حين غنت ماجدة الرومي للوطن والمدينة خفت لوعتها وطار صوتها من المحيط الى الخليج يغني لبيروت الآتية من تحت الانقاض، اضاءت شمعة في ظلمتها، وشدت على القلوب المنكسرة وهي تصرخ "قومي من تحت الردم". اليوم تعد ماجدة اطفال فلسطين بأغنية "تهز الرأي العام الاسرائيلي" تنشد فيها كيف ان المأساة علمتنا ان ندفن قتلانا بيد، ونثور باليد الأخرى على العدوان. هذه السيدة التي تعرف كيف تبكي، وكيف تدخل دهاليز الانكسار حتى الوجع، تعرف ايضاً كيف تنتفض كمارد لا يقهر، وتدافع برقتها عن منزل تشغله سموم المآسي. تتكلم بلغة هي اقرب الى الصمت، على عكس غنائها الذي يصدح ثورة وحباً ومواقف "بلورية"... "أنا كل ما سمعت سياسياً يتكلم بصغر اشعر اني مهانة". لها مع القدر اكثر من حكاية منها الرمادي ومنها الزهري فهي اليوم سفيرة الفقراء والمعذبين في العالم، تسخر صوتها لهذه القضية الانسانية علها ترفع ضيماً، وتزرع فرحاً، بعد ان اختارتها منظمة الأممالمتحدة سفيرة لهذا العمل الانساني. ماجدة الرومي تتكلم عن الحب والوطن والألم في هذا الحوار: * "سعادة السفيرة" كيف جرى اختيارك لمنصب سفيرة الفقراء والمعذبين في العالم؟ - حقيقة لا أدري كيف تم اختياري من قبل منظمة الاغذية والزراعة "الفاو" سفيرة لكل المعذبين في العالم، لكن ربما كان هذا نتيجة ايماني الذي اجتهدت على تطبيقه في حياتي سعياً الى نشر الحب. وربما انني أوحيت اليهم ببعد انساني فمنحني الله هذه البركة التي اصابتني دون سواي من العالم. أما ما هي المعايير والاسباب فلا ادركها. فجأة أجد فاكساً يصلني الى البيت باللغة الاجنبية يقول بأن جلسة التعيين الرسمية ستكون في 16 تشرين الاول اكتوبر في روما بعد ان تم اختياري سفيرة ل "الفاو"، تفاجأت جداً وشعرت بأن الله يكافئني. كل ما اذكر هو انني منذ فترة كنت في البحرين واستضافني التلفزيون البحريني في برنامج للتحدث عن الفقر والجوع في العالم الى جانب ممثلين عن هذه المنظمة. لكن ذلك البرنامج كانت مهمته محدودة. * هل هناك توأمة بين خطك الفني وخصوصيتك. او هل هذا الصفاء والخفر الذي نراه فيك موجود في أغانيك؟ - انا لا استطيع ان ادعي الخفر لأني لا أحب الخطأ والادعاء، لكنني مؤمنة بوجوب تقديم شخصيتي كما هي. انا سيدة أتيت من جبل لبنان، من قرية بعيدة جبلية اسمها كفرشيما. عشت اجواء مغلقة تماماً، وبدءاً تخرجت وانطلقت من برنامج للهواة في تلفزيون لبنان هو "استديو الفن". هذه هي الصدفة التي بنت قدري فيما بعد، كان ذلك عام 1974، وكان عمري 16 سنة. أنا استطيع ان ادعي الغناء لأني مغنية، او ادعي اشياء اخرى قد افعل بها شيئاً، اما لماذا سأدعي الصفاء والخفر؟ ماض تقليدي * كيف تقومين نجوميتك؟ وعلى ماذا اعتمدت في هذه النجومية؟ - قدمت نفسي ببساطة الاجواء العادية التي خرجت منها، فتصرفت على سجيتي وعفويتي من دون ان افتعل الاشياء حتى اتلقى حب الآخرين. وصدف ان احبني الجمهور للذي قدمته له، فانا الآتية من ماض تقليدي، كان ذلك مدخلي الى الفن والى سيرتي التي كتبتها بعد ذلك، ولم يكن عندي طريق آخر اسلكه، وقد تعلمت على مر السنين بأنه حتى يكون عندي وهج يجب ان اعمل على داخلي، فالمظاهر لا تكبر ولا تقلل من شأن الفنان ولا تعجل منه انساناً افضل. اما مواصفات النجومية المتداولة اليوم فلا افهمها ولا اعتبرها نهائية، لأن كل شيء قابل للتغيير في هذه الحياة. * ما هو "الروتوش" الذي اعتمدته ماجدة الرومي حتى تبرز مواصفاتها بشكل افضل كفنانة وصلت الى قلوب الناس؟ - هذا "الروتوش" هو تعميق أوجه البساطة والصدق عندي. الذي يهمني هو مضمون اعمالي والعمل على الارتقاء به، وكل يوم أرى انه يجب ان ابسط نفسي اكثر، خاصة اني آتية من ماض مركب قد لا يكون الأنسب لشخصيتي. لقد نظرت الى نفسي وأخرجت منها افضل ما فيها، وعملت على اختيار الافضل من القصائد الشعرية، وحثثت الملحن على اخراج افضل ألحانه، وأثقلت جوهري بشعلة اضيئها كل يوم. هذه الشعلة لا تقف عند حدود معينة فهي تنطلق من الاشياء الثانوية بدءاً باستعمال الالفاظ وإلقاء الصباح، مروراً بتهذيب الذات الاخلاقية، واضفاء الحساسية المرهفة. انا اشبه نفس الانسان بإناء مملوء بوحل الحياة نتيجة الاحزان والبشاعات والنكسات، والآلام التي يتلقاها، وأنا من هذه الوحول رحت انظف ذاتي، واخترت طريقي بالعمل على كل ما يعتري هذا الداخل حتى يكون الاحتكاك بالناس يسيراً وفعالاً، ولا يظنن احد بأن هذا الاحتكاك هو شأن سهل بل هو عندي من اصعب الاشياء، لذا عندما اخرج الى المسرح للالتقاء بالجمهور، اشعر وكأن نوراً ما ينور علي من الداخل سرعان ما يلتقطه الجمهور، ويشعر بحرارته ودفنه. ويصبح الكون لحظتها اناء من زجاج شفاف وكل شيء في داخله واضح وذات يقين. ان كل فنان يغني على المسرح يعرف عن ماذا اتكلم. وهذا هو الذي يخلق اللحمة بين الفنان والجمهور، ربما عرفت ماذا ستكون ردة فعل الناس قبل انهاء الاغنية، فبالقدر الذي يمد فيه الفنان روحه نحو الجمهور بالقدر نفسه يتفاعل هذا الآخر. * وكأنك لا تفصلين بين فنك وذاتك؟ - طبعاً لا افصل لأن كل شيء في داخل الفنان يذهب ضمن عمله فاللطف والرقة وأي تصرف صغير في الحياة اليومية يصب في هذا الجوهر الذي يمسكه الجمهور ويدركه ويصبح الفنان لحظتها شفافاً الى درجة لا تقاس. الحب الى الأبد * غنيت قصائد الحب، فهل للحب فلسفة خاصة عندك؟ - لم أفكر بهذا الموضوع من هذه الزاوية الخصوصية البحتة، ولم اصل الى تجربة الافكار الخاصة في الحب. لكن الحب موجود منذ اقدم العصور وسيبقى موجوداً الى الابد، فهو عنوان الحياة التي لا يمكن ان تقوم لها قائمة من دونه. لكن كل فرد يعيش تفاصيله كما يهوى وكما يفهم، فأحدهم يفهم الحب مروراً بالجسد، وآخر يفهمه مروراً بأشياء اخرى. * اكثر ما غنيت للشاعر نزار قباني، كيف كانت علاقتك به وبشعره؟ - نزار قباني من الشعراء القلائل الذين استطاعوا ان يقولوا الشعر بتلك البساطة الممتنعة، وصاغوا مواقف الحياة بكلمات بلورية. كانت علاقتي به ممتازة، فكان مؤمناً بي، وكثيراً ما أسمعني كلمات تشبه ما كان يقوله لي والدي حليم الرومي بأن لا اقف بالصف وراء احد وان العمل الجيد هو الذي لا يتصادم مع الوقت. وجدته يشجعني، ويحب الطاقة التي في داخلي والكفيلة بأن تأخذني الى مكان معين. صورة قاتمة * غنيت للوطن، ولبيروت، ماذا تشعر وتفكر ماجدة الرومي حين تغني للأرض؟ - لقد تغير الوطن والمدينة عن ذي قبل. فأنا كنت مؤمنة بأن هناك أناساً سيأخذون لبنان الى بحر الامان. لكن الصورة اليوم اشد قتامة، فالوطن ممسوس الكرامة وجزء من اللبنانيين في هذا الخط. أنا ارفض ان تمس كرامة الوطن لأني اشعر بأن كرامتي الشخصية ممسوسة، فكل مرة يقف احد السياسيين ويتصرف بصغر، احس اني انا المهانة شخصياً. * هل صوتك يرفع كرامة لبنان؟ - سأدعك انت تجيبين عن هذا السؤال. * المعروف بأن ماجدة الرومي عاشت اخيراً فترة عصيبة وأليمة ما أسبابها؟ - لقد تعرض زوجي لحادث صحي مؤلم، جعلني اعيش اجواء المرض بأسوأ ما يمكن وصفه الى درجة شعرت معها بأن مرض زوجي سينهيني كلياً، وأطبقت على روحي غمامة من الكآبة المرة الى درجة يمكن القول معها بأن من أجبن المواقف في الحياة، ان يدع المرء نفسه لسلطان الكآبة. ومع هذه الكآبة شعرت اني ادخل نفقاً مظلماً لا فكاك منه، وكلما غصت فيه كلما ابتعد النور عني وصرت صريعة اليأس، وفجأة وقفت امام انكساري وقلت كفى، وانتفض من داخلي مارد شجاع حارب كل هذا الانكسار، كما يحارب المرء ألد عدو له. ما هو ألد عدو لك؟ تسأل. * اسرائيل أجيبها. - يمكن ان تكون اسرائيل شيئاً سهلاً نسبة الى الكآبة التي عشتها، فهي العدو اللدود الذي يخرب كل شيء من دون رحمة بدءاً من اجمل الاشياء انتهاء بآخر خيط امل وجمال نؤمن به. احسست لمرحلة ان كل شيء فعلته في حياتي اندثر ومات، وان اي جمال لا يمكن ان يكون له مستقبل عندي بعد ذلك. الحزن "خربط" منزلي تماماً، وصار اشبه بمكان بعثرته الريح او يد نجسة عبثت به و "فشلكته" كلياً. وما كان علي الا ان اعيد الاشياء الى اماكنها وارتبها من جديد الشكل الذي يخدم وضع زوجي الصحي. سهولة واستهلاك * يقال بأن طاقات ماجدة الرومي الصوتية، لم توفق بملحن مخضرم حتى الآن هل هذا صحيح برأيك؟ - الذي لاحظته وهناك شبه اجماع عليه سواء في لبنان او في اي بلاد زرتها لاحياء حفلات، هو ان هناك تفاعلاً اكبر مع الاغاني التي لحنها والدي حليم الرومي، وحتى الموسيقيون الاجانب الذين يعزفون الألحان التي وضعها والدي تلفتهم هذه الألحان، لكن لا يمكن ان اتهم احداً بالنقص، فكل الذين تعاونت معهم اعطوني افضل ما لديهم وبصدق. الا ان العصر اليوم تغير عن السابق. ودخل اللحن في مرحلة جديدة مختلفة عن الماضي قوامها السهولة والاستهلاكية، ولكني اظن بأن المرحلة المقبلة ستكون افضل من المرحلة السابقة. * تبدين جدية جداً، ألا تحبين المرح واللهو مثلاً؟ - لا... لا، على العكس تماماً، احب اللهو واللعب الا اني ربما ما زلت اسيرة الآلام التي عشتها وأحاول تخطيها. * وزعت نفسك على كل الوطن العربي الا انك حتى الآن لم تغني لفلسطين؟ - الفن ليس جريدة تغطي احداث العالم. ولا يستطيع كل فنان ان يتبنى احداث العالم العربي. فما حدث في لبنان جعلنا اسرى اوضاعنا ومآسينا. لكنني اعد اخواني وأصدقائي الفلسطينيين ان يكون لهم عمل موجه الى الرأي العام الاسرائيلي الذي يحاول ايهام الرأي العام العالمي بأن الاسرائيليين مظلومون ومحقون. وانا سأحاول ان ادفن مع الذين يدفنون الشهداء في فلسطين وأخبر الاسرائيليين بأنهم اذا ارادوا ان يكفوا عن البكاء، عليهم ان يوقفوا قتل الناس.