السعودية ترحب باتفاق وقف إطلاق النار في غزة وتثمن الجهود المبذولة من قطر ومصر وأمريكا    21.5% زيادة بمؤشر أسعار الجملة خلال 5 سنوات    نائب وزير الخارجية يلتقي وزير خارجية تركيا ونائبه    ضبط إثيوبيين في عسير لتهريبهما (11) كيلوجرامًا من مادة الحشيش المخدر    برئاسة المملكة؛ انطلاق أعمال الدورة ال44 للجمعية العامة لاتحاد إذاعات الدول العربية في تونس    مفوض الإفتاء بمنطقة جازان" الإبلاغ عن مروجي الأفكار الهدامه والمخدرات السامه واجبٌ وطني"    إسرائيل تسللت إلى برنامج إيران النووي    الإسعاف الجوي للهلال الأحمر يفعل مسار الإصابات لأول مرة بالمنطقة الشرقية    رئيس الوزراء القطري يعلن موعد تنفيذ «صفقة غزة»    سفاح كولومبي لهجوم الذئاب    الامير سعود بن نهار يلتقي وزير التنمية الاجتماعية لجمهورية سنغافورة    دوري روشن: الخلود يسقط الاهلي بهدف دون رد    إطلاق "معجم مصطلحات الحاج والمعتمر".    إمارة منطقة مكة تشارك في مؤتمر ومعرض الحج بجدة    معالي الرئيس العام لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالقصيم    انطلاق فعاليات معرض دن وأكسجين    وزير الاستثمار: يجب تكامل الجهود لاستكشاف المعادن الموجودة في قشرة الأرض وما تحتها    إستراتيجية بيئية وسياحية بمحمية المؤسس    اختيار معلم سعودي ضمن أفضل 50 معلمًا على مستوى العالم    معلمة ب«تعليم مكة» ضمن أفضل 50 معلماً على مستوى العالم للعام 2025    24 عملية زراعة أعضاء تنهي معاناة 24 مريضاً بالفشل العضوي    إثراء السجل الوطني للتراث العمراني ب 3202 موقع جديد    اختتام ملتقى تعزيز قدرات الخريجين من خلال التعليم والتعلم بجامعة الإمام عبدالرحمن    أنشيلوتي يراوغ ويتجنب الإجابة عن أسئلة بخصوص مواجهة برشلونة    سمو أمير نجران يشهد توقيع 5 مذكرات تفاهم للهلال الأحمر لتطوير الخدمات    أمير القصيم يترأس اجتماع اللجنة العليا للسلامة المرورية    تشغيل 4 محطات جديدة لتنقية مياه الشرب في حي الشعلة بالدمام    «مجموعة خدمات الطعام» تُعزز ريادتها في قطاع الإعاشة بمشاركة إستراتيجية في مؤتمر ومعرض الحج الرابع    أمانة الشرقية: تنظم مبادرة لتقديم خدمات الأحوال المدنية لمنسوباتها    برعاية أمير الرياض ..الجمعية السعودية لطب الأسنان بجامعة الملك سعود تنظم المؤتمر الاقليمي للاتحاد العالمي لطب الأسنان    اعتقال رئيس كوريا الجنوبية.. وبدء استجوابه    ارتفاع أسعار الذهب مع ترقب بيانات تضخم أمريكية    "الخلاص" و "السكري" يتصدران إنتاج السعودية من التمور بأكثر من مليون طن    وصول الطائرة الإغاثية السعودية ال11 لمساعدة الشعب السوري الشقيق    حسابات السومة    حج آمن    "أميركا الجديدة.. وعصر المليارديرات"    فيصل بن بندر يطلع على أعمال أمن المنشآت    أمير القصيم يدشن مشروعات محافظة أبانات    سعود بن بندر يستقبل مدير الالتزام البيئي ورئيس «رياضة الأساتذة»    "سلامة الأغذية" بالرس يحصل على "الأيزو"    المملكة والسَّعي لِرفع العقوبات عن سورية    المتحدث الأمني لوزارة الداخلية يؤكد أهمية تكامل الجهود الإعلامية بمنظومة الحج    الاتحاد يتخلى عن صدارته    رونالدو وبنزيما يهددان ميتروفيتش بخطف صدارة هدافي «روشن»    البروتين البديل    سعود بن خالد يشهد اتفاقية «الفاحص الذكي»    مستشفى المذنب يُجري 1539 عملية جراحية    مدير الجوازات: أجهزة ذكية لقياس مدة بقاء الحجاج في «الكاونتر»    تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين.. نائب أمير منطقة مكة المكرمة يفتتح» مؤتمر ومعرض الحج 2025»    مجلس الوزراء: تشكيل لجنة مركزية دائمة للجهات الأمنية في المنافذ الجمركية    زمن السيارات الصينية    في انطلاق المرحلة 17 من دوري" يلو".. الحزم يواجه الصفا.. والنجمة في اختبار الجندل    بايدن يرفع كوبا عن اللائحة الأميركية للدول الراعية للإرهاب وهافانا ترحب    الآثار المدمرة بسبب تعاطي المخدرات    ألمانيا.. بين دعم السلام والأسلحة الفتاكة!    أفكار قبل يوم التأسيس!    إنجاز علمي جديد.. «محمية الملك عبدالعزيز الملكية» تنضم للقائمة الخضراء الدولية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شيراك يبعث الديغولية في الشرق الاوسط . باريس ترث موسكو ... في الملعب الاميركي
نشر في الحياة يوم 28 - 10 - 1996

يمكن للفرنسيين القول من دون مبالغة، بعد جولة رئيسهم الشرق أوسطية، ان بلادهم عادت الى العالم العربي بقوة. ويمكنهم أيضاً أن ينظروا بدهشة الى حقيقة طريفة وهي أن شعبية جاك شيراك في شوارع دمشق وعمان وغزة وبيروت عوضت الى حد ما، انحسار شعبيته في شوارع باريس وحجبت الانتقادات التي يتعرض لها من الفئات المتضررة من سياسته الداخلية.
في دمشق فتح شيراك صفحة جديدة في العلاقات السورية - الفرنسية الثنائية، وطوى الصفحة القديمة التي تتضمن سببين كبيرين للخلافات بين البلدين: الأول يتصل بالملف اللبناني الذي كان مصدراً لتوتر شبه دوري بين الحكومات الاشتراكية الفرنسية السابقة ودمشق، خصوصاً بعد اغتيال السفير الفرنسي في بيروت لوي دولامار وردود الفعل العنيفة على الدور الفرنسي في لبنان وعلى مبادرات فرنسية كانت تؤرق الحكم السوري، ولا تتعلق كلها بلبنان، اذ منها ما يتصل بالعراق وايران قبل حرب الخليج الثانية ومنها ما يتعلق بالتعاون السوري - الأوروبي. أما المصدر الثاني للتوتر فارتبط بالملف الاقتصادي والديون الفرنسية المستحقة على سورية. وفي كلا الملفين حقق الطرفان تسوية أصبح معها الحديث عن فتح صفحة جديدة أمراً لا ريب فيه.
وإذا كانت المحطة السورية في جولة شيراك الأخيرة هي الأبرز فإن أهميتها لا تقتصر فقط على الملفين المذكورين، بل تتجاوزهما الى ملف الشرق الأوسط. وما يلفت في هذا المجال هو الدفاع الصريح عن المواقف السورية في النزاع العربي - الاسرائيلي، اذ أكد شيراك في احاديثه وخطبه ضرورة استعادة الجولان كشرط للسلام وعدم فصل المسار اللبناني في الحل عن "المسارات الأخرى" وضرورة "البناء على الاتفاقات السابقة" وبالتالي عدم الانطلاق في المفاوضات من الصفر كما تسعى حكومة بنيامين نتانياهو، وأخيراً تعاطى الرئيس الفرنسي بصورة ايجابية مع الدعوة السورية الى تحالف سوري - فرنسي تحدث عنه في احدى خطبه ذات يوم الجنرال شارل ديغول غداة نيل سورية استقلالها عن الانتداب الفرنسي. ولعله من المفيد التذكير بأن العودة الفرنسية القوية الى دمشق سبقتها مبادرة سورية مهمة للغاية بالنسبة الى فرنسا، ذلك أن الرئيس حافظ الأسد أتاح لباريس، وللمرة الأولى منذ سنوات، فرصة العودة الميدانية الى حلبة الصراع العربي - الاسرائيلي، من خلال "لجنة تفاهم نيسان" في جنوب لبنان التي تضم ممثلين عن الولايات المتحدة ولبنان وسورية وفرنسا واسرائيل علماً بأن واشنطن وتل أبيب عارضتا هذه المبادرة بقوة.
وإذا كانت عبارات التحية لشيراك في شوارع دمشق هي الأولى من نوعها لرئيس فرنسي وربما لرئيس أجنبي، تعكس عمق التحول الذي طرأ على علاقات البلدين، فإن افتتاح مرفأ في غزة بني بتمويل فرنسي وتدشين شارع "الجنرال ديغول" في المدينة نفسها هي من المؤشرات الاضافية على عمق العلاقات الفرنسية - الفلسطينية، وعلى الدور الحاسم الذي تلعبه باريس مباشرة، وعبر الاتحاد الأوروبي، لمصلحة الحكم الذاتي الفلسطيني، سواء بتمويل هذا الحكم أو بدعمه سياسياً. وهنا أيضاً دافع شيراك عن أقصى ما يطالب به الرئيس ياسر عرفات، خصوصاً لجهة تأكيده ضرورة قيام دولة فلسطينية مستقلة ولاصراره على ان القدس الشرقية مدينة محتلة واحتجاجه على ذلك علناً خلال زيارته لها.
أما المحطات العربية الباقية في الجولة الرئاسية الفرنسية فانها لا توفر مؤشرات جديدة على تطور العلاقات الجيدة بين فرنسا والدول التي استضافت شيراك، فالاستقبال الحافل الذي لقيه الرئيس الفرنسي في الأردن هو استمرار للمشاعر الحارة الناتجة عن مواقفه المؤيدة للعرب والتي اعلنها في دمشق والقدس وغزة، من دون ان يعني ذلك أن المحطة الأردنية هامشية في هذه الجولة. فالعلاقات بين باريس وعمان تشهد منذ حرب الخليج الأولى، تطوراً بطيئاً لكنه ثابت وذلك منذ أن اكتشف الملك حسين أهمية البوابة الفرنسية في علاقات بلاده مع الاتحاد الأوروبي.
وفي لبنان بدا توقف الرئيس شيراك وكأنه للمجاملة أكثر منه للاعلان عن مواقف جديدة في علاقات البلدين، ذلك ان باريس حريصة أكثر من أي وقت مضى على احترام قواعد اللعبة السياسية في هذا البلد وبالتالي انتهاج سياسة حياله تستند الى التفاهم مع سورية. وعليه لن يحار المراقبون في تفسير معاني اللقاءات التي عقدها شيراك مع المسؤولين اللبنانيين.
وأخيراً تبدو المحطة المصرية القصيرة في جولة شيراك وكأنها شبيهة بالمحطة اللبنانية مع فارق كبير يتصل بموقع مصر العربي وعلاقاتها القوية بفرنسا، وبالتالي ضرورة وضع الرئيس حسني مبارك في أجواء الجولة الفرنسية وتفاصيلها.
وخلاصة القول ان جولة الرئيس الفرنسي الشرق أوسطية هي محطة فاصلة في علاقات فرنسا العربية ومؤشر لا يخطئ على رغبة باريس في استعادة دورها في العالم العربي وهو دور كان مهماً للغاية خلال فترة الحرب الباردة حيث كانت فرنسا تتيح للعرب منفذاً دولياً ثالثاً عندما يشتد الاستقطاب السوفياتي - الأميركي، ويتيح العرب لفرنسا فرصة كبيرة لنمو مصالحها ولمواصلة حضورها التاريخي في الشرق الأوسط.
لكن عودة فرنسا الى العالم العربي تتم في ظروف اقليمية ودولية مختلفة، وبالتالي ستكون لها معان مختلفة الأمر الذي يطرح سؤالاً كبيراً عن دلالات هذه العودة وانعكاساتها على العلاقات الفرنسية - الأميركية وعلى العلاقات الفرنسية - الاسرائيلية. فهل ترغب فرنسا في وراثة السوفيات وملء الفراغ الذي خلفه غياب الاتحاد السوفياتي عن العالم العربي؟ أم أنها تبحث عن شراكة مع الولايات المتحدة، ومن أي موقع؟
لا شك في أن باريس تستأنف دورها العربي في وقت يعيش فيه الشرق الأوسط على إيقاع العملية السلمية التي بدأت في مدريد عام 1991، وليس على إيقاع الحروب التي شغلت هذه المنطقة قبل انهيار المعسكر الاشتراكي، ما يعني ان الدور الذي تطمح الى تأديته قوة عظمى، او متوسطة الحجم، كما حال فرنسا، يفترض انخراطاً في العملية السلمية وهو ما فعلته باريس من خلال مشاركتها، عبر الاتحاد الاوروبي، في تمويل الحكم الذاتي بنسبة 80 في المئة من موازنته.
لكن الانخراط في العملية السلمية من خلال دور ثانوي لا يتناسب مع الطموحات الفرنسية المعروفة، فباريس تعتقد بأن حجم وأبعاد العلاقات الاقتصادية والثقافية والسياسية بين اوروبا ودول المتوسط ومن بينها بلدان الشرق الأوسط العربية وغير العربية، ضخمة جداً الى درجة تستوجب دوراً أكبر لفرنسا وأوروبا تقول فيه كلمة فاصلة في السلام، وربما في الحرب، طالما ان السلام في هذه المنطقة مفيد للغاية للمصالح الفرنسية والاوروبية ومضرٌ بالقدر نفسه ان لم يكن اكثر لهذه المصالح. ومن امثلة ذلك ما يؤكده محللون فرنسيون من أن انحسار السلام وتكاثر الحروب تسبب في صعود الموجة الاصولية التي ضربت عدداً من بلدان المتوسط، ووصلت الى فرنسا نفسها، وانتشرت في اوروبا ما يعني ان القارة القديمة تتأثر بالظواهر التي تنمو في الشرق الأوسط سواء كانت ايجابية أم سلبية، وعليه من حقها ان تقول كلمة فاصلة في مصائر الحرب والسلام في هذه المنطقة.
هذا الكلام عن "الحق" الفرنسي - الاوروبي لا تسمعه الادارة الاميركية من الاذن نفسها، ومثلها تفعل اسرائيل، فجهاز السمع واحد في الادارتين، لذا كانت واشنطن ترفض الاعتراف بدور فرنسي بارز في الصراع العربي - الاسرائيلي، إلا عندما يفرض هذا الدور نفسه من خلال الاحداث، اي بقوة الأمر الواقع، كما حدث خلال عملية "عناقيد الغضب" في جنوب لبنان خلال الربيع الماضي.
ولعل هذا المثال هو الذي حمل فرنسا على "اقتحام" المنطقة من دون اذن اسرائيلي - اميركي. فجولة شيراك الأخيرة سبقتها رسالة نقلها وزير الخارجية الاميركي وارن كريستوفر الى قادة الاتحاد الاوروبي في مطلع الشهر الجاري ومفادها ان على القادة الاوروبيين ألا يتدخلوا في العملية السلمية في الشرق الأوسط، واستجاب بعض الاوروبيين لهذا "التحذير" كما هي حال المانيا المترددة وبريطانيا الميّالة نحو واشنطن غالباً، وبعضهم الآخر لم يعبأ بها، شأن فرنسا ورئيسها الذي ازداد تصميماً على "اقتحام" التطورات الشرق أوسطية واحداث هزة ولو صغيرة فيها.
التفاف اميركي في افريقيا
ومرة أخرى استبقت واشنطن الزيارة الفرنسية باعلان مفاجئ عن مشروع لتشكيل قوة سلام افريقية لتفادي الحروب والتدخل في الازمات في هذه القارة، واختار كريستوفر زيارة بلدٍ افريقي، بين بلدان اخرى، تدهورت علاقاته مع فرنسا، للبحث في هذا المشروع، فقد أكد في مالي أن أميركا لا تقرّ بمناطق نفوذٍ حكراً على طرف واحد في العالم، في اشارة الى النفوذ الفرنسي بصورة خاصة، والأوروبي عموماً في افريقيا، ومرة اخرى لم يكن هذا التحذير كافياً لثني شيراك عن مخططه الشرق أوسطي.
تبقى الاشارة الى ان هذا الجدل الحامي يتم على اساس خلاف صريح بين باريس وواشنطن حول تعيين امين عام جديد للأمم المتحدة وتذكير فرنسا بأنها هي ايضاً تملك حق الفيتو إذا ما اصرت واشنطن على إبعاد بطرس غالي وفرض مرشح آخر لا ترضى فرنسا عنه.
بطبيعة الحال لن تكون جولة شيراك الأخيرة وما نتج عنها، فاتحة في علاقات صدامية بين البلدين، أو مدخلاً لتصعيد خطير، خصوصاً ان الرئيس الفرنسي، يرغب في تطبيق المثال الاميركي، حرفياً، في علاقات بلاده وأوروبا مع اسرائيل والعرب. فكما ان اميركا تقيم علاقات استراتيجية مع اسرائيل من دون ان تحول هذه العلاقات دون قيام علاقات اميركية - عربية حسنة، فان فرنسا تطمح الى قيام علاقات قوية مع العرب من دون ان تكون قوة هذه العلاقات سبباً في ضعف علاقاتها القديمة باسرائيل او مضادة لها.
واذا كان هذا التصور هو المثال المنشود، فان تحقيقه يقتضي بنظر الادارة الفرنسية، الحضور على الأرض وبالتالي احتلال مساحة في خريطة الصراع العربي - الاسرائيلي وممارسة دور مكمل للدور الاميركي او شريك فيه من خلال الأمر الواقع وليس من خلال اذن اميركي - اسرائيلي مشترك، والذين يعرفون عن قرب تجربة جاك شيراك السياسية في بلاده يدركون مدى تعلقه بممارسة السياسة من خلال خلق وقائع على الأرض بدلاً من انتظار توافرها.
بهذا المعنى لم يكن توقيت جولة شيراك الشرق اوسطية عفوياً، فهو اختار الوقت الضائع في حسابات الادارة الاميركية حيث تغيب السياسة الخارجية الاميركية الى حد كبير عشية الانتخابات الرئاسية، وقد شاءت الصدف ان تتزامن جولته مع شعور دولي واقليمي بضرورة انقاذ العملية السلمية من براثن الليكود الاسرائيلي بزعامة نتانياهو.
اما التصور المستقبلي للعلاقات الاميركية - الفرنسية في الشرق الأوسط بعد المبادرة الشيراكية الأخيرة، فمن الصعب استخلاصه بوضوح قبل تشكيل الادارة الاميركية الجديدة غداة الانتخابات، لكن المراقبين هنا يعتقدون ان الأمر متوقف على الأداء الاميركي، اذ يمكن للولايات المتحدة ان تستفيد من الدور الفرنسي - الاوروبي كعنصر ضاغط تارة، ووسيط تارة أخرى، لاحراز تقدم في العملية السلمية، ويمكنها ايضاً ان تصرّ على وحدانية رعايتها للعملية السلمية وبالتالي مواصلة إهمال الدور الفرنسي - الاوروبي، لكن الخيار الثاني لن يكون بعد الآن مبنياً على قبول فرنسي - اوروبي بلعب دور ثانوي.
قصارى القول ان فرنسا، بزعامة شيراك، ترغب فعلاً بوراثة الدور السوفياتي السابق في العالم العربي، من دون صفقات السلاح والمساعدات العسكرية أقله في المدى المنظور. ولعل من حسن حظ شيراك ان جولته جاءت في وقت تتداعى فيه السلطة في روسيا بسبب مرض الرئيس بوريس يلتسين وصراعات القوى على خلافته. ولعل هذه الوراثة الجزئية او النسبية تحظى بقبول عربي وبعدم معارضة روسية وباستعداد اوروبي للانخراط فيها كلما ازدادت ثباتاً. ورهانها فرض أمر واقع تضطر اميركا البرغماتية للقبول به وصولاً الى شراكة شرق اوسطية بين البلدين.
وكما ان التحرك الفرنسي لا يستهدف النيل من الدور الأميركي في المنطقة بقدر اقتطاع حصة منه، فإن الدور نفسه لا يبتغي العداء لاسرائىل وانما حملها على الاعتراف بمشروعية الدور الفرنسي - الأوروبي في المنطقة. ويبدو ان هذه المهمة لن تكون سهلة للغاية في عهد حكومة ليكود الراهنة.
في هذا المجال تقول مصادر فرنسية "اذا كان نتانياهو متصلباً الى هذا الحد فإن الليونة في التعاطي معه لن تزيده إلا تصلباً"، وعليه لا بد من مخاطبته بصوت عال، وهذا ما فعله جاك شيراك خلال زيارته لاسرائيل والأراضي المحتلة، ليس فقط من خلال احتجاجه القوي على مضايقة رجال الأمن الاسرائيليين له في القدس الشرقية وانما ايضاً من خلال دعوته الى انشاء دولة فلسطينية وعدم اعترافه بضم القدس وتوجيههه رسالة شخصية باسمه الى السيد فيصل الحسيني في "بيت الشرق" وعدم اصطحاب وزير خارجيته معه احتجاجاً على منعه من زيارة مقر منظمة التحرير الفلسطينية في القدس، ومطالبته بعودة الجولان، وبعدم تجاهل النتائج التي تحققت خلال السنوات الأربع الماضية من عمر العملية السلمية والبناء عليها، ومعارضته بصورة غير مباشرة "خيار لبنان أولاً" والدعوة الى عدم فصل المسار اللبناني عن المسارات الاخرى، وباختصار شديد قال شيراك في اسرائيل كل الكلام الذي لا يحب نتانياهو سماعه.
لغة نتانياهو
وفي السياق نفسه، اصطحب شيراك معه الى اسرائيل السيد هنري هاجدنبرغ رئيس المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا، وسلفه السيد جان خان وهما يمثلان التيار المؤيد للعملية السلمية وفق رؤية شيمون بيريز، وسبق لهما ان عبرا عن امتعاضهما من مبادرة رئيس الوزراء الاسرائيلي اثناء زيارته الأخيرة لفرنسا، حيث اعطى الأولوية في لقاءاته مع الطائفة اليهودية لفرع "ليكود" الفرنسي وتجاهل الهيئة التمثيلية الشرعية لكافة المؤسسات اليهودية، وهو أمر يحدث للمرة الأولى في تاريخ العلاقات بين رؤساء وزراء اسرائيل والطائفة اليهودية الفرنسية، ولا تخلو مبادرة شيراك باصطحاب منتقدي نتانياهو معه الى اسرائيل من الاصرار على مخاطبة الوزير الاسرائيلي الأول باللغة التي يفهمها.
ويستند شيراك في خطابه القوي المعارض لسياسة نتانياهو الى عناصر قوة حقيقية، من بينها:
1- ان فرنسا لم تفرط يوماً بأمن اسرائيل ولا بوجودها، وهي كانت رائدة في مساعدة الدولة العبرية على امتلاك وسائل الدفاع عن نفسها وعلى امتلاك القوة النووية.
2- تدرك فرنسا مدى حاجة اسرائيل لأوروبا عموماً، ومدى حاجتها للمصادقة من طرف الدول الپ15 في الجماعة الأوروبية، على اتفاق شراكة استراتيجي أبرم بين الطرفين العام الماضي، وتعرف اسرائيل مدى تأثير فرنسا في هذا المجال.
3- يدرك الرئيس شيراك ان خطابه المناهض للاءات نتانياهو يصب الماء في طاحونة التيار الاسرائيلي المعارض بزعامة بيريز.
4- يدرك شيراك ان ما قاله لرئيس الوزراء الاسرائيلي علنا وبصوت عال يقوله الأميركيون بصوت منخفض. ويدرك أيضاً ان أحداً في العالم لا يعارض هذا الكلام وبالتالي لن يهب لنجدة نتانياهو.
5- وأخيراً يدرك شيراك ان خطابه المناقض للاءات نتانياهو هو برهان جديد على الثقة التي تريد فرنسا استعادتها في العالم العربي.
لكن السؤال الذي يظل مطروحاً هو هل يوفر التباعد الكبير في المواقف بين اسرائيل وفرنسا فرصة لمشاركة فرنسية أوسع في العملية السلمية أم انه يوصد الأبواب مجدداً أمام مثل هذه المشاركة؟
يعتقد كثيرون بأن فرنسا بطرقها أبواب العملية السلمية، من موقع عربي، ستزيد الاسرائيليين تمسكاً بالحليف الأميركي الوحيد الذي اثبت على الدوام انه يرضى ما ترضاه الدولة العبرية ظالمة كانت أم مظلومة وهي لم تكن مظلومة حتى الآن.
أما الأثر العربي لسياسة شيراك فهو حيوي واستراتيجي في تفكيره وفي تصوره لعلاقات بلاده الخارجية، حيث يرى ان بلاده ليس لديها الكثير ما تراهن عليه في أوروبا الشرقية وأنها خسرت المراهنة مع المانيا التي كانت على الدوام تتمتع بعناصر قوة لا تقهر شرقاً، في حين ان قوة فرنسا الحقيقية كانت على الدوام الى الجنوب وفي حوض المتوسط، وان بوسعها فعلاً ان تنتهج سياسة عربية والدليل ليس فقط ردود الفعل على جولة شيراك الأخيرة، ففي قصر الأليزيه تتجمع القضايا العربية وتتوالى، من قضية حنيش الى قضايا الأكراد والعراق الى القضية الليبية والسودانية والجزائرية والموريتانية، ولكل منها عقد ووسائل حل في باريس.
لقد دحض شيراك بسياسته العربية، التصور الذي عبر عنه ذات يوم وزير الخارجية الاشتراكي السابق رولان دوما عندما قال رداً على سؤال عن سياسة فرنسا العربية: "إنها مجرد وهم. لا يوجد عالم عربي حتى تكون لفرنسا سياسة خارجية عربية". مع شيراك تبدو فرنسا قادرة على انتهاج سياسة عربية تطرق من خلالها أبواب أزمة الشرق الأوسط بتهيب... ومن دون كسرٍ أو خلع


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.