أجرى رئيس وزراء السودان السابق الصادق المهدي، رئيس حزب الأمة، أحد الحزبين الكبيرين في السودان، محادثات في واشنطن مع كبار مسؤولي إدارة الرئيس جورج دبليو بوش في شأن المسألة السودانية، والمواجهة بين الإسلام والغرب. غير أن الخبراء استبعدوا أن تحدث زيارة المهدي تحولاً جذرياً في السياسة الأميركية تجاه السودان. وكشفوا عن معركة داخل الادارة الاميركية بسبب السياسة الخارجية حيال السودان. وإذا كانت زيارة المهدي تمثل تفعيلاً للإتصالات بين اطراف الأزمة السودانية والولاياتالمتحدة، فهي تأتي في وقت بدا فيه ان وزير الخارجية الاميركي كولن باول يريد ان يختط نهجاً جديداً في التعامل مع القوى السياسية السودانية، إذ رفض أثناء جولته الافريقية الاخيرة ان يلتقي زعيم الجيش الشعبي لتحرير السودان العقيد جون قرنق، متمسكاً بأنه لا يفرّق في المساواة بين الزعماء السودانيين. والواقع أن زيارة المهدي لواشنطن وتهرّب باول من لقاء قرنق ليسا سوى عنوانين للأزمة التي تتفاقم داخل الادارة الجمهورية في شأن السودان. وحتى بعد مرور خمسة اشهر على تولي الجمهوريين الحكم، على أثر فوز بوش في انتخابات الرئاسة، لا تزال الادارة غير قادرة على صياغة سياسة خارجية واضحة ومحددة تجاه أكبر بلدان القارة الافريقية ومسرح أطول نزاعاتها الأهلية. وفيما حرصت إدارة الرئيس السابق بيل كلينتون على اتباع سياسة متشددة حيال السودان، وصلت حد اطلاق صواريخ من طراز كروز على مصنع للأدوية في العاصمة السودانية في عام 1998، فإن ادارة بوش تتحدث كما يبدو بلسانين حين يتعلق الامر بالسودان. إذ إن بوش شخصياً بدا متشدداً في أول وآخر كلمة تناول فيها أوضاع السودان منذ بدء رئاسته. فقد وصف السودان، في كلمة ألقاها امام اجتماع للجنة اليهودية - الأميركية، عقد لمناسبة مرور 95 عاماً على إنشاء اللجنة، وحضره الرئيس المكسيكي فنسانت فوكس ووزير الخارجية الألماني يوشكا فيشر ووزير الخارجية الاسرائيلي شمعون بيريز، بأنه "منطقة كوارث في ما يتعلق بحقوق الانسان، خصوصاً ان السلطات السودانية استهدفت بوجه خاص حق الضمير بارتكاب انتهاكات خاصة ضده. وتقول وكالات الإغاثة إن المساعدات الغذائية أحياناً لا يتم توزيعها إلا لمن يبدون رغبة في قبول التحول الى الإسلام". ولوحظ أن بوش قارن، في الكلمة نفسها، الحملة التي تشنها الحكومة السودانية ضد المسيحيين والوثنيين في جنوب السودان بالحملات التي نفذت ضد اليهود مطلع القرن العشرين. وفي أول اتهام رسمي توجهه إدارته للخرطوم، قال بوش إن النساء والأطفال في السودان يتعرضون للإختطاف ليباعوا في سوق الرقيق. وأشار الى أن صندوق الأممالمتحدة لرعاية الطفولة والأمومة اليونسيف يعتقد بأن عدداً يتراوح بين 12 ألفاً و15 ألفاً في عداد الرقيق حالياً في السودان. وأعلن الرئيس الاميركي، في تلك الكلمة، قرار تعيين منسق إنساني خاص لضمان وصول مؤن الإغاثة الى مستحقيها من ضحايا الحرب الأهلية في السودان. وقال إن هذه خطوة أولى ستتلوها خطوات". وأضاف: "أعمالنا تبدأ اليوم، وستظل إدارتي تواصل التكلم وإتباعه عملاً، ما دام الاضطهاد والفظائع مستمرة في السودان". وعلى رغم تهديدات بوش وتحذيراته، فإن الخطاب الرسمي لوزير الخارجية باول يذهب الى ان واشنطن تفكر بإعادة سفيرها الى الخرطوم التي غادرها في شباط فبراير 1996 لأسباب أمنية، حسب البلاغات الأميركية. ومع ذلك فإن التقرير السنوي عن الارهاب الدولي الذي تعده وزارة الخارجية الاميركية أبقى السودان في القائمة التي تضم ست دول أخرى، بينها ايران والعراق وليبيا وكوبا. وتأكدت لصقور الحزب الجمهوري أسوأ مخاوفهم من توجهات باول بعدما أعلن انه قرر ترشيح الديبلوماسي المحنك المتقاعد تشيستر كروكر مبعوثاً خاصاً للسودان. وكان كروكر مساعداً لوزير الخارجية في عهد الرئيس السابق رونالد ريغان، وقاد المفاوضات التي أدت الى إقناع كوبا بسحب قواتها من أنغولا وموزانبيق وتولى نهج "التواصل البناء" الذي أنعش بموجبه العلاقات الاميركية مع نظام الفصل العنصري في جنوب افريقيا. لكن كروكر اشترط ان يتولى المنصب مع تعهدات بعدم إخضاع المبعوث الخاص لآراء اليمنيين المتشددين في البيت الابيض ومجلس الأمن القومي التابع له. ويقول عدد من أعضاء الكونغرس إنهم يرفضون اي تواصل مع نظام الجبهة الاسلامية القومية في الخرطوم. ويرون انه بدلاً من ذلك يتعين على الادارة ان تعزز القوات المناوئة للحكومة السودانية. وقال مساعد لأحد أعضاء الكونغرس ل "الوسط" إن الحصول على تعهدات من ذلك القبيل أمر عسير. وذكر أن الآراء التي يصفها كروكر باليمينية تعبر عن موقف أعضاء الكونغرس وناخبيهم، "فكيف يمكن لكروكر ان يعزل النواب عن ناخبيهم ويتوقع أن يصادق الكونغرس على تعيينه؟". مثل هذه الآراء المتشددة قد تكون وراء التردد والغموض اللذين يبديهما باول تجاه المسألة السودانية. فهو حين يتطلب الامر مواجهة مع الصقور المتحمسين لضرب الحكومة السودانية يبدي تشدداً إزاء السودان، وإن كان لا يلزم نفسه إجراءات ميدانية قد يستحيل الوفاء بها. وحين يجتمع بالجناح غير المتشدد يفيض في وصف محاسن "التواصل البناء" مع الخرطوم. فقبل شهرين أدلى باول بشهادة أمام إحدى لجان الكونغرس قال فيها إنه قد لا تكون هناك مأساة على وجه الارض اكثر مما يشهده السودان. وأكد أن السياسة الخارجية الاميركية ستضع مشكلة الحرب الاهلية السودانية في صدارة أولوياتها. وعقد على الاثر إجتماعات مطولة مع مسؤولي تخطيط السياسة الخارجية في الوزارة قال إنها تمت بغرض توفير أكبر قدر من الفهم لتعقيدات المشكلة السودانية. وقبل نحو اسبوعين أعلنت واشنطن أنها قررت تقديم ثلاثة ملايين دولار مساعدات عاجلة للتجمع الوطني الديموقراطي، وقررت في الوقت نفسه تقديم عشرة ملايين دولار كانت قد اعتمدتها إدارة كلينتون الى الجيش الشعبي لتحرير السودان. ويأخذ عليها صقور الجمهوريين المتشددين إزاء السودان انها تجاهلت ضرورة تكثيف الضغوط على الحكومة السودانية. وتبدت مخاوف كثيرين من أولئك الصقور بعدما لاحظوا أن باول تعمد، أثناء زيارته اخيراً لكينيا ويوغندا، ألا يلتقي العقيد قرنق. وكلف الوزير الاميركي منسق الشؤون الانسانية الاميركي للسودان أندرو ناتسيوس مقابلة قرنق وسفير السودان لدى كينيا لبحث القضايا المتعلقة بالسودان. وأشارت مجلة "نيوزويك" الى انه على رغم إعلان باول انه يدرس تعيين مبعوث خاص للسودان، إلا أن ذلك المبعوث سيكون بحاجة في البداية الى المعلومات الدقيقة للوضع في السودان قبل ان يبدأ مهمته. وأشارت الى وقائع خلصت منها الى ان تحدياً خطيراً يواجه السياسة الاميركية حيال السودان بسبب ما سمته "ضعفاً خطيراً في قدرات اميركا الاستخبارية على جمع المعلومات". وأوضحت ان قرنق أبلغ المراسلين بأن الحكومة السودانية شنت غارات في منطقة جبال النوبة، أسفرت عن حرق 14 قرية مما اضطر سكانها الى النزوح. وحين سئل باول عن موقفه من ذلك الهجوم في وقت يتحدث فيه عن ضرورة التواصل مع الخرطوم، وإعادة السفير الاميركي اليها، رد بأنه لا يستطيع تأكيد الهجوم. وبعد مرور خمسة ايام قال احد مساعديه إن وفد الوزير الاميركي فشل في الحصول على المعلومات المطلوبة حتى بعد الاتصال بعدد من البعثات الديبلوماسية الاميركية في المنطقة. إلا بعد ان اتصل بعض مساعديه بمسؤولي وكالات إغاثة موثوقين فوفروا لهم المعلومات المطلوبة. وفي خطوة لتأكيد مسؤوليات الولاياتالمتحدة تجاه السودان، أعلن باول ان بلاده قررت تقديم مساعدات غذائية يبلغ حجمها 40 مليون طن لتفادي خطر المجاعة في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة والجيش الشعبي لتحرير السودان. وتعتبر الولاياتالمتحدة أكبر مانح للمساعدات للسودان. فمنذ اندلاع الحرب الأهلية في 1983 قدمت واشنطن مساعدات إنسانية للسودان قدرت قيمتها ب1.5 مليار دولار. واتسمت العلاقات بين واشنطنوالخرطوم طوال عهد الرئيس السابق كلينتون بالمواجهة والعداء. وضمت واشنطن السودان الى قائمة الدول التي تدعم الارهاب في 1993. وفي 1997 فرضت عليه عقوبات سياسية واقتصادية. وأعلن كلينتون تجميد أرصدة الحكومة السودانية، ومنع حصول أي تبادل تجاري بين البلدين. ولكن من يتحكم في تحديد سياسة أميركا تجاه السودان؟ وهل يستطيع رئيس الوزراء السابق الصادق المهدي مقابلة جميع التيارات التي تمارس نفوذاً على الادارة الاميركية؟ صحيح ان البيت الأبيض ووزارة الخارجية يلعبان دوراً رئيسياً في بلورة السياسة الخارجية الاميركية برمتها. لكن جماعات الضغط المسيحية، واللوبي الاميركي - الافريقي، ومنظمات حقوق الانسان والإغاثة هي التي تمارس نفوذاً على دوائر صنع القرار في واشنطن. ولولا ضغوط تلك المجموعات، التي يمارسها فعلياً عدد كبير من السناتورات وأعضاء مجلس النواب وأعضاء المجالس والمؤسسات الأكاديمية التي ترفد الادارة بالافكار، لما تأتى التشدد الاخير في لهجة بوش، ولما عجل باول بالتحرك في المنطقة المحيطة بالسودان. وترى تلك الجماعات ان الجبهة الاسلامية القومية التي تحكم السودان مصممة على إخضاع الجنوبيين ومواطني جبال النوبة بأي وسيلة، حتى لو أدى ذلك الى عمليات إبادة على نطاق واسع، وهو أمر - بنظرها - لا يمكن الأخذ والرد في شأنه، بل يتعين وقفه مهما كلف، حتى لو أدى ذلك الى مد المعارضة الجنوبية والشمالية بالمساعدات التي تتيح لها الوقوف بوجه الآلة العسكرية الحكومية. وفيما يستفيد باول من نفوذه لدى بوش الابن والرئيس السابق جورج بوش الاب ليفرض رؤيته للعلاقات الأميركية - السودانية، يسعى المتشددون واليمينيون الى تعزيز نفوذهم داخل البيت الابيض. ففي الوقت الذي أعلن فيه باول أنه يدرس تكليف كروكر بمهمة المبعوث الخاص للسودان، أعلن مسؤولو البيت الابيض أن ايليوت ابرامز مساعد وزير الخارجية لشؤون حقوق الانسان وأميركا اللاتينية في إدارة ريغان سينضم الى طاقم الرئيس بوش في منصب كبير في مجلس الأمن القومي الذي تتولى رئاسته الدكتورة كوندوليزا رايس. ويعتبر أبرامز من أبرز المتشددين ضد السودان. وبرز تشدده ذاك اثناء عمله رئيساً للهيئة الاميركية للحرية الدولية للأديان. وقد اتخذ في الآونة الأخيرة مواقف حادة وصلت الى حد المطالبة بتشديد العقوبات التجارية التي تفرضها الولاياتالمتحدة على السودان، وحظر الوصول الى اسواق المال الاميركية من قبل الشركات النفطية الاجنبية التي تشارك في استثمار مشروع النفط السوداني. واقترحت الهيئة العام الماضي ان تمنح الادارة الاميركية مهلة مدتها 12 شهراً لمواصلة جهودها من اجل تسوية النزاع في السودان. وقالت: إذا لم يسفر ذلك عن نتيجة ايجابية، فإن على الادارة الاميركية ان تسارع الى تقديم مساعدات غير عسكرية ليتمكن الثوار الجنوبيون من بناء طرق وجسور وبقية المرافق الضرورية. وهو ما يعتبره السودانيون - في الحكم والمعارضة - إجراء يهدف الى فرض أمر واقع يرسّخ الانفصال. ويمكن القول بوجه عام إن مستشاري بوش الابن في الشؤون المحلية هم الاشد نفوذاً على توجهاته المتعلقة بالسياسة الخارجية. وفي مقدمهم مستشاره السياسي كارل روف الذي يعتبر بمثابة قناة الوصل بين الرئيس الاميركي واليمين المسيحي المؤيد للحزب الجمهوري. وثمة مستشارون غير رسميين يقيمون علاقات وثيقة للغاية مع بوش، منهم القس فرانكلين غراهام الذي يدير منظمة إغاثة كنسية تعمل في جنوب السودان. كما أن محيط مستشارة شؤون الأمن القومي الدكتورة رايس لا يخلو من يمينيين ذوي آراء متصلبة حيال النزاع السوداني. ولا يمكن القطع بآراء محددة تحملها رايس في شأن السودان، لكنها تعتبر بوجه عام من مؤيدي باول، وأبدت استعدادها للتعاون معه على رغم انه اشترط لتولي حقيبة الخارجية تقليص نفوذ مستشار الامن القومي في البيت الابيض حتى لا ينتقص من صلاحيات الوزير او يدخل في تضارب مع قراراته. ولعل أبرز صقور الجمهوريين في مجلس الامن القومي مايكل ميلر خبير الشؤون الافريقية الذي ظل يحمل آراء متشددة تجاه السودان منذ عمله مساعداً للسناتور بيل فريست الرئيس السابق للجنة الفرعية لأفريقيا التابعة لمجلس الشيوخ. تلك هي الآراء والرؤى التي يطلب كروكر - في ما ذكر - منحه ضمانات ضدها حتى يستطيع التفاوض مع الحكومة السودانية على حل مناسب للأزمة التي تعصف بالسودان منذ استقلاله عن بريطانيا منتصف الخمسينات. يرأس كروكر حالياً معهد السلام الاميركي، وهو مؤسسة بحثية شبه حكومية. ومع أن كروكر جمهوري، فقد عرف بولائه الشديد للرئيس السابق ريغان، إلا انه ظل موضع ريبة وتحفظ من قبل معظم شخصيات أقصى اليمين الاميركي، وذلك منذ اضطلاعه بالتفاوض مع كوباوجنوب افريقيا لسحب قواتهما من أنغولا وموزامبيق. ويأخذ عليه المشككون فيه أنه كان يعارض قيام واشنطن بتقديم مساعدات عسكرية لحركة "رينامو" الموزامبيقية المتمردة. وبقي يعمل في الظل بعد انتهاء رئاسة ريغان، الى ان برز فجأة في شباط فبراير الماضي ليرأس اللجنة التي قامت باطلاق التقرير الذي اعده مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية عن المشكلة السودانية وآفاق حلها. وهو تقرير صادق عليه اكثر من 50 خبيراً أميركياً في شؤون السياسة الخارجية. واثارت خلاصته ردود فعل غاضبة من جانب مختلف اطراف الازمة السودانية. ويقول التقرير، الذي شاركت في إعداده وزارة الخارجية الأميركية والأممالمتحدة وعدد من المنظمات غير الحكومية، إنه حان الأوان كي تقوم الولاياتالمتحدة بالتعاون مع دول أخرى بدفعة قوية لإحلال السلام في السودان. وأضاف أن ذلك يعزى الى أن مبادرات السلام التي ترعاها الدول المجاورة للسودان "لا تحمل تباشير" تذكر. وأضاف أن على النروج والسويد وبريطانيا ودولاً اخرى ان تساعد على حمل الأطراف المتنازعة في السودان على إجراء "محادثات جادة وجوهرية". ورأى ان على الولاياتالمتحدة ان تقتح مبادرة لإحلال السلام في السودان، ما دامت جهود دول الجوار لا تحمل وعوداً بالنجاح في هذا الخصوص. وتعتبر هذه العبارة أقوى انتقاد أميركي للمبادرة المصرية - الليبية المشتركة لتحقيق الوفاق في السودان منذ أن عارضتها بشدة وزيرة الخارجية السابقة مادلين أولبرايت. وناشد التقرير إدارة بوش ان تعيد الى السفارة الاميركية في الخرطوم طاقمها الديبلوماسي الكامل للمساعدة في تنفيذ "استراتيجية صارمة تشمل الديبلوماسية والتواصل الكامل وإجراءات تأديبية". ولم يشرح التقرير طبيعة الاجراءات التي أشار إليها لكنه دعا الى شن حملة دولية ضد الشركات التي تساهم في مشروع إنتاج النفط السوداني وتصديره. ولاحظ أن عائدات مشروع البترول السوداني رجحت ميزان القوة العسكرية خلال العامين الماضيين لمصلحة حكومة الخرطوم. وأشار أيضاً الى أن النزاع السوداني أحدث استقطاباً في العلاقات بين دول الجوار السوداني نتيجة تشابكات علاقاتها مع النظام في الخرطوم. وقال: "كما غدا واضحاً ان مبادرات السلام الاقليمية المتنافسة لا تبشر بشيء". لكنه أقر بأن المبادرة المتعددة الجنسيات التي اقترح أن تتولى الولاياتالمتحدة قيادتها لن تكون سهلة، "فقد أضحى السودانيون أنفسهم وكذلك جيرانهم لا مبالين ومتشائمين او يقاومون بشكل فاعل" أي مبادرة تقترحها أطراف خارجية لحل ازمة السودان. وذكر التقرير ان سياسة العزل والاحتواء التي انتهجتها إدارة كلينتون حيال الخرطوم "لم تحقق تقدماً يذكر لجهة وضع حد لحرب السودان". ولعل أشد توصيات التقرير إثارة لغضب السودانيين الدعوة الى حل المشكلة من خلال انشاء نظامي حكم في دولة موحدة. وأثار التقرير بلبلة شديدة في الخرطوم، إذ اعتقد مسؤولون ومعارضون بأنه "ورقة أميركية" رسمية. وذهب بعضهم الى أن السياسة الأميركية تجاه السودان ستترسم خطاه طالما كان وراءه ذلك الحشد الكبير من خبراء الشؤون الخارجية ذوي الكلمة المسموعة لدى البيت الأبيض ووزارة الخارجية. ومنهم سفيران سابقان للولايات المتحدة لدى السودان دعوا علناً الى ضرورة التواصل مع الخرطوم، وميلت بياردين المسؤول السابق في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية سي. آي. اي. الذي وقع في الآونة الأخيرة عقداً مع رجل اعمال سوداني يعتبر قريباً من الجبهة الاسلامية القومية هدفه "تحسين التفاهم وتعزيز العلاقات بين مختلف الحكومات والاحزاب والأشخاص المعنيين بالنزاع السوداني". وبرز على رأس تلك المجموعة من الخبراء والتر كانشتاينر مساعد وزير الخارجية للشؤون الافريقية. واختير كروكر لرئاسة اللجنة التي وضعت التقرير على رغم انه لم يكن من أعضائها! ويعتقد المراقبون بأن ذلك تم بسبب تقارب آرائه مع الافكار التي دعا التقرير الى الأخذ بها لحل المعضلة السودانية. وأوردت صحف أميركية أن كروكر يعارض تقديم أي مساعدة أميركية للجيش الشعبي لتحرير السودان، الى جانب طلبه ضمان عدم تدخل اليمينيين في عمله الجديد. أما على صعيد الحكومة السودانية، فتتراوح مواقف المسؤولين بين يائس من موقف اميركي عادل حيال النزاع السوداني، وآمل بأن يكون تقرير مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية خطوة لإحياء العلاقات مع أميركا، ومحاولة محو ما تعتبره خرافات وأساطير رسخها الاعلام المغرض في ذهن الرأي العام الغربي والاميركي. وتعول حكومة البشير على الرفض المصري المضمون لأي مشروع حل من شأنه تقسيم السودان او التفريط في سيادته على أراضي الجنوب. وهو هدف استراتيجي لمصر حتى لو كانت علاقاتها مع جارتها الجنوبية في أسوأ حالاتها. ويرى الرافضون للتدخل الاميركي في الشأن السوداني أن على حكومة بلادهم تعزيز روابطها التجارية والسياسية مع الصين واليابان وروسيا، والتوصل الى تفاهم مع بلدان الاتحاد الاوروبي غير الخاضعة للنفوذ الاميركي، مثل فرنسا وألمانيا. وفي جبهة المعارضة، يبدو أن المهدي وحده الزعيم المعارض الأكثر دينامية في تفعيل علاقاته مع الولاياتالمتحدة. إذ إن زيارته لواشنطن تأتي بعد شبه قطيعة بينه وبين إدارة كلينتون. فقد كان يتأهب للتوجه من لندن الى واشنطن في عام 1997، في أول زيارة يقوم بها للولايات المتحدة بعد تمكنه من الفرار من إقامته الجبرية في السودان، تلبية لدعوة من الاميركيين انفسهم، ليفاجأ بهجوم غير مسبوق من قبل مسؤول أميركي، في تصريح أوردته الشقيقة "الحياة"، خلص الى أن واشنطن ستستمع لما سيقوله المهدي، لكنها لا تؤمن بأنه يستطيع مع حليفه التقليدي السيد الميرغني تقديم شيء الى السودان بعد فشل تجاربهما في الحكم. وحرص المهدي قبل بدء زيارته الحالية للولايات المتحدة على إجراء سلسلة من المحادثات مع أطراف مختلفة شملت البشير وقرنق والميرغني ووزير الخارجية المصري الجديد أحمد ماهر والامين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى. أما الميرغني الذي يترأس التجمع الوطني الديموقراطي، الى جانب رئاسته للحزب الاتحادي الديموقراطي، فيبدو شديد التردد حيال الغزل الاميركي مع المعارضة السودانية. فقد أعلن - رداً على إعلان وزارة الخارجية الاميركية تقديم مساعدات قيمتها 3 ملايين دولار الى التجمع - أنه لا يعرف شيئاً عن تلك المساعدات. ولم يتخذ الزعيم السوداني خطوة حتى الآن لتلبية دعوة وجهتها اليه وزارة الخارجية الاميركية لزيارة واشنطن وإجراء محادثات تتعلق بقضية السودان. ومع تسليمه بأهمية الدور الاميركي في تسوية مشكلة بلاده، إلا أنه يبدو أكثر ارتياحاً الى المظلة التي توفرها له علاقاته الخاصة مع كل من الجيش الشعبي ومصر للتغلب على اي عقبات قد تنشأ عن سياسات اميركية خاطئة تجاه السودان. ولم تغلق واشنطن - في العهود الديموقراطية والجمهورية - الباب بوجه الجماعات السودانية الاخرى التي لا تستند الى طائفة او مرجعية دينية. فقد عمدت إدارة كلينتون الى كيل المدح والثناء لقائد تنظيم "قوات التحالف السودانية" العميد عبد العزيز خالد عثمان، باعتباره وجهاً يمكن أن يحل محل القيادات الحزبية التقليدية في سودان ما بعد البشير. ودعي عبد العزيز خالد الى واشنطن مراراً. ولا يعرف هل من قبيل المصادفة وحدها انه يزور الولاياتالمتحدة حالياً، أم انه يطمئن على أسرته التي تم توطينها هناك حسبما ذكر احد مساعديه ل "الوسط"؟ واثار وجوده الراهن في الولاياتالمتحدة اشاعات زعمت ان تنظيمه المسلح هو الجهة التي تستهدفها المساعدات الاميركية المذكورة. وفي الوقت نفسه، زار الولاياتالمتحدة، مستشفياً، الرئيس السابق جعفر نميري الذي شمل جدول أعماله لقاءات مع عدد من كبار مسؤولي الادارة للبحث في سبل حل الازمة السودانية. وحرص نميري على ان تتيح له الزيارة الالتقاء بصقور ادارة ريغان الذين ظلوا يغدقون العطاء على نظامه منذ توصله الى اتفاق سلام مع الثوار الجنوبيين وضع حداً للحرب الاهلية. ويعول نميري على علاقته الخاصة مع بوش الاب منذ توليه منصب المندوب الدائم للولايات المتحدة لدى الاممالمتحدة. غير ان "الوسط" علمت ان زيارته لواشنطن لم تحقق اي نتيجة بعدما نصحته الادارة بتأجيل اللقاءات التي حددها الى وقت مناسب للطرفين. ولا تكتفي واشنطن بالقوى السودانية التقليدية في سياق مسعاها الى استجلاء تعقيدات الازمة من جوانبها كافة. فهي على اتصال حتى بحزب المؤتمر الوطني الشعبي الذي يتزعمه الدكتور حسن الترابي، خصوصاً في اعقاب توقيعه مذكرة تفاهم في 19 شباط فبراير الماضي مع الجيش الشعبي لتحرير السودان أفضت الى اعتقال الترابي منذ 21 شباط بتهمة التحالف مع عدو يسعى الى إسقاط الحكومة. وقالت مصادر ذات صلة وثيقة بالترابي ل "الوسط" إن واشنطن أحيطت بالاتصالات بين حزب الترابي والجيش الشعبي منذ بدايتها.