"... سلوبو... سلوبو انتحر وانقذ صربيا والصرب" هذه العبارة كان يهتف بها حشد من الطلاب ومشجعي كرة القدم الذين احتشدوا حول الفيلا التي كان يشغلها الرئيس اليوغوسلافي السابق سلوبودان ميلوشيفيتش بعد سقوطه في الانتخابات الرئاسية في أيلول سبتمبر من العام الماضي. والدعوة الى الانتحار، امتدت الى منزله، إذ خاطبته ابنته ميرا قبل لحظات من اعتقاله بقولها "لا تستسلم يا أبي. اقتلني واقتل والدتي وانتحر من بعد". لكن الزعيم الصربي المهزوم فضّل الاستسلام لقاء شروط بائسة: السماح لزوجته بزيارته وعدم تسليمه الى محكمة جرائم الحرب في لاهاي، وتنظيم محاكمة عادية وغير سياسية له، الأمر الذي أثار حفيظة ابنته فاطلقت النار من مسدسها لاستدراج مقتله ومقتل عائلته، لكن من دون جدوى. ولعل ميلوشيفيتش الذي يوصف في الغرب بأنه مقامر وغير منهجي ورجل المفاجآت، فضّل الاستسلام لخصومه، على الانتحار، لأسباب تتعدى الحيز النفسي، حيث قيل ان والداه ماتا انتحاراً ولا يريد السير على خطاهما، وباستسلامه يراهن على التحول الى ضحية قومية، والى اكتساب المزيد من الوقت، أملاً في تفكك الائتلاف الحاكم المؤلف من 15 حزباً، ولعله يراهن أيضاً على تغيرات اقليمية من جهة روسيا وروسيا البيضاء حيث قوبل اعتقاله بردود فعل غاضبة وبالقول للصرب: باعتقاله تثبتون أن الأطلسي كان محقاً في شن الحرب على بلغراد. وإذا كان من الصعب، في ضوء الظروف والحسابات الصربية والاقليمية والدولية الراهنة، استشراف تغييرات في المدى المنظور، تصب في رهانات الرئيس اليوغوسلافي السابق، فإن المؤشرات المحيطة بهذه القضية تسمح بالقول ان بقاء ميلوشيفيتش حياً ومحاكمته واستخدامه كورقة للمساومة من طرف السلطات في بلغراد لطي صفحة الماضي الصربي ولالقاء مآسي حروب البلقان على كتفيه وحده، كل هذه المؤشرات تصب الماء في طاحونة مشجعيه الذين دعوه الى الانتحار والخروج بطلاً، بدلاً من أن يحاكم كلص امتدت يداه الى خزائن الدولة ومن ثم تسليمه الى محكمة لاهاي لارتكابه جرائم بحق الانسانية في البلقان. لكن لماذا قررت السلطات اليوغوسلافية القاء القبض على الرئيس السابق، وهل تمتنع عن تسليمه الى محكمة جرائم الحرب في البلقان، وعلى ما أكد مراراً الرئيس فوجيسلاس كوستونيتشا الذي يعتبر ان هذه المحكمة تخضع للهيمنة الأميركية وان الدستور اليوغوسلافي لا يسمح بتسليم مواطنين الى جهة أجنبية؟ وحول توقيت الاعتقال بات كل شيء مكشوفاً، فمنذ انتخاب كوستونيتشا، تخضع بلغراد لضغوط دولية وأميركية بصورة خاصة، قائمة على الترغيب والترهيب، أو استخدام العصا والجزرة، فمن جهة الترغيب استعادت يوغوسلافيا مقعدها في الجمعية العامة للأمم المتحدة بعد تجميد استمر لثماني سنوات، واستعادة عضويتها في صندوق النقد الدولي، وانتسبت الى بنك التنمية والتعاون الأوروبيBRED واستأنفت عضويتها في منظمة الأمن والتعاون الأوروبي، ولحظ الاتحاد الأوروبي في موازنة للبلقان المقدرة ب839 مليون يورو حوالي 240 مليوناً ليوغوسلافيا وحدها. ودعي كوستونيتشا للمشاركة في قمة نيس الأوروبية الأخيرة، واستدعيت القوات الصربية للسيطرة على الحزام الأمني الفاصل بين كوسوفو ومقدونيا والذي اشتقته قوات الأطلسي اثر الحرب للحفاظ على الأمن بين البلدين، الأمر الذي أثار حفيظة ألبان المقاطعة الذين يطمحون للانفصال عن يوغوسلافيا والانضمام الى البانيا. وشاركت بلغراد في قمة البلقان الأخيرة، التي انعقدت بمبادرة فرنسية، وكان كوستونيتشا نجم القمة. ومن جهتها وعدت الولاياتالمتحدة الرئيس الجديد بمساعدة اقتصادية تقدر بحوالي 100 مليون دولار وبعدم الاعتراض على حل المشاكل اليوغوسلافية مع البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وبدعم المطلب الصربي باقامة ندوة دولية للبلدان الدائنة وإعادة تنظيم علاقاتها الاقتصادية معها. والسماح لبلغراد بلعب دور اقليمي مهم في جنوب شرقي أوروبا. أما في مجال الترهيب فكانت الولاياتالمتحدة، والى حد ما دول الاتحاد الأوروبي، تطالب بلغراد باحداث قطيعة مع الماضي، واجراء اصلاحات ديموقراطية جذرية والانخراط في اقتصاد السوق والتخلي عن مشروع صربيا الكبرى، وبالتالي تسليم سلوبودان ميلوشيفيتش الى محكمة جرائم الحرب في لاهاي، وتسليم مجرمي حرب شهيرين يعيشان في صربيا هما رادوفان كارادجيتش زعيم صرب البوسنة السابق وراتكو ملاديتش الزعيم العسكري للميليشيات الصربية في البوسنة نفسها وهما متهمان بارتكاب جرائم حرب في عدد من المدن والأرياف البوسنية. والثابت ان كوستونيتشا استفاد الى حد كبير من الانفراج الذي تم حول بلاده التي استعادت الى حد ما موقعها الدولي والاقليمي بعد عزلة طويلة، لكن استجابته للمطالب الغربية ظلت محدودة، فهو اعترف بالنظام البوسني وأقام علاقات ديبلوماسية معه، ويبحث في إعادة هيكلة النظام اليوغوسلافي فيما يتيح حق تقرير المصير وفق خيار حر لجمهورية الجبل الأسود. ولم يبد حماساً كبيراً لجمهوريتي الصرب الضئيلتين في البوسنة وكرواتيا، لكنه لم يتخذ خطوات راديكالية تبعث الاطمئنان الكامل لدى الدول الغربية التي سهلت مهمته والتي تفاوتت مواقفها التكتيكية منه. ففرنسا ومعها اليونان ودول اوروبية أخرى أبدت تسامحاً كبيراً تجاه بلغراد وطالبت بمنحها المزيد من الوقت، فيما اعتمدت الولاياتالمتحدة، كما في كل مراحل حروب البلقان، التشدد والانذار. هكذا اصرت الادارة الأميركية، بعدما علمت بحاجة الادارة الصربية لدفع رواتب عمال مناجم الفحم الحجري الذين يوفرون الكهرباء للبلاد، أصرت عبر الكونغرس، على تجميد منح يوغوسلافيا مبلغ 50 مليون دولار كمساعدة اقتصادية ما لم تسلم ميلوشيفيتش لمحكمة لاهاي، واعطتها مهلة حتى 31 آذار مارس الماضي وهو اليوم الذي بادرت خلاله قوات الشرطة الى محاصرة فيلا الرئيس السابق. والراهن ان الموعد نفسه ليس بريئاً، فقد اختير ليتناسب مع احتفال قيادة قوات الأطلسي في أوروبا بمرور نصف قرن على انشائها. ذلك ان الحلف نشأ في العام 1949 لكن قيادته في أوروبا لم تنشأ إلا في العام 1951 وإذا كانت حرب كوسوفو في حزيران يونيو عام 1999 قد تمت في مناسبة اليوبيل الفضي للاعلان عن انشاء الحلف، فإن تسليم آخر الذين تصدوا له تم في التوقيت المناسب أيضاً وبما يؤكد سطوة هذه المنظمة في أوروبا والدور المستقبلي المرسوم لها على أبواب روسيا، لا بل في عقر دار حليفها الصربي - السلافي. وإذا كانت الولاياتالمتحدة قد أفرجت فوراً عن مبلغ 50 مليون دولار بعد اعتقال ميلوشيفيتش، وأكدت انها لن تعترض على حل مشاكل يوغوسلافيا مع صندوق النقد الدولي، فانها في المقابل أبلغت بلغراد انها لن تدعم مشروع ندوة للدول الدائنة ليوغوسلافيا ما لم تسلم هذه الأخيرة ميلوشيفيتش لمحكمة لاهاي. وذهبت اصوات اميركية الى أبعد من ذلك عندما أكدت ان الاختبار الأساسي للديموقراطية الصربية يكمن في تسليم الرئيس السابق الأمر الذي يتناقض مع الحسابات الداخلية الراهنة لكوستونيتشا ذلك ان التسليم الفوري من شأنه ان يبدو بنظر الصرب الذين يتمتعون باعتداد قومي مفرط، وكأنه اذعان لأميركا وللأطلسي وصفقة خسيسة وبالتالي يحدث صدمة نفسية مضادة حذرت شخصيات فرنسية من وقوعها وطالبت باتاحة الفرصة للصرب للاستجابة للمطالب الغربية وفق الايقاع الصربي، على حد تعبير رئيس الوزراء الفرنسي السابق ادوار بلادور. والظاهر ان التروي الفرنسي والأوروبي في هذه القضية، غلب على الالحاح الأميركي، فقد أكدت المدعية العامة في المحكمة الدولية في لاهاي كارلا دل بونتي انها تتطلع الى تسليم ميلوشيفيتش الى المحاكمة في موعد اقصاه نهاية العام الحالي، ما يعني منح الحكومة اليوغوسلافية مهلة ثمانية أشهر لتسوية هذه القضية بعدما تكون قد حققت قدراً من الانفراج الاقتصادي الداخلي بفضل المساعدات الغربية والأميركية، وبعدما تكون قد حطمت اسطورة ميلوشيفيتش القومية عبر اغراقه بعار السرقة والاثراء غير المشروع واظهار هزائمه العسكرية وربما تسليمه أخيراً بوصفه ورقة مستنفدة أو السماح بمحاكمته على الأراضي اليوغوسلافية بحضور قضاة من مختلف المناطق التي شهدت جرائم حرب في البوسنة وكرواتيا وكوسوفو. أما المشكلة الدستورية التي قد تعترض تسليم ميلوشيفيتش، فيعتقد المراقبون هنا بأنها غير معقدة، خصوصاً أن الحكومة أعدت قانوناً في هذا المجال وأن البرلمان سيناقشه في النصف الأخير من الشهر الجاري، علماً بأن اصواتاً أوروبية بدأت تطالب بالسماح بمحاكمة ميلوشيفيتش كمجرم حرب في بلاده وعلى أراضيها وبواسطة محكمة لاهاي نفسها الأمر الذي يشبه الى حد ما المخرج الذي تم تجريبه في قضية لوكربي. ويرى محللون فرنسيون ان كوستونيتشا لديه الآن فرصة ذهبية لتحرير بلاده من إرث حروب البلقان والقاء تبعاتها على ميلوشيفيتش وعدد من مساعديه، ويعتقدون بأنه يميل الى هذا الاتجاه ذلك ان محكمة لاهاي كانت تطالب بتسليم 70 مجرم حرب يوغوسلافياً، وهي تسلمت حتى الآن 46 منهم واصدرت أحكاماً بحق بعضهم وتواصل محاكمة بعضهم الآخر. واللافت ان بعض المجرمين القي القبض عليه بتواطؤ خفي من السلطات اليوغوسلافية نفسها الأمر الذي يوحي بأن هذه السلطات قد لا تتورع في الوقت الملائم عن تسليم الرئيس السابق ولربما تستبق ذلك بتسليم رادوفان كارادجيتش وراتكو ملاديتش. ان الرهان الغربي على ما يجري في يوغوسلافيا يتجاوز في عمقه قضية الرئيس الصربي السابق، الذي يظل رمزاً لمرحلة ماضية انتصر خلالها الأطلسي مادياً على آخر نظام ديكتاتوري في أوروبا، ويستعد اليوم لتتويج هذا الانتصار بصورة قانونية. فالولاياتالمتحدة تتطلع مع حلفائها الأوروبيين الى إحداث تغييرات جذرية في بنية النظام اليوغوسلافي، تمهيداً لاستئناف دوره الاستراتيجي في منطقة البلقان بما يتناسب مع الفضاء الأوروبي الذي ينزع الى الغاء الحدود ومواجهة النزعات القومية ومع الغاء الحدود دفن مشروع صربيا الكبرى الى الأبد فهل يستجيب النظام اليوغوسلافي؟ الجواب عن هذا السؤال ليس صعباً بنظر المحللين الأوروبيين الذين يعتقدون بأن الرئيس الجديد كوستونيتشا اختار انقاذ الصرب عبر الانخراط الأوروبي وهذا الخيار لا يتحمل انصاف الحلول، فالضغوط التي تتعرض لها بلاده والحصار الذي فرض عليها يهدد الصرب ليس فقط بلقمة عيشهم وانما أيضاً بمستقبلهم، واستجابته لسياسة العصا والجزرة الأميركية كما تبين في قضية ميلوشيفيتش، مؤشر لا يخطئ على الخيار المذكور، أما ميلوشيفيتش فلربما سهل مهمة الرئيس الجديد من دون أن يدري، عندما قرر مواجهة السجن بتهم جنائية، فقد يصبح "لص بلغراد" الأكثر شهرة في الفترة المقبلة قبل أن يتحول الى "مجرم البلقان الأول"، وفي الحالتين من الصعب أن يتحول الى ضحية وطنية الا اذا انهار الائتلاف الحاكم في بلغراد وهذا احتمال لا يرتسم حتى الآن في أي من السيناريوهات المعلنة في يوغوسلافيا والبلقان