفارات كثيرة في دول اوروبية وغير اوروبية لم تحظ بمثل هذه العناية. ولعل الملف الثقافي في علاقات البلدين يتصدر الملفات الثانية. فالمركز الثقافي الفرنسي في دمشق يعمل بطاقته الكاملة والنشاط السينمائي وتعلّم اللغة الفرنسية والبعثات الطلابية حوالي 4 آلاف طالب سوري في الدراسات العليا في فرنسا والنشاط الاركيولوجي الفرنسي والمعارض والمنشورات الفرنسية… كلها بلغت ارقاماً قياسية بالمقارنة مع الفترة الممتدة بين استقلال سورية وزيارة ميتران لهذا البلد العام 1984. واخيراً يبدو الملف الاقتصادي وكأنه يصعد بوتيرة سريعة في علاقات البلدين ولا تخفي سورية طموحها في الرهان على تطوير هذا الملف بما يتجاوز السوق الفرنسية الى السوق الاوروبية المشتركة. وهنا لا يخلو من الدلالة ان يفوز رجل اعمال فرنسي من اصل سوري بصفقة 6 ملايين "تي شيرت" تحمل شعار كأس العالم لكرة القدم صُنعت كلها في سورية. في محطتها الثالثة تبدو زيارة الرئيس الاسد لباريس وكأنها تحمل منعطفاً اساسياً في علاقات البلدين سيشكّل مقياساً لماضي هذه العلاقات ومستقبلها وبالتالي فإن العلاقات قبل الزيارة لن تكون هي نفسها بعدها